السينما المستقلة في مصر..إنتصار حقيقى
القاهرة – سهام لطفى
لقد أثبت حصول الفيلمان، “حاوى” ” إخراج إبراهيم البطوط على الجائزة الكبرى فى مهرجان ترابيكا فى الدوحة، و”ميكرفون” من إخراج أحمد عبد الله على جائزة التانيت الذهبى فى مهرجان قرطاج السينمائى الدولى، ومنذ أيام علي جائزة أفضل فيلم عربى فى الدورة الرابعة والثلاثون من مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، أن السينما المستقلة هى التى تستحق البقاء، وجديرة بأن تكون هى السينما الحقيقية، وان الإستمرار فى حصد الجوائز فى مهرجانات سينمائية فى العالم ، ما هو إلا دليل على قدرتها على الإستمراية، بفضل مخرجين، يحملون علي أكتافهم معارك أفلامهم مع الرقابة.
إنتصارالسينما المستقلة فى الفترة الأخيرة فى مصر، كان حصيلة عشرة أعوام من التجارب السينمائية الصغيرة والغير تقليدية.. كبرت وإتسعت مع إتساع طموح شباب يحلمون بخلق سينما مختلفة وجديدة بعيدة عن شروط السوق ..
وخلال تلك الفترة إستطاعت السينما المستقلة – بفضل مخرجيها- إثبات قدرتها على تخطى الخطوط الحمراء من خلال طرح أفكار وموضوعات، فى الغالب ما يكون صعب التطرق لها فى السينما الأخرى – وهى السينما التجارية- أمام رقابات المجتمع المختلفة.
قد يكون ذلك، هو نتيجة للمعارك الكثيرة التى خاضها ولا يزال يخوضها مخرجين السينما المستقلة مع الرقابة، وإصرارهم على الدفاع عن أفلامهم، التى قد يعتبرها اليعض – أفلاماً غير شرعية – فى السينما، لتحررها من هيمنة المنتج والموزع، وخروجها عن الاطر المعروفة فى طرحها للقضايا والأفكار، والتى غالباً ما يراها البعض بدون رقابة، لذلك قد يظل الصراع والصدام دائم بين الرقابة والسينما المستقلة.
وفى العشر سنوات الأخيرة ، أصبح مفهوم أو تعبير السينما المستقلة، هو أحد المصطلحات السينمائية المتداولة ، بين السينمائيين الشباب – خاصة ممن يطمحون فى صناعة أفلام بأقل تكلفة.. لذلك بات لمفهموم هذه السينما، أسلوباً ليناً، والدليل فوز الأفلام فى الكثير من مهرجانات السينما فى العالم، وإنتصار ثلاثة أفلام – أنجزوا تحت عباءتها- حصلوا علي الكثير من الجوائز فى مهرجانات سينمائية فى العالم، وتم عرضها فى دور العرض السينمائية فى مصر وهما “عين شمس” إخراج إبراهيم البطوط، و”بصرة” إخراج أحمد رشوان، و “هيليوبوليس” إخراج أحمد عبد الله…
وربما كان تخطى حاجز الغير مألوف فى الأفلام المستقلة – ذات الإنتاج المحدود- جعلها تتميز بموضوعاتها وأفكارها – التى قد تبدو للكثيرين صادمة- لكن هذه الأفلام أصبح لها تواجد كبير فى المهرجانات، وأصبح الحديث مثل الطرق على أبواب ظلت مغلقة ومسكوت عنها طويلاً، على الاخص فى الأفلام الروائية القصيرة..فمثلا فيلم “راجلها” والذى يعتبر أول أفلام مخرجته أيتن امين فى الأفلام الروائية القصيرة، كان واحداً من الأفلام التى أثارت جدلاً عقب عرضه للمرة الاولى عام 2007، لأنه يضم مشهد سحاق بين زوجة وضرتها، كذلك الفيلم الروائى القصير “أحمر وأزرق” إخراج محمود سليمان، ويتعرض الفيلم للعلاقات الجنسية غير الشرعية بين شاب وفتاة، تخشى أن تكون قد حملت أثناء المعاشرة بينهما.
| ||
وتظل هناك العديد من النماذج، التى نجحت فى خلق دائرة – تكاد تكون قد إقتربت من الإكتمال السينمائى والإنتصار لوجودها- من الألفة التى إعتاد عليها البعض، من خلال مشاهدته لأفلام غير تقليدية، أحياناً تكون صادمة مثل الفيلم الروائى القصير “السنترال” – والذى يعتبر أول فيلم روائى قصير لمخرجه محمد حماد، والذى حصل مؤخراً على ثلاثة جوائز هامة عن فيلمه القصير “أحمر باهت”، فقد واجه “سنترال” عاصفة رقابية شديدة، بسبب الألفاظ الخارجة والإباحية التى تضمنها الفيلم علي لسان بطلته، فهو يرصد حكايات مجموعة من الناس يترددون علي سنترال خاص فى احد الأحياء الشعبية، يكشفون فيه عبر مكالماتهم التليفونية عن حياتهم الجنسية بلغة واقعية وجارحة، لم تقدم بهذه الطريقة من قبل فى الأفلام المصرية…كذلك نجد فيلم “الجنيه الخامس” إخراج أحمد خالد، من الأفلام التى أثيرت حوله زوابع رقابية فهو يحكي عن شاب وفتاة يدفعان جنية زائد عن أجرة الأتوبيس المكيف ليمارسا علاقة جنسية في مقاعده الخلفية.
وهذه الأفلام، كانت قد سبقتها تجارب سينمائية أخرى، فى بداية الالفية الثانية، وتحديداً عندما بدأ يظهر تيار السينما المستقلة، ومن بين تلك التجارب عام 2003، بل وأهما فيلم “نظرة إلى السماء” إخراج كاملة أبوذكرى، وهو فيلم مأخوذ عن قصة قصيرة للأديب إحسان عبدالقدوس بعنوان “رسالة إلى الله”، الفيلم يدور حول فتاة صغيرة تربطها قصة حب مع شاب فى مثل عمرها، يراها عمها على كوبرى قصر النيل مع حبيبها فيشى بها إلى والدها، مما يضطر الفتاة تحت الخوف إلى القسم على المصحف بأنها لم تكن على الكوبرى، وتعيش الفتاة أياماً من الخوف أن يصيبها الله بالعمى عقاباً لها على القسم الزائف، ولكن العم هو الذى يتعرض لحادث ويفقد بصره!( الفتاة تظهر فى الفيلم محجبة).
وفى العام التالى، أثار الفيلم الروائى القصير “الأسانسير” إخراج هديل نظمى، ضجة كبير بسبب تطرقه لموضوع الحجاب والحب أيضاً، والفيلم كان بمثابة مشروع تخرج لمخرجته من ورشة نظمتها شركة “سمات”، والفيلم يدور حول فتاة محاصرة داخل مصعد يتعطل، تأتيها مكالمة خطأ من شاب لا تعرفه، ويغازلها الشاب فتجاريه أملاً فى أن يأتى لمساعدتها، أو لتضييع الوقت، إلى أن يتم إصلاح الأسانسير، وقد تعرض الفيلم لحملة اتهامات ظالمة ، ولم ينقذه سوى أن الفيلم كان قد شارك فى المهرجان القومى للسينما فى عام 2005، وحصل على الجائزة الأولى لأفضل فيلم روائى قصير.
ولا أحد يغفل تجربة المخرج مراوان حامد، فى فيلمه الروائى القصير “لى لى” عام 2000، والماخوذ عن قصة ليوسف إدريس ويدور حول شيخ جامع شاب يستجيب لغواية جارته الحسناء. يوسف إدريس هو أحد الكتاب المفضلين لمخرجى الأفلام المستقلة أفضل من عبر عن الحياة الجنسية السرية المسكوت عنها للطبقات الشعبية والفلاحين فى مصر.
وهناك أفلام روائية قصيرة اخرى، خلقت تميزها من واقع ما تطرحه مثل فيلم “بيت من لحم” إخراج رامى عبد الجبار، والماخوذ عن قصة ليوسف إدريس، ويدور حول شيخ أعمى يتزوج من أرملة شابة ويضاجع بناتها العانسات الثلاث، وفيلم “أكبر الكبائر” للمخرج يوسف هشام، ومأخوذ أيضا عن قصة بنفس الإسم ليوسف إدريس، والتى تتشابه إلى حد كبير مع “بيت من لحم”، لكنها تدور فى الريف، حيث يتحول شاب فحل “أهبل” إلى زير نساء للزوجات المكبوتات.
![]() |
من فيلم بصرى ومن ميكرفون |
وفى المقابل، يظل دائما صناع السينما المستقلة، يدافعون عن أفلامهم، والتصدى لعبارة زائفة هى “الإساءة لسمعة مصر”، على إعتبار أن أفلامهم تقدم صورة سيئة ومشوهة عن مصر، وهو ما حدث مع المخرجة تهانى راشد، عندما قدمت فيلمها الوثائقى “البنات دول” والتى رصدت فيه وللمرة الأولى فى السينما حياة بنات الشوارع فى حى المهندسين، وفى ذاك الوقت، شارك فيلمها ” البنات دول” فى الكثير من مهرجانات السينما فى العالم أهمها مهرجان كان السينمائى الدولى، وحصد العديد من الجوائز، وهذا ما يثبت فشل تلك العبارة السابقة.
من الظلم أن نزعم ان كل الأفلام المستقلة لا تشغلها هموم مجتمع منهك ومتهالك مثل مصر، فهذه الأفلام تخلق معاركها تلقائياً، نتيجة ما تطرحه من أفكار وحقائق، فى الغالب تخشى – بل تخجل- السينما الأخرى من المساس بها، فالسينما المستقلة يعتبرها كثيرون إبناً غير شرعياً للسينما المصرية..
لم تقتصر معارك الأفلام المستقلة مع الرقابة على الأفلام الروائية القصيرة فحسب، فقد كانت هناك معارك اخرى يواجهها مخرجى السينما المستقلة، خاصة صناع الأفلام الروائية الطويلة، فى سبيل خلق مساحة لأفلامهم هذه وسط عفونة سينمائية، فلا أحد ينسي الإنتصار الذى حققه الفيلم الروائى الطويل “عين شمس”، وهو اول افلام مخرجه إبراهيم البطوط الروائية الطويلة، بعدما نجح فى عرض فيلمه فى دور العرض التجارية فى مصر، والذى كان قد صوره بكاميرا ديجيتال إتش دى وقام بتحويله إلى سينما..فلم يكن إنتصار الفيلم صدفة، وقبول الرقابة وجهات التوزيع بالسماح له بالمرور سهلاً، ففوز الفيلم بجوائز مثل جائزة لجنة التحكيم فى قرطاج العام الماضى، وأفضل فيلم فى مهرجان تاورمينا، اكسبه ثقلاً، ورد إعتباره امام كثيرين ممن حاربوه وعلى رأسهم رئيس الرقابة السابق، علي أبوشادى..
وربما إدراكنا بقيمة وتجربة فيلم “عين شمس”، هو ما جعل العجلة تدور، وتفرز تجارب سينمائية اخرى، جادة ومميزة، ولديها القدرة علي منافسة أفلام بتكاليف هائلة وتحصد الجوائز، رغم انها أفلام لا تصل تلكفتها أجر نجم من شباك التذاكر فى الوقت الحالى..
فمثلا فوز فيلم “ميكرفون” للمرة الأولى بالتانيت الذهبى فى مهرجان قرطاج السينمائى الدولى، كان الصفعة التى طالت صناع السينما فى مصر، والذين إعتادوا أن يهرعون خلف النجم والقصة المستهلكة والميزانيات الضخمة، فالفيلم يعتبر ثانى أفلام مخرجه أحمد عبد الله الروائية الطويلة بعد “هليوبوليس” – هو أيضا ينتمى للسينما المستقلة- أنجزه بأقل التكلفة، وقام بتصويره بكاميرا فوتوغرافيا – 5 D- ، كذلك فيلم “حاوى” – إخراج إبراهيم البطوط- هو أيضا تم تصويره بأقل التكاليف، لكنه حصل أيضاً على منحة إنتاجية لتحويله سينما وغيرها من التجهيزات الأخيرة للفيلم من أماكن تدعم هذا النوع من السينما مثل معهد الدوحة للسينما، وأروما، ومهرجان روتردام..وما يجمع الفيلمين، هو الإعتماد علي فكرة الإرتجال فى النص السينمائى، والتخلى عن نظرية النجوم، فالفيلمان، لا يوجد بهما ممثلين محترفين، ممثلين غير معروفين، بإستثناء تجربة فيلم “ميكرفون” والذى شارك فيه خالد أبو النجا، لمجرد إيمانه بتجربة السينما المستقلة، ومشاركته فى إنتاج الفيلم.
لقد استطاعت السينما المستقلة فى مصر أن تكسر الكثير من الحواجز والتابوهات خلال السنوات الماضية، والأهم أنها نجحت فى الانتشار والتواجد المكثف فى كل مكان ومهرجان .