الموجز في تاريخ السينما 3-3
عدنان مدانات
لم تفرز السينما الأمريكية عبر تاريخها الطويل المشبع بالأفلام الشهيرة أية تيارات أو مدارس سينمائية ذات منطلقات و طموحات فنية جمالية أو فكرية خاصة، لكنها أفرزت مخرجين أفراد موهوبين تميزوا برؤيتهم التقدمية وبمواقفهم الانتقادية سواء للأيديولوجيا السائدة ومؤسسات السلطة والشركات الكبرى أو للفساد الاجتماعي. ما ميز السينما الأمريكية بشكل عام و أساسي كان تصنيف الأفلام وفق أنواع ( مثلا: الأفلام البوليسية، أفلام التحري الخاص، أفلام الرعب، أفلام الخيال العلمي، أفلام الغرب الأمريكي، الأفلام الاستعراضية )، كل نوع منها ذو نمط محدد البناء الدرامي، وتطوير هذه الأنواع الفيلمية لتبقى محافظة على قوة الجذب الجماهيرية. وكل هذه الأنواع، تنتمي في محصلتها النهائية إلى ذات المدرسة السينمائية الهوليودية بأساليبها الإخراجية القائمة على الحركة الخارجية والتشويق والترفيه وبرسالتها الفكرية والأخلاقية.
سيادة الأنواع الفيلمية في السينما الأمريكية ذات البناء النمطي لا تعني بالضرورة، أن الأفلام الأمريكية جميعها كانت متشابه من حيث المضمون والطرح الفكري. فالسينما الأمريكية هي نتاج صناعة ثرية جدا ومتعددة الإمكانيات وبالتالي متعددة الفرص، وهذا ما سمح لبعض المخرجين الكبار، على مدى تاريخ السينما الأمريكية الطويل، ممن يملكون توجهات فكرية واضحة، من تحقيق أفلام تنتمي إلى الأنواع السينمائية السائدة، لكنها تتضمن فكرا مستقلا وموقفا معارضا. من النماذج الصارخة على الفكر المستقل والموقف المعارض، نموذج فيلم ” وقت الظهيرة ” ( عرف أيضا في الأدبيات العربية بعنوان ” الظهيرة العالية ” أو ” قطار الظهر ” ) للمخرج فريد زينمان، وهو فيلم، إضافة إلى كونه يربط زمن الحكاية بزمن الفيلم، فهو مصنوع على طريقة أفلام ” الويسترن ” ولكنه في مضمونه النهائي فيلم يتضمن موقفا سياسيا عبر حكاية عن شريف بلدة يتخلى عن دعمه سكانها الجبناء و يجد نفسه وحيدا في مواجهة مجرمين قادمين لقتله، وهذه الحكاية كانت ذات طابع رمزي واضح للدلالة على الأزمة التي عاشها فنانو هوليود اليساريين الذي تخلى عنهم الجميع ولم يدافع عنهم أحد عندما تعرضوا للاضطهاد في الفترة الماكارثية الشهيرة. كما أن سيادة الأنواع الفيلمية لم تمنع ظهور مخرجين متميزين لهم أسلوبهم الخاص ومواقفهم الفكرية الخاصة، مثل المخرج وودي الآن الأقرب من بين المخرجين الأمريكيين للتيارات السينمائية الأوروبية ومنها ” سينما المؤلف”.
![]() |
لكن الحديث هنا لا يدور حول الجهود الفردية لمخرجين أمريكيين كبار، على كثرة عددهم، بل عن تيارات ومدارس سينمائية فكرية أو فنية.
مقابل تلك التيارات والمدارس والحركات الفكرية الفنية السينمائية التي عمت العالم وتأثر بها حتى بعض كبار المخرجين الأمريكيين، كانت ” السينما المستقلة ” الحركة السينمائية الأمريكية الوحيدة التي خرجت عن طوق صناعة السينما الأمريكية الخاضعة لسيطرة كبرى استوديوهات هوليود. لكن ” السينما الأمريكية المستقلة ” لم تنشأ على أساس فكري أو جمالي ولم تتأسس كحركة واضحة الأهداف يقودها تجمع سينمائيين متآلف الرؤية.
رسميا بدأت هذه الحركة في أواخر الأربعينات من القرن العشرين عندما صدر في العام 1946 قرار قضائي بموجب قانون منع الاحتكار، يجبر استوديوهات هوليود الكبرى على بيع دور العرض التي تملكها، مما تسبب في تقليص أرباحها إلى حد كبير. وكان من نتائج هذا القرار ظهور نظام المنتج المستقل الذي يتكفل بكل عمليات الفيلم الإنتاجية ومن ثم تسليمه للموزعين ودور العرض. كانت بدايات الإنتاج المستقل تعتمد على إنتاج الأفلام بموازنة منخفضة. وقد شجع نجاح الأفلام المستقلة تجاريا ونقديا مخرجين آخرين على السير في هذا الطريق. من المخرجين الكبار الذين عملوا ضمن هذا النظام بشكل مبكر المخرج ستانلي كرامر والمخرج اوتو بيرمنغر، والاثنان عالجا قضايا اجتماعية وأخلاقية حادة. عالج كرامر قضايا العنصرية، وعالج بيرمنغر مشاكل الإدمان والاغتصاب والانتحار والشذوذ الجنسي. هكذا أدى نظام الإنتاج المستقل بالضرورة وبشكل تلقائي إلى إنتاج أفلام ” مستقلة ” من الناحية الفكرية عالجت مواضيع تمس الواقع والمشاكل الفعلية. ولم تخل أفلام أولئك المخرجين من تأثر بالتيارات السينمائية الأوروبية، وعلى الأخص بالموجة الجديدة في فرنسا وبتيار ” سينما الحقيقة ” وتيار ” سينما المؤلف “.
كانت السينما المستقلة تقوم على نوعين من النظام الإنتاجي. النوع الأول يستند إلى نظام المنتج المنفذ بتمويل من شركات الإنتاج الكبرى، وهو نظام أصبح شائعا في السينما الأمريكية والعالمية بشكل عام، أما النوع الثاني فيستند إلى نظام الإنتاج المستقل لشركات إنتاج صغيرة مستقلة ماليا وتنظيميا عن الشركات الكبرى أو يستند إلى جهد مخرج فرد يتدبر بطريقة أو بأخرى كلفة إنتاج فيلمه.
![]() |
انبثق عن النوع الثاني من ” السينما المستقلة ” تيار جديد في السينما الأمريكية أكثر استقلالية سواء من حيث النظام الإنتاجي أو من حيث حرية اختيار المواضيع التي تغوص في قاع المجتمع أو تعالج مواضيع شديدة الجرأة وتتضمن الكثير من الفكر الانتقادي وحرية تجريب الأساليب الفنية الحداثية التي تعكس بدورها تمردا على الأشكال السينمائية السائدة، عرف على نطاق واسع باسم ” سينما الأندر غراوند ” أو ” سينما ما تحت الأرض”. وهي سينما تعكس في جانب من جوانبها الوجه التقدمي الإنساني للسينمائيين الأمريكيين، مثلها في ذلك مثل بعض أفلام ” السينما المستقلة السابقة عليها. ومع أن ” سينما الأندرغراوند ” لم تستطع أن تنافس السينما السائدة تجاريا وشعبيا، فقد فرضت تحقق لها اعتراف خارجي وداخلي بتميزها ونالت نجاحا نقديا.
…
وفيما يخص السينما العربية نشير إلى أن السينمائيين العرب من جيل الشباب الطموح لم يتخلفوا عن ركب زملائهم السينمائيين من دول العالم المختلفة والذين سعوا لتأسيس تجمعات سينمائية مناهضة للسينما التجارية السائدة المبنية وفق مواصفات السينما الهوليودية ولكن بمستوى تقني حرفي متخلف نوعا ما.
كان التجمع السينمائي العربي الأول هو ” جماعة السينما الجديدة ” في مصر والتي أعلنت عن نفسها عبر بيان طموح يؤكد على ربط السينما بحركة الواقع. ومع أن الفيلمين الروائيين الطويلين الذين أنتجتهما الجماعة لم يكونا بمستوى الطموح، فإن مجموعة من الأفلام التي حققها بعض أهم أعضاء الجماعة، الذين حافظوا على مبادئهم السينمائية والفكرية وساروا على نهج طروحات” جماعة السينما الجديدة، شكلت الوجه المضيء للسينما المصرية في حقبة الثمانينات من القرن العشرين وحتى الآن.
وإلى حد كبير يمكن اعتبار حركة ” السينما البديلة ” التي انطلقت من دمشق في ربيع عام 1972 امتدادا لطموحات ” جماعة السينما الجديدة ” وخاصة أن الكثيرين من أعضاء تلك الحركة كانوا من المشاركين النشطاء في حركة السينما البديلة. أما الإضافة التي جاءت بها حركة السينما البديلة، بالعلاقة مع طروحات جماعة السينما الجديدة في مصر والتي أكدت على علاقة السينما بالواقع، فكانت التأكيد على أن هذه العلاقة مع الواقع يجب أن تستفيد من المنهج التسجيلي في السينما ومن تجارب السينما السياسية العالمية كي تصل إلى النتيجة المرجوة.