عوالم المخرج البنغالي ساتياجيت راي
تخيّر “المتحف الوطني للفنون الأسيوية” في “باريس” بأن تكون الدورة السابعة لتظاهرة “صيف هنديّ” مُخصصة حصراً لأعمال المخرج البنغاليّ “ساتياجيت راي”، ورُبما لن أُضيف شيئاً جديداً عندما أستعيرُ بعض ما جاء في المُقدمة التعريفية المنشورة في الدليل الإعلاميّ، والتي كتبتها ـ على الأرجح ـ “مارتين أرمان” مُبرمجة التظاهرة منذ بداياتها عام 2004، وتخيّرت عنواناً واسعاً لها : “عوالم ساتياجيت راي”.
![]() |
ساتياجيت راي
وكلّ مُعجبٍ بأعمال هذا السينمائيّ المُلتزم بسينما مختلفة تماماً عن النموذج البوليوديّ المُسيطر، يعرف بأنه “حكواتيّ، مُصمّمٌ، وموسيقيّ”، وربما يتذكر أيضاً بأنه “تطرق ـ بشكلٍ ما ـ إلى كلّ الأنواع السينمائية رغبةً منه بأن لا يُكرر نفسه في أفلامه، وهكذا أنجز أعمالاً فيلميّة تُعتبر كلاسيكية، وأخرى حديثة” في البُنى السينمائية مقارنةً بفترة، ومكان إنجازها.
و”يُعتبر “ساتياجيت راي” وريث النهضة البنغالية التي تجسّدت عن طريق الشاعر، والروائي “رابيندرانات طاغور” الذي اقتبس منه “راي” عدداَ من القصص، كما أنجز فيلماً تسجيلياً عنه عام 1961، بالإضافة لأفلامٍ أخرى (The Inner Eye) عام 1972حول الرسام الفاقد البصر”بينود بيهاري موخرجي، و(Bala) عام 1976عن الراقصة “بالا ساراسواتي”.
ومع فيلم “مغامرات غوبي، وباغا”(Goopy Gyne Bagha Byne) عام 1968، ندخل في الممالك المُتخيّلة لفانتازياته الموسيقية الطريفة، وعوالم مجازية يتجسّدُ فيها هجاء السلطة، إدانة الحرب، وطغيان الديكتاتوريات.
تكشفُ أفلامه المُعاصرة عن نظرةٍ لا هوادة فيها، تشوبها روح الهزل أحياناً حول البطالة، الفساد، وافتقاد القيم”.
ويبدو لي، بأنّ الثقافة السينمائية العربية قدمت مقالاتٍ، ودراساتٍ عن “ساتياجيت راي” لم يتسنّى لمن كتبها مشاهدة عموم أفلامه، واقتصرت على الأكثر شهرةً منها، والمعروفة في الأدبيات السينمائية بـ”ثلاثية آبو”، أو دراساتٍ، و كتبٍ مترجمة.
وأتوقع، بأنّ الغالبية من هواة السينما لم يشاهدوا بعد أعماله كاملةً، حقيقة تستدعي التفات المُؤسّسات المهرجاناتية العربية إليها في برمجتهم اللاحقة.
وبانتظار خطواتٍ في هذا الاتجاه، أجدني ميالاً في هذه القراءة المُختصرة إلى الاقتراب من بعض أعمال “ساتياجيت راي” الأقلّ شهرةً.
***
يتكوّن فيلمه الأنطولوجي “ثلاث نساء” Teen Kanya -Three Daughters)ـ إنتاج عام 1961ـ من ثلاثة أفلامٍ مأخوذة عن ثلاث قصصٍ للشاعر الهندي “رابيندرانات طاغور”، كتب “ساتياجيت راي” السيناريو، وألف موسيقاه، وأخرجه، وهي مهامٌ رئيسية تطبعُ معظم أعماله .
![]() |
Teen Kanya
في الأفلام الثلاثة، تتجسّدُ الموسيقى، ودورها العضويّ في سينمات شبه القارة الهندية، والثقافات المُتعددة لسكانها.
في “مدير البريد” (The Postmaster)، تتكررُ فكرة الوصول إلى مكانٍ جديد، ومحاولة التأقلم معه، والرحيل إلى آخر، حيث يصل “ناندالال” من “كالكوتا” إلى إحدى القرى النائية للعمل في مكتب البريد، تتعلقُ به “راتان” خادمته الصغيرة اليتيمة الأبويّن، وعندما تعرف بأنه يهتمُ بالشعر، تتفاخر بأنها تغني، وهي نفس الميزة التي يتباهى بها أيضاً أحد الفلاحين من سكان القرية.
يجتمعُ الشعر، الغناء، والموسيقى، ويُشكل علاقةً روحيةً بين هؤلاء في تلك المنطقة المنعزلة عن المدينة الكبيرة، ولكنها لن تكون أبدية، حيث لا يتأقلم “ناندالال” مع العزلة، والخوف، يمرض، ويهتم به أهالي القرية، وترعاه الصغيرة “راتان”، ويبدأ في تعليمها، ولكن، قبل أن يترك مكانه، يُوصي الموظف الجديد بأن يكمل خطواته، ويرحل عن القرية مصحوباً بسخط الصغيرة، غضبها، وحزنها.
بدورها، تُعتبر حكاية القصص إحدى آليّات السرد في السينما الهندية بشكلٍ عام، ويعتمدُ عليها الفيلم الثاني “المُجوهرات المفقودة” Monihara (The Lost Jewels) التي يحكيها معلمٌ عجوزٌ يعمل في قريةٍ منذ سنواتٍ طويلة لعابر سبيلٍ يلقاه جالساً على درجات السلم بالقرب من النهر.
إنها حكايةٌ تتأرجحُ مابين الحقيقة، والوهم، كان المالك “فانيبوسان” يعيش في منزلٍ فاخر مع زوجته “مانيماليكا” التي تعشقُ المجوهرات، وتخاف بأن يفشل زوجها في العثور على مبلغٍ يعوض به خسارته، فتجمع مجوهراتها، وتهرب بمُساعدة أحد أقاربها، وبعودة الزوج، يتخيل زوجته تهيم في المنزل، وقد تحولت إلى شبح .
ويتضحُ في آخر الفيلم، بأنّ الرجل الذي كان يستمعُ إلى الحكاية هو نفسه الزوج “فانيبوسان”.
جملةٌ حواريةٌ واحدة توضحُ هذا الأمر ينطقها الرجل المُتخفيّ، ويمضي في طريقه، تتبعه دهشة المُعلم العجوز:
ـ لقد استمتعتُ بسماع القصة، ولكنّ بعض أحداثها غير دقيقة.
في الفيلم الثالث “الخلاصة”Samapti (The Conclusion)، يسترجعُ السيناريو فكرة العودة إلى القرية، “أموليا” طالبٌ اجتاز امتحانات الثانوية العامة في “كالكوتا”، ترغب أمه بأن تزوجه فتاةً اختارتها له، وفي بيت عائلتها، تتفاخرُ أمها بأنها تعزف الموسيقى، وتغني، ومن المُفترض بأنها إحدى الخصائص التي تمنحها قيمةً أكبر في نظر الخطيب المُحتمل، ولكن “أماليا” يحب الفتاة الشقية “مرينمويه” التي تعيش مراهقتها كما يحلو لها مثل الصبيان الصغار، ويعتبرها أهالي القرية مجنونة، ولكنه يتزوجها على الرغم من معارضة أمه، تهرب الفتاة من بيت الزوجية لأنه لم يحصل على موافقتها، ولكنها تعود بعد أن تأكدت من حبه لها، ومشاعرها نحوه.
لا تتخلى السينمات الهندية عن الجانب الموسيقيّ، والغنائيّ، أكان ذلك في السينما الجماهيرية، أو المُوازية.
ويرتبط الغناء، والرقص في الثقافات الهندية بجذورٍ دينية بهدف التقرّب من الآلهة، وإذا كانت القداسة تتجسّدُ غالباً في السينمات الهندية، يعتبر “الآلهة” (Devi)من إنتاج عام 1960 واحداً من نماذجها الساطعة، حيث تدور أحداثه في عام 1860، أيّ قبل مئة عام من إنجاز الفيلم في منطقة “شانديبور” في إقليم البنغال.
![]() |
Devi
الإقطاعي “كاليندار” يتراءى له في الحلم وجه زوجة ابنه “دويامورجيه” يتطابقُ مع وجه الآلهة ـ الأم كالي، ويعتقد بأنها تناسخت في جسدها، ينتشر الخبر في القرية، ويصدق الجميع هذا الاعتقاد، حتى الشابة نفسها التي ترفض الهروب مع زوجها “أوما براساد” إلى “كالكوتا، ولكن، بعد أن يمرض الصبيّ “كوخا” ابن أخيه، ولا تستطيع الزوجة/الآلهة شفاءه، ويموت، تنهار الاعتقادات التي صنعها الأب، ولكن، قبل ذلك، يتجسد الجانب الغنائيّ في الإنشاد الدينيّ الذي يؤديه رجلٌ فقيرٌ بعد أن وعد “دويامورجيه” بأن يُنشد لها طوال حياته إذا تمكنت من شفاء ابنه المريض، وبالصدفة، يشفى الصبيّ، وينفذُ الأبّ وعده.
الفيلم مقتبسٌ عن قصة لـ”برابات كومار موخرجي”، وهي مأخوذة بدورها عن فكرةٍ لـ”رابيندرانات طاغور”، وهو الفيلم الثاني الذي تمثله “شارميلا طاغور” بعد “عالم آبو” (Apur Sansar) عام 1959.
الفيلم التسجيليّ “بالا”(Bala) من إنتاج عام 1976 يرتكزُ بكامله على تيمة الرقص، والموسيقى مُسلطاً الأضواء على واحدةٍ من الراقصات الأكثر شهرةً في جنوب شبه القارة الهندية، تعرّف “راي” على فنها في عام 1935 عندما كان صبياً يبلغ 14 عاماً من عمره، وكان عمرها وقتذاك 17 عاماً، وبعد سنواتٍ أصبحت “بالا ساراسواتي” أعظم راقصة معاصرة للرقص الكلاسيكيّ الطقسيّ في جنوب الهند المُسمى “بهاراتاناتابام”، ولكن، لم يُنجز أيّ فيلم عنها حتى تذكرها “ساتياجيت راي”، وفي عام 1976 سافر إلى “شيناي” ـ مدراس سابقاً” والتقى بها، بعد أن أصبحت في الـ 58 من عمرها، فأنجز فيلماً عنها، وقدم درساً عظيماً من الحياة، والرقص.
يكشفُ الفيلم عن علاقةٍ وطيدة بين الموسيقى، الرقص، والديانات المُختلفة في الهند، حيث كانت الراقصات يعشن في المعابد، وترقصن بمناسبة الطقوس الدينية طريقةً للتقرّب من الآلهة التي يقدسونها، ولو دققنا النظر في تماثيل بعضها (براهما، شيفا، فيشنو، دروغا، كالي، غانيش، هانومان، ساراسواتي، لاكشمي، بارفاتي، غانغا، ….)، سوف نُلاحظ تشابهاً كبيراً في الجلسات، والأوضاع المختلفة لأيديها، وأقدامها، تكرارها، وتعددها، وكأنها كانت ترقص، وتوقفت فجأةً عند تلك الحالة.
وبدون الموسيقى، والغناء في فيلم “مغامرات غوبي، وباغا”(Gopy Gyne Bagha Byne) عام 1968 بالأبيض والأسود، والفيلم اللاحق “مملكة الجواهر” (Hirak Rajar Deshe) عام 1980 بالألوان، ما كان لهما أن يتحققا أصلاً، حيث هما الركيزة الأساسية للفكرة، الأحداث، والمضمون، وفي الفيلميّن يجمعُ البناء السينمائيّ أسلوب أفلام الطريق، والكوميديا الموسيقية الغنائية، وتتخطى الموسيقى، والغناء جانب التسلية، والترفيه، ويصبح دورهما جوهرياً، المُواجهة السلمية ضدّ الحرب في “مغامرات غوبي، وغابا”، والديكتاتورية في “مملكة الجواهر”، ولكنها في الحالتيّن دعوة للتصالح مع النفس، والآخرين.
يتضمّن “مملكة الجواهر” مشهداً ختامياً لا يُنسى، وفيه يشدُّ الأهالي بالحبال تمثالاً عملاقاً للمهراجا الديكتاتور الذي كان يحكمهم، ويشارك في تحطيم الصنم المهراجا نفسه، وحاشيّته بعد أن تمّ غسل أدمغتهم بواسطة جهازٍ اخترعه أحد العلماء/السحرة، وهو يُذكرنا حتماً بما حدث في “بغداد” مع تمثال الرئيس السابق “صدام حسين”، فكرةٌ فانتازية رُبما نحتاج إلى تقليدها.