أنيس صايغ والذاكرة المنسية
ناصر ونوس
ضمن السلسلة الوثائقية “بصمات” بثت قناة الجزيرة الوثائقية فيلماً بعنوان “أنيس الصايغ _ ذاكرة منسية” سيناريو وإخراج إيمان خضر، وهو عن المفكر الفلسطيني الراحل الدكتور أنيس صايغ (1931 – 2009)، وكان من حسن الحظ أن الفيلم أنجز قبل وفاته بقليل كما يبدو. وهو فيلم، من حيث النوع، أقرب إلى فيلم السيرة الممزوجة برصد مواقف الرجل تجاه القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها بوصفه واحداً من المفكرين المناضلين الذين كرسوا حياتهم لخدمتها.
يبدأ الفيلم بلقطة لنص اتفاقية أوسلو التي رفضها المفكر الراحل جملة وتفصيلاً، ووضع كتاباً عنها بعنوان “13 أيلول”، وخاض المعارك الثقافية والفكرية ضدها وضد “كل دعاة الهزيمة والاستسلام” من خلال إقامة تجمع للمثقفين الفلسطينيين المقيمين في لبنان والمستقلين عن المنظمات الفلسطينية والمؤمنين بقضية فلسطين. بعدها وعبر تقنية الفلاش باك تعود المخرجة لسرد سيرة حياة المفكر الفلسطيني بدءاً من ولادته في بلدة طبرية عام 1931 والتي عاش فيها حتى سن السابعة عشر.
وكانت تلك السنوات أجمل سنوات حياته كما يقول. بعدها وعلى إثر نكبة 1948 يهاجر الفتى مع عائلته إلى مدينة صيدا في جنوبي لبنان. وهناك، ورغم الفقر المدقع، يتفوق الأبناء السبعة في دراستهم لدرجة تثير الإعجاب، كما يعبر رياض نجيب الريس، أحد أصدقاء وزملاء أنيس صايغ.
يتحدث أنيس صايغ عن دراسته في الجامعة الأمريكية وكيف بدأ وهو مازال طالباً، بكتابة المقالات ونشرها في جريدة الحياة عندما كان كامل مروة يرأس تحريرها. بعدها يسافر إلى بريطانيا للحصول على شهادة الدكتوراه في جامعة كامبريدج. وكان ذلك في عام 1957 حيث الفترة هي فترة “التحولات الكبرى في السياسة العربية والتاريخ العربي” (حرب السويس، ثورة العراق، الوحدة السورية المصرية، تطور القضية الفلسطينية…) وهنا كان لأنيس صايغ وزملائه نشاطهم الثقافي والسياسي. بعدها يعود إلى بيروت ليواصل نشاطه من خلال مركز الدراسات الفلسطينية الذي أسسه أخوه فائز وترأسه أنيس من بعده.
![]() |
طبرية في الخمسينات |
وقد لعب هذا المركز دوراً كبيراً في التعريف بالقضية الفلسطينية ومواجهة الممارسات والسياسات الإسرائيلية. وما القصف الإسرائيلي الذي استهدف المركز لمرات ثلاث واستشهاد عشرة باحثين من أعضاءه إلا دليل على أهميته وخطورته على إسرائيل، بل إن رئيسه الدكتور أنيس صايغ تعرض لمحاولة اغتيال عندما انفجرت رسالة ملغومة كانت موجهة إليه أثناء فتحها، مما أدى لأصابته بأضرار في يديه وعينيه وأذنه. إن الاستهداف الإسرائيلي للمركز وصل إلى ذروته عام 1982 خلال اجتياح بيروت، حيث قام جيش الاحتلال بنهب محتويات المركز من كتب ووثائق وخرائط وصور نادرة لا تقدر بثمن. وهنا بدأت مساعي أنيس صايغ وبعض باحثي المركز (د. خيرية قاسمية) لدى عدد من المنظمات الدولية، لإعادة ما نهبه جيش الاحتلال. وقد أفلحت هذه المساعي والجهود في نهاية المطاف بإرغام إسرائيل على إعادة محتويات المركز. لكن ما الذي حدث؟ هنا يكشف أنيس صايغ عن أحد فصول الإهمال والعبث الذي كان يسم ممارسات منظمة التحرير الفلسطينية ممثلة برئيسها ياسر عرفات. فقد اتصلت إحدى الجهات بالرئيس عرفات مبلغة إياه باستلام شحنة محتويات المركز من ميناء أسدود الإسرائيلي. لكن عرفات أهمل الموضوع. (هكذا ببساطة)، وهنا تتوقف الصورة على أنيس صايغ عند انتهاءه من حكاية هذه الحادثة كي تثير لدى المشاهد كل علامات التعجب والاستفهام والاستنكار…. لقد أضاع عرفات ثمرة الجهود التي بذلها أنيس صايغ وزملاؤه الباحثون مع منظمة اليونيسكو والصليب الأحمر الدولي طوال ثمانية عشر عاماً.
ينتقل الفيلم لتناول موضوع آخر هو الموسوعة الفلسطينية. ليكشف أنيس صايغ عن فصل آخر من فصول الإهمال. فالموسوعة التي أشرف عليها الدكتور صايغ هي ثمرة جهد عربي وفلسطيني، وعمل فيها نحو مئتين وأربعين باحثاً من مختلف أنحاء الوطن العربي، واستغرق العمل في قسمها الأول نحو سبع سنوات، بينما استغرق القسم الثاني نحو خمس سنوات، وهنا يقول أنيس صايغ إنه عندما صدر القسم الثاني عام 1990 أخذ الموسوعة وذهب بها إلى تونس ليقدمها للرئيس عرفات وفق ما تعهد به له. انتظر الدكتور صايغ في مكتب عرفات لأكثر من ساعة، عندها حان موعد إقلاع الطائرة التي سيعود فيها إلى بيروت، فقال لمدير مكتب عرفات إن الموسوعة في التاكسي ولن يحضرها له وكتب له كلمة يقول فيها: “يبدو أن وقتك لم يسمح لك باستقبالي رغم أن هناك موعداً بيننا، وبالتالي لا أعتقد أن وقتك سيسمح لك بقراءة الموسوعة”. ثم يكشف كل من طلال ناجي، والدكتورة خيرية القاسمية، أن عرفات شن حملة ضد الدكتور أنيس صايغ بهدف وضع يده على الموسوعة الفلسطينية كونها كانت هيئة مستقلة ومشروعاً ناجحاً. وما كان من أنيس صايغ إلا أن يستقيل من رئاسة المركز. وهنا يقول عن عرفات إنه “عندما حاول أن يستولي على مركز الأبحاث وفشل، وحاول أن يستولي على الموسوعة وانتهت الموسوعة، كان قد استولى على مركز التخطيط، وكان قد استولى على كل مجلات منظمة التحرير الفلسطينية، وكل مؤسسات دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية، وكل مؤسسات دائرة التربية في منظمة التحرير الفلسطيني، وإلى جانب ذلك كان قد استولى على الصندوق القومي الفلسطيني، واستولى على جيش التحرير الفلسطيني”. ومع كلمات أنيس صايغ هذه المحملة بالأسى ينتهي الفيلم.
![]() |
الموسوعة الفسطينية..ابرز مؤلفاته |
لقد لجأت المخرجة إلى مختلف تقنيات بناء الفيلم الوثائقي من سرد لسيرة الرجل، ومقابلات معه ومع أصدقائه وزملائه، إلى الصور الأرشيفية، ومنها صور بالأبيض والأسود لبلدة طبرية، وللجامعة الأمريكية في بيروت التي درس فيها، ومن ثم جامعة كامبريدج حيث تابع دراساته العليا ونال درجة الدكتوراه، وصور لكتبه التي ألفها أو ترجمها، ولمركز الدراسات الفلسطينية الذي نهب جيش الاحتلال الإسرائيلي محتوياته من كتب وخرائط ووثائق، ومن ثم أحرقه أثناء اجتياحه لبيروت عام 1982.
هكذا كان فيلم “أنيس صايغ- ذاكرة منسية”، فيلم وثائقي يؤرخ لأحد أهم المفكرين المناضلين في تاريخ القضية الفلسطينية. مفكر نذر حياته كلها لخدمة هذه القضية .