في البحث عن الكاوبوي

فجر يعقوب

يبدو الفيلم التسجيلي ( البحث عن الكاوبوي ) الذي بثته مؤخرا فضائي الجديد اللبنانية استعاديا لمقاتيلن عاشوا على طرف واحد وجبهات الحرب المختلفة ، فلم يستقدم  المخرج المقاتلين الذين عاشوا على الطرف الآخر ، واكتفى بمقاتلين سابقين من الحركة الوطنية اللبنانية . هذا لا يعد بالطبع أمر سيء، أو يضير الفيلم ، ولكن كان مهما لنا كمشاهدين أن نتابعهم ، لنعرف آراءهم ومصائرهم ، وبخاصة أن المقاتلين الذين استضافهم عبّر بعضهم عن ندم شديد بخصوص مشاركاتهم في معارك لم تكن معاركهم بأية حال ، فكان لافتا مثلا أن نشاهد عقل حمية القائد العسكري السابق في حركة أمل يظهر ندمه على مشاركته بما سمي ب( حرب المخيمات ) ، وبخاصة أنه عرف عنه حينها تطرفه وغلوائه في حصار المخيمات الفلسطينية ( 1985 – 1987 ) ، وأغرق نفسه في ذكريات شخصية بعد مقتل أخيه علي في هذه الحرب الظالمة ، وأضاف بما يبدو مفاجئا لمتتبع سيرته بوصفه أميرا من أمراء الحرب الكثر  : ” الرئيس نبيه بري أخذ موقع الامام موسى الصدر ، وهو رئيسي ولولا ذلك لربطت له عند الأوزاعي “. بالطبع قدم لنا الفيلم صورا كثيرة لحمية مع رئيسه بري في زيارة أماكن مختلفة من العالم .
مهما يكن ، فإن فيلم ( البحث عن الكاوبوي ) لم يكن يعنى بالدرجة الأولى بانحناء هؤلاء المقاتلين ( الأشداء ) على ضمائرهم ، بغية تفحصها ، والاعتراف بما يمكن الاعتراف به ، لا راحة هذه الضمائر المثقلة بالدم والموت والخراب ، كأن يقول مقاتل سابق في حزب البعث العراقي إنه غير نادم البتة على قتله لمقاتيلن مثله وقد كتب على جداره عبارة بارانوية متشككة أنتجتها الحرب في بعض أوقاتها الصعبة ، وهو مازال متمسكا بها مثل غيره من الذين يتمسكون بذكرياتهم عن الحرب وعلاماتها المعقدة :” ممنوع دخول المخبرين وفهمك كفاية “. ربما تلخص هذه العبارة المستهلكة تماما المنبت الايديولوجي الذي قدم منه هذا المقاتل الشرس . في المقلب الآخر سوف يكون للموسيقي الشيوعي ، عازف العود اعترافات من نوع آخر . ربما الموسيقا هي من بدلته وقلبت حاله رأسا على عقب .  وهو وإن طالب حزبه بإيفاده إلى موسكو لدراسة الموسيقا ، وحصل على منحة عسكرية عاد بعدها ليصبح قائد مجموعة وهو يرتدي ملابس عسكرية سوفياتية ظل يرتديها على المحاور التي قاتل عليها ، واحتمى بها وغنى لها بصحبة عوده ، إلا أنه لاقى الصبية التي غيرت حاله نهائيا عندما اكتشفت حساسيته ورقته ومقدار ثقافته وعلمه وتزوجت به .

ثمة مقاتل متوار في العتمة هو وحده من كان يعرف ( الكاوبوي ) مقصد الفيلم عموما ، وهو من كان يرشد المخرج نحو ضالته . الكاوبوي الذي تعرف إليه مقاتلون آخرون ، وبعضهم سمع به ، فقد ذاع صيته ، ولم يكن قد بلغ الرابعة عشرة من عمره حين انغمس بملء إرادته في أتون الحرب المدمرة . الكاوبوي بحسب بعض الشهادات غير الواضحة مقاتل محترف تمكن من أن يستولي على فنادق ويتحكم بها من خلال عناصر منصاعة له بالكامل  . ومن هذه الفنادق استطاع ان يفرض ( الخاوة ) على الكازينوهات وأماكن التسلية  الأخرى التي شاعت أيام الحرب الأهلية اللبنانية.
بدا المخرج مشدودا تماما إلى شخصية الكاوبوي من خلال إعادة لعب دوره وارتداء  ملابسه المميزة بمشاهد تمثيلية غارقة بموسيقى الكاوبوي الشهيرة التي أغرقت أفلاما كثيرة حينها واشتهرت أكثر من الأفلام نفسها  . ثمة تفصيلات كثيرة أعيد استخدامها بطريقة فيها الكثير من التحنيط والتقليد . القبعة والمسدسين والجزمة التي تزينها النجمة عند الكعبين . لم يكن هناك إشارة إلى الكاوبوي اللبناني ، المقاتل السابق في صفوف الحزب التقدمي ، إلا من خلال هذا الزي الذي استهلكته أفلام من هذا النوع ، والذريعة الوحيدة التي أشار إليها المقاتل الآخر المتواري في الظل ، ويرتدي ذات القبعة تكمن في أن هذا ( الفتى المميز) وجد ضالته يوما في قبعة كانت تتدحرج أمامه ، وربما ارتداها لمرة واحدة ، وقد استمد لقبه من هذه الواقعة .أصبح الكاوبوي اللبناني أمرا واقعا . ولكن البحث عنه لم يأخذ منحى الإثارة التي كان يلهث المعد رياض قبيسي وراءها ، فقد بدا واضحا أنه يعرف مكان سكناه الجديد ، وإن ما يدور حوله من أسئلة لا يتعدى التمهيد للوصول إليه . فهو يسأل ذات المقاتل / الشبيه ، المقاتل المقلد إن جاز التعبير عنه ، فلا نعرف سببا لارتدائه ذات الثياب والقعود في الظل ، ليقدم شهادته عن سميّه الكاوبوي المفقود في لحظات بدت ثقيلة ، وبخاصة أن معظم المقاتلين الآخرين مثل شاكر البرجاوي ومحمد خريس وعقل حمية لم يكونوا معنيين في الفيلم بسيرة الكاوبوي الذي اتخذه الفيلم عنوانا له ، ومقصدا دراميا واضحا ، وهو ما زاد من البلبلة والحيرة في تتبع أثر هذا ( المقاتل الاستثنائي ) على الأقل بدا الأمر لنا كذلك ، ونحن نتابعه من خلال زميله الذي دأب على تقليده ومحاكاته ومكاشفته . هذه المكاشفة لم تأخذ الفيلم في الاتجاه الذي قصده المخرج ، وربما عرجت به باتجاه منحنيات درامية كانت تسمح بوجود عدة أفلام في نفس الوقت ، فالحرب الأهلية اللبنانية نبع لا ينضب ، وأفلام كثيرة حاكتها ، بعضها أصاب ، وبعضها لم يغادر فكرة المخرج الغامضة عنها .

البوح والندم الذي عاشه مقاتلون سابقون لا ينتمي إلى جسم الفيلم الأساسي الذي أراده المخرج . ربما ينتمي إلى أفلام أخرى كما أسلفنا ، فالخيط الذي يقودنا إلى الفتى الكاوبوي شابته تعرجات كثيرة والتواءات زادت من تشويش الفكرة الأساسية ، فالكاوبوي بنسخته الأصلية غادر إلى الولايات المتحدة الأميركية ، وهو يعمل حاليا في العقارات ولديه زوجة وولدين ، وتمكن المخرج من الاتصال به عبر الأنترنت ، ليبلغنا برسالته المجتزأة وغير المفهومة عن دوره في هذه الحرب . بدا كلامه غامضا ولا يملك فكرة واضحة عن المعارك التي شارك فيها . ربما لم يصلنا منه سوى هروبه بقصد النجاة ” حتى لا يلعب البعض على رأسي ” . هذا ما فهمناه منه ، ولتتبعه بعد ذلك مجموعة من الصور لفتى وسيم قد يستغرب البعض وجوده بين مقاتلين أشداء  وصور أخرى برفقة زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط .
لم يقل أحد عنه شيئا . البعض من المقاتلين سمعوا به ، أو تردد اسمه بينهم وهم يتسابقون في عمليات القتل ، وكأن الحرب لم تكن آفة في يوم من الأيام ، وأما المقاتل المتواري في الظل ، فلم يسعفه الضوءالقليل ليقول ، مايمكن أن يقال . ولم يسجل المخرج علامة تخصه ، حول ما إذا كان الكاوبوي مجرد رمز بائس من رموز الحرب المجنونة ، أو كان يقصد شخصا لا حول له ولاقوة ،  وهو ما أوقع الفيلم في اشكالية تتبع هذا الخيط ، بغية نسج الشبكة الدرامية المتوخاة لصناعة فيلم تسجيلي عن شخص بعينه .


إعلان