الأطرش : ذئب متشكك في الجبال والتاريخ
فجر يعقوب
يقدّم الفيلم الوثائقي ( سلطان باشا الأطرش ) الذي عرضت له محطة الجزيرة الوثائقية مؤخرا ” بورتريه “خاصا بالزعيم الوطني السوري الذي عاش ك ” ذئب متشكك الجبال ” ، بحسب جنرال فرنسي خصم كتب في مذكراته لاحقا .
الفيلم من اخراج السوري المقيم في النرويج هشام الزعوقي الذي يقدم هنا تجربة مختلفة عن تجاربه الروائية القصيرة التي عرف من خلالها مثل ( الباب ) و ( الغسّالة ) . في الفيلم الوثائقي يغادر الزعوقي حافة السرد الروائي إلى حافة مختلفة ، فيها تأجيج أقل تبسيطا لرواية سيرة فرد أثّر في حياة جماعات بأكملها ، مستجمعا من حوله شهادات مقربين وباحثين أكاديميين ، قيض له أن يلتقيهم في مسار تصويره واعداده للفيلم ، اذ يمكننا بعد ذلك أن نشهد دفقا في المعلومات التاريخية ، مع محاولات محاكاة بصرية للحجارة السود التي يتميز بها المكان ( جنوب سوريا ) ، وتلك الأيدي القابضة على البنادق ، أو حتى تلك المصفقة للأخبار الطيبة على ندرتها من حول الأطرش والاسرة الطرشانية .
ولد سلطان باشا الأطرش عام 1888 في بلدة القرّيا . وقد خاض أولى معاركه إلى جانب والده ذوقان ، فقد قاد الأب ابنه سنة 1896 باتجاه معسكر ممدوح باشا ، وكان سلطان حينها طفلا ، وقد دارت الأحداث من حوله بسرعة كبيرة، فقد خضع السكان لمكائد الدولة العثمانية حتى عام 1910 . وكانت تركيا حينها قد أعملت بطشا بالثوار ، وتمكنت من أسر ذوقان الأطرش واعدامه عام 1911 .
![]() |
المخرج هشام زعوقي |
يجمع الضيوف المختارون في هذا الفيلم إلى أن موت الأب اعطى للبيت السلطاني مكانة خاصة داخل الأسرة الطرشانية نفسها ، وكان قد سيق سلطان قبل ذلك إلى الآستانة لأداء خدمته الالزامية في الجيش العثماني كما كان يفترض حينها ، ولكنه استطاع دفع مبلغ من المال بغية اعفائه منها ، وعاد إلى جبل العرب بعد قضاء ثمانية عشر شهرا ، بعد أن علم وهو في الآستانة أن الأتراك قد أعدموا والده ، فقال متيقنا :” لقد أعدموا والدي ، وإن أعانني الله ، فسوف أقض مضاجعهم ، وبدل والدي سوف احرر وطنا “.
هذه كانت استراتيجية هذا الزعيم المستقبلي الذي عرض عليه في مراحل متقدمة تسليم سلاحه مقابل تأمين دراسة أولاده وبيت في القدس . لكنه نفى نفسه إلى الصحراء ليعيش تلك الرواية الوطنية المدهشة التي صنعت منه قائدا وطنيا كبيرا . والحق أن السياسة التركية المتشددة هي التي خلقت الأرضية المناسبة لمقاومة هذا الاستبداد ، فقد أدرك الأطرش أن السلطان عبد الحميد كان يملك جيشا من ” الوعّاظ ” للتفتيش عن اي خلاف نائم واثارته من جديد .
![]() |
سلطان باشا الأطرش |
هذا الكشف المبكر والجهر في تحصين الذات في مواجهة الشدائد التي تنتظر الوطن جعلته يصطدم بالملك فيصل عندما دعاه هذا الأخير لقضاء سهرة في البيت حضرتها وجوه دمشق والعشائر آنذاك ، فقد ألهب السهر رؤوس الحاضرين ، مادفع بسلطان إلى مغادرة الحفل بعد أن وجّه كلمات مزعجة للملك بقوله:” نحن نريد تشكيل دولة ، ولم يحن وقت اللهو بعد “.
أدرك سلطان باشا الأطرش بحدسه ان الملك فبصل لايريد أن يضّيع عرشه ، فعينه على أوروبا كمستقر نهائي ليضمن مستقبله . وبعد أن نجح فيصل في تشكيل حكومة في دمشق رفض سلطان أن يستلم أي منصب وعاد إلى مزاولة عمله في الزراعة ، وقد أخذ الخوف ينهش صدره من عدو مختلف تماما ، ففي عام 1920 دخل الفرنسيون سوريا ، ودارت معركة ميسلون الشهيرة بقيادة وزير الحربية آنذاك يوسف العظمة ، فماكان من سلطان إلا أن أرسل مجموعة من الأشخاص ، وعلى رأسهم حمد البربور وراء الملك فيصل الذي غادر سورية ، واستقل طرّادا بريطانيا من ميناء حيفا في فلسطين . وصلت المجموعة إلى الميناء في اللحظات الأخيرة وسلمت رسالة شفهية من الأطرش إلى الملك يدعوه فيها للعودة إلى جبل العرب ن على أن تثبت دعائم الشرعية فيه ، وتبدأ المقاومة من هناك . رفض فيصل العودة وقال للبربور :” سلّم لي على سلطان وقل له فات الآوان “.
جاءت اتفاقية سايكس – بيكو ل ” تخرب الدنيا ” ، فقد أرادت تقسيم سوريا وطنا وشعبا، وكان سلطان بحدسه الوطني المعافى يعارض هذه التقسيمات ، وحينها أدرك أن انذار غورو للملك فيصل بحل الجيش هو مقدمة لهذا التقسيم ، خاصة وأن الفرنسيين قاموا بلعب لعبة خبيثة تستهدف تقويض اقتصاد سورية ، عندما قاموا باصدار الليرة السورية وحصروا امتيازها ببنك سوريا ولبنان ، وهو تابع لفرنسا ، ومنع اثرها التعامل بالذهب ، وفرض التعامل بهذه ” الليرة الطارئة ” ، مادفع الناس إلى تبديل الليرات العثمانية الذهبية ، بالليرات الورقية ، ماجعل 60 % من الذهب السوري يذهب إلى الخزائن الفرنسية . وزاد من ذلك أن سلطان باشا الأطرش أدرك أن المستعمر الفرنسي سيدخل من باب الدين للتفرقة بين الناس ، فأطلق شعاره ( الدين لله والوطن للجميع ) ، وبخاصة أن فكرة تقسيم سوريا إلى دويلات أصبحت جاهزة على الخارطة : دولة دمشق – دولة حلب – دولة جبل العلويين – دولة جبل الدروز – سنجق اسكندرون – سنجق دير الزور .
![]() |
بدأ الزعيم الأطرش جولاته على القرى المحيطة بالجبل في عام 1925 ، وأخذ يعد العدة لمواجهة هذا المستعمر الجديد ، وحدثت معركة المزرعة الفاصلة عام 1929 ، وهي قد نقلت التمرد المحلي إلى الاطار الوطني العام الذي خطط له الزعيم السوري الكبير .
توفي سلطان باشا الأطرش عام 1982 عن 92 عاما . وهو ولد وترعرع وعاش في عائلة ليس لديها وقت للعواطف الشخصية ، وهذا ماقد يؤخذ على الفيلم عموما الذي عانى من ضعف في هذا الجانب ، فحتى أحفاد الزعيم الأطرش الذين تحدثوا عنه مثل جدعان وريم الطرش لم يقدما شيئا من العوالم الانسانية والجوانية لهذا القائد الكبير ، وجاءت شهادتيهما لتصب في المنحى التاريخي المعروف تماما .
عندما استشهد شقيقه في معركة المزرعة رفض التوقف عند دفنه ، لأن العواطف المستثارة لحظة الموت لامكان لها إبان المحن الكبيرة . وهذا ماأغفله الفيلم أثناء اعداده ، وكان بالامكان الالتفات لهذا الجانب بغية أنسنة هذا ” الذئب المتشكك ليس في الجبال وحسب كما ذهب خصومه ، بل وفي التاريخ نفسه ” .