موسيقى، أصواتٌ، إيماءاتٌ، وممثلون
كريستيان فيفيّاني
ترجمة : صلاح سرميني
فقط، جهلٌ عنيدٌ ما زال يواصل الاعتقاد بأنّ الجانب الموسيقيّ في فيلمٍ هنديّ ليس أكثر من كرزةٍ تُزين قطعة الحلوى، ثقيلٌ، مُثيرٌ للقرف، وعسير الهضم بالنسبة للبعض.
في الحقيقة، إنه يقدم مادةً موسيقيةً ثرية، تخضعُ لاختباراتٍ جريئة أحياناً (المزج الذي قدمه “أ.ر. رحمان” أغلى مؤلفٍ موسيقيّ هنديّ، وفيلم “جودا أكبر” يمنحنا نشوة الاستمتاع بإبداعيته)، استمرارية الشعرية الغنائية، التي تشهد عليها أعمال “جافيد أختار”، وحيوية تقاليد راقصة من الضروري معرفة فصلها عن التأثير الغربيّ.
الجانب الراقص ليس مجرد غناءً سطحياً: إنه المساحة التي تتجسّدُ فيها الهوية بأفضل وجه، وهذه الخصوصية الثقافية ليست مرتبطة فقط بصفة “بوليوود” التي يرتكزُ خلفها وجهات نظرٍ تضع فيها كلّ شيء، وأيّ شيءٍ، ونقيضهما.
حيث نجد هذا الجانب الموسيقيّ في جميع سينمات الولايات الهندية، ولا يهرب منها إلاّ الأفلام التي تستوحي عمداً النموذج الغربي، مثل الأعمال الكلاسيكية لـ”ساتياجيات راي”، والأحدث منها، أفلام”ريتوبارنو غوش”، بنغاليّ مثل “راي”(Chokher Bali/2003، Raincoat/2004)، أو”ديبا ميهتا” في ثلاثية (نار/1996، أرض/1998، ماء/2005)، أو بعض الأفلام المعزولة، مثل : (Black/2004 لمُخرجه سانجاي ليلا بانسالي).
كما يجب الإشارة، بأنه، حتى وإن تخلى هؤلاء عن الطقس الغنائيّ/الراقص، إلاّ أنهم لم يتخلوا عن الموسيقى، وهي منذ تعاون “ساتياجيت راي” مع “رافي شانكار”، وحتى “ديبا ميهتا” مع “أ.ر. رحمان” تبقى عاملاً جوهرياً لخصوصية السينمات الهندية.
إذاً، لا يردّ الجانب الموسيقيّ على صيغةٍ واحدة، حتى وإن تواجدت في معظم الأحيان، ولكنها تتأقلم مع تقاليد هذا، أو ذاك.
“أشوتوش غواريكر”، وفيلمه “جودا أكبر” الذي يُعتبر بضخامته قمةً ثقافية، هو نموذجٌ لكثيرٍ من التحديات، ومستويات القراءة، كما الحال في Lagaan/2001، وبنسبةٍ أقلّ في Swades/2004، إنه يُعَشّقُ إخراجه الديناميكيّ جداً بعروقٍ موسيقية، نادراً ما يُعالجها بطريقةٍ تقليدية وُفق النموذج الهوليوودي، مع أنها مُسيطرةً على أيّ قادمٍ جديدٍ إلى السينما البوليوودية.
![]() |
في”جودا أكبر” ، وخلال ثلاث ساعاتٍ، ونصفٍ من العرض، لا يحتوي الفيلم أكثر من خمسة أغاني فقط، واحدةٌ منها )عظيمُ الشأن شاهنشاه،… عندما تتوافد الرعية لتحية الزوجيّن الإمبراطورييّن) خُصص لها معالجةً راقصة طويلة : ومن ثمّ، ينقطع المشهد في منتصفه عن طريق تبادل حوارٍ بين”جودا”، و “أكبر”، وفي النوتات الأخيرة لتلك الاحتفالية، يستعدّ مجرمٌ لاغتيال الإمبراطور.
كما أن المشهد الموسيقيّ الأكثر بريقاً، رقصة الدراويش، قصيرٌ بشكلٍ واضح، ولا يتخلى عن إطاره الواقعي.
أخيراً، يمكن أن تتوقف الأغاني بطريقةٍ مفاجئة، أو تنحلّ في الحدث.
يستمتعُ المتفرج بمُعالجةٍ موسيقية، غنائية، و/أو راقصة قابلة للانحلال في المُحتوى الدرامي في أيّ لحظة: لا يوجد أيّ نهايةٍ تقليدية، ولكن، يتداخل الغناء، والرقص في الحوار.
تأرجحٌ متواصلٌ بين العالم الخارجي، والداخلي، الظاهريّ، والحميميّ، الاندفاع، والتأمل، يؤكد التدفق الكبير للصياغة الدرامية الهندية.
من وجهة نظرٍ جمالية، يُعتبر الجانب الموسيقيّ عنصراً بنائياً لا غنى عنه، يجلب إلى السينمات الهندية المُتنوعة سمة تميّيزها بسهولة : الجانب الزمانيّ، التضاريس الجغرافية، وأداء المُمثل موزعة بمُقتضى منطقٍ عقليّ، وشعريّ، يستطيع أحياناً أن يتجاهل بروعةٍ الواقعية التي لم يتعوّد المتفرج الغربي عليها كثيرا.ً
الفيلم الأخير للمخرج” سانجاي ليلا بانسالي” بعنوان Saawariya/2007 هو اقتباسٌ من “الليالي البيضاء” لـ”دويستوفسكي”، والذي يدفع الأسلوبية إلى درجة مسح أيّ مؤشراتٍ واقعية (ويقترب نوعاً ما من اقتباس “لوكينو فيسكونتي” 1957)، ولا يقترح إلا ديكوراً حُلمياً، وهو، بلا شكّ، لا يوجد إلا في ذهن الشخصيات.
راديكالية هذا المبدأ الجمالي هو السبب ـ رُبما ـ في نصف الفشل التجاري، والفني للفيلم، والذي يخسر هكذا جزءاً مهماً من مؤشراته الثقافية.
![]() |
وتؤثر هذه الخصوصية الموسيقية على جمالية السينمات الهندية، وبشكلٍ خاص، أداء الممثل..
الترميز الصوتي، والراقص، يجعل من الصعب الاستغناء عنها، ولكن، لا يمكن أن تُنفذ بطريقةٍ متواضعة، وتفترض إذاً استخدام الممثل، والعمل حول شخصيته، وهو أمرٌ لا يتوافق مع ما هو متعارف عليه لدينا.
بداية، تنفيذ الجانب الموسيقيّ يمكن أن يُزيح الشخصية الرئيسية تاركةً مكانها لأخرى ثانوية، ونجد مثالاً على ذلك في المشهد الكلاسيكيّ من فيلم Dil Se/1998 لمُخرجه “ماني راتنام”، وبالتحديد الرقص فوق سطح عربة قطارٍ يشقّ طريقه وسط الحقول :
أغنية”chaya chaya”التي يؤديها” شاروخان”، الشخصية الرئيسية، ومغنية/راقصة مجهولة تختفي في المشاهد اللاحقة .
عدم استطاعة الشخصيتيّن النسائيتيّن الرئيسيتيّن في الفيلم” مانيشا كوارالا”، و”بريتا زينتا” إمكانية تنفيذ تعقيد التصميم الراقص في تلك اللحظة، لا يقدم إلاّ جزءاً من الجواب (فقد ظهرت “مانيشا كوارالا” في المشهد السابق، وكان بمقدورها أن تكون شريكة “شاروخان” في ذلك المشهد) : الراقصة، بدون اسم، ولكنها كانت حاضرة بقوة، تشير إلى الاستعداد العاطفي للشخصية الذكرية.
في”جودا أكبر”، يُجسّد غناء الدراويش التوائم مهمة التنفيس عن الحالة الروحية للإمبراطور “أكبر” والذي لا يشارك في الرقص إلاّ متأخراً، ويؤدي ـ بالكاد ـ بعض الخطوات بحركةٍ سينمائية بطيئة.
إذاً، يتأكد لنا بأنّ الغرض هو إنشاء عنصر بسيكولوجي حميميّ بمُقتضى صياغةٍ درامية مختلفة، وليس مجرد احتراماً تجارياً لموقع النجومية.
ولكن، هناك أهمّ من تلك الظاهرة التبادلية، أو الاستعاضة، فالممثل الهندي هو بنفسه موضوع تشكيل: عندما ينتقل من مرحلة ممثلٍ بسيط، وتتحقق له شهرةً واسعة، يصبح مخلوقاً سينمائياً.
وقد منهجَ السينمائيّون الغربيّون نادراً هذا السياق، ويُعتبر “فيدريكو فلليني” حالةً خاصة، جسّدها في معظم الأحيان، على سبيل المثال، تشكيل “كازانوفا” بدءاً من “دونالد سوثرلاند”، وبمُساعدة جبهة، وذقناً، وأنفاً مُصطنعة، وصوتاً مُستعاراً من الممثل الإيطالي “لويجي برويّتي”.
في الهند، هي طريقةٌ مُعتادة، بعد أن أصبحت ضرورية لمُحصلةٍ مُرضية للصياغة الدرامية الخاصة بهذه السينما.
ولنتحدث عن التفاصيل الأكثر اصطناعية، استخدام، أو عدم استخدام الشوارب، أو النظارات للرجال، أو أيضاً عينيّ “أشواريا رايّ”، مرةً كستنائية، ومرةً أخرى زرقاء فاتحة بمُقتضى الأدوار.
ومن المعروف بأنّ الصوت يخصّ البديلة، وهي في بعض الأحيان مشهورة بما يكفي، وحتى أكثر من الممثل الذي تُعيره صوتها.
![]() |
وهكذا، فإنّ الأسطورة” نرجس” (Mother India/1957 لمُخرجه” محبوب خان”) كانت، ومنذ نجاحاتها الأولى في نهاية الأربعينيّات، تستعير الأسطورة أيضاً “لاتا مانغشكار” : جسدٌ (يتشكل غالباً عن طريق الإكسّسوار)، وصوتٌ، مرتبطان مباشرةً، خالقان شخصية سينمائية لا يقتصر وجودها على دورٍ، أو فيلم واحد.
في بعض الأحيان، يُفضي تكوين المخلوق السينمائي إلى منزلقاتٍ مُدوّخة في اللاوعيّ : في Pyaasa/1957 لمخرحه” غورو دوت”، فإنّ “غيتا دوت” زوجة المخرج، والشخصية الرئيسية للفيلم، تدبلج بصوتها الدور النسائي “وحيدة رحمان” والتي أحبها المخرج خلال التصوير .
وقد دبلجت “غيتا دوت” نفس الممثلة في الأعمال الذاتية المُتفردة لـ”غورو دوت”، “أزهار من الورق”(Kaagaz Ke Phool)/1959، ولكنها رفضت دبلجة “وحيدة رحمان” في Sahib Bibi Aur Ghulam /1962 والمُوقع باسم “أبرار ألفي”، ولكنه عملياً من إخراج”غورو دوت”) عندما أصبحت علاقة زوجها مع الممثلة معروفة.
الأسلوبية الخاصة بالسينمات الهندية، والاستعانة الدائمة بالاستعارة، تجعل الممثل الهندي يُولي أهمية خاصة للوضعيات الجسدية، والحركات الراقصة.
ولا يقتصر هذا الأسلوب المُنمّق على الجانب الموسيقيّ فقط، ولكن، ينتشر بشكلٍ مُوحد في المراحل المُختلفة للبناء القصصي.
يمكن الإشارة إلى مقارنةٍ بليغة، من جهةٍ لتجسيد نموذجنا الغربي، عملية التزيين تحت ضوء القمر لـ “أوغ جاكمان” في “أوستراليا” (باز لورمان2008)، ومن جهةٍ أخرى، من أجل النموذج الهندي، التدريب على المُبارزة بالسيف لـ “هيرتيك روشان” في فيلم “جودا أكبر” .
“باز لورمان”، و”أوغ جاكمان” يمنحان المشهد، عن طريق الحركة السينمائية البطيئة، انكفاءً هزلياً بمُسحةٍ جادة، بينما “أشوتوش غواريكر”، و”هيرتيك روشان” يلعبانها في المستوى الأول، حول الشهوانية الجسدية، بدون أن ينشغلا حقاً بردود الأفعال المُحتملة للمتفرج الغربي الذي ملّ من ملذاتٍ كهذه.
نقطة إبطاءٍ هزلية عندهما، ولكن تشظي جسداً ثابتاً في سلسلةٍ من الأوضاع عن طريق المونتاج، و”أشواريا راي” الزوجة العاشقة تختلس النظر إليه، بينما في “أوستراليا” هناك إشارةٌ إلى الجماليات الإعلانية.
في”جودا أكبر”المشهد بدون موسيقى (لا يوجد غير مؤثرات التدريب) تمّ معالجته، وأدائه بمُقتضى المبادئ المعمول بها في المشاهد الغنائية، والراقصة.
القدرات الإيمائية، والأوضاع الجسدية للممثل، يمكن دعمها عن طريق المونتاج، بشكلٍ عام، “شاروخان”، و”هيرتيك روشان” يهتمان جيداً بهذا الجانب من شخصيّتهما السينمائية، أكان ذلك في الرقص، أو الحركة البسيطة، كما كان يفعل قبلهما “راج كابور”، والذي استخدم غالباً الإيماءات الحركية لـ”شارلي شابلن” كنموذجٍ له.
ولكن، في الفترة الكلاسيكية لسنوات الخمسينيّات- السبعينيّات، اعتمد “ديليب كومار”، وفيما بعد “أميتاب باشان” على إمكانيات المونتاج ليُشاركا بنشاطٍ أكثر في المشاهد الراقصة.
عملية التشكيل، ووضعية الجسد تشغل الممثلات أيضاً، وعلى سبيل المثال، في الفيلم الغير الموسيقي Chokher Bali، نجد “أشواريا راي”، ومن وقتٍ لآخر، تُعدّل طرف الساري الذي ينزلق من فوق كتفها بمزيجٍ من التلقائية، والفخامة المدروسة التي يشير إليهما ديكوباج الفيلم.
وتصفعنا “نرجس” بجمالها المنحوت لحركاتها (طريقتها في السموّ على صعوبة الأعمال التي تؤديها في زراعة الأرض من خلال تركيز صوري في فيلم Mother India يتسجل في قلب مشهدٍ يجمع بين واقعية الحالة، وأسلوبية الفقرة الغنائية)، ومع ذلك، تنمحي أمام جسد راقصة باليه خلال مشاهد رقص خالصة.
البعض أصبحن ممثلاتٍ بفضل إمكانياتهنّ الاستثنائية على الرقص، مثل”مادوبالا” في الفيلم الرائع Mughal-e-Azam (من إنتاج عام 1960، وإخراج K. Asif حيث الموضوع، والعظمة الملحمية تُذكرنا بفيلم “جودا أكبر”).
ولكن، أقلّ تواضعٍ في التصميم الراقص لا يؤدي إلى نتيجةٍ على مستوى عالٍ، فإنّ براعة الإخراج تُوازنه، وتجعله مقبولاً، كما الحال في مشهد الرقص المُنفرد لـ”نيمي” وسط أجراس المعبد من فيلم Amar/1955لمُخرجه”محبوب خان”.
ويمكن الإشارة إلى حالةٍ متطرفة، تلك الخاصة بالحلوة جداً “مينا كوماري” : كانت الذروة عاطفية أكثر منها درامية في Pakeezah/1971لمُخرجه “كمال أمروحي”، هي رقصة معقدة، ومنجزة عن طريق الخليلة التي تؤدي دورها.
كانت الممثلة تُعاني من مرضٍ خطير، وغير قادرة على مواجهة تصوير ذلك المشهد الصعب، وأُستعيض عنها ببديلةٍ غطت وجهها بحجابٍ يرتبط بمُحتوى المشهد، وماتت “مينا كوماري” بعد فترةٍ قصيرة من العرض التجاري للفيلم، ولكنّ ذكراها ظلت مرتبطةً عند المتفرج بتلك الرقصة التي لم تؤديها بنفسها.
بدلاً من عزل الجوانب الموسيقية الخاصة بالسينما الهندية، سوف يكون ـ بلا شك ـ أكثر دقةً الحديث عن البُعد الموسيقيّ، من خلالها، فإن أشكالاً سينمائيةً متنوعةً تجد وحدتها في استخدام الغنائية، والأسلوبية.
فقد تمّ التفكير بالديكورات، الملابس، المونتاج، وأداء الممثلين،.. في علاقتها مع هذا البعد.
وهو ليس مجرد ثقلاً إضافياً، أو زخرفة باروكية، ولكنه عنصرٌ جوهريّ ضروريّ.
*عن مجلة Positif الفرنسية، العدد577- مارس 2009(صفحة 98-100).
* كريستيان فيفياني : ناقدٌ سينمائيّ فرنسيّ.