“الحافة” و “وراء السهوب” بمراكش: نقد الستالينية

مراكش: قيس قاسم
الروسي “الحافة” والبلجيكي “ما وراء السهوب” أشتركا في تناولهما لمرحلة الستالينية وممارساتها خلال الحرب العالمية الثانية. وبقدر مختلف سعى الفيلمان لقراءة  نقدية  لمرحلة مهمة من تاريخ أوربا شهدت صعود النازية وشنها حربا عالمية، خرجت منها مهزومة، في المقابل تعزز موقع الاتحاد السوفيتي ،المنتصر، وتعززت معه هيمنة ستالينية على مستوى الحياة الداخلية وسياسته الخارجية. والفيلمان أشتركا في اتخاذهما مناطق النفي القسري مكانا لتفاعل أحداثهما الدرامية، فكانت سيبيريا موقعا جديدا للمعتقلين الروس في المانيا، والذين رحلوا بعد تحرير الجيش الأحمر لهم إثر زحفه على الرايخشتاع في قلب برلين. وبدلا من معاملتهم كضحايا للنازية وجهت لهم تهم الخيانة الوطنية والتعاون مع العدو بشكل تعسفي، ودون إدانة قضائية، فرحلوا، تحت ذريعة اعادة تأهيلهم سياسيا الى سيبيريا، ذلك المنفى الذي اعتادت السلطات الروسية على مدى تاريخها ارسال المعارضين لها اليه، لينساهم الناس ويموتوا هناك في الأصقاع البعيدة والمتجمدة، التي ظل الوصول اليها يوصف أدبيا بالرحيل الى حافة العالم حيث لاشيء بعدها وهنا يكمن الترميز في عنوان الفيلم “الحافة”. حالة المنفيين نفسها تحمل مفارقة صارخة في داخلها، فبدلا من الاحتفاء بعودة أبناء البلد الذين اعتقلهم هتلر بالإكراه، عاد الروس بدورهم ليعاملومهم بمثل ما عاملتهم به النازية فقامت بإعتقال الكثير منهم، وجلهم من النساء، ثم رحلتهم الى هناك، مثلما رحل الكثير من السياسيين والمدافعين عن روسيا وأبطالها، وهنا تتجلى المفارقة السياسية بكل أبعادها. ف “إنيات” (الممثل فلاديمير ماشكوف) عامل السكك والميكانيكي البارع قد “نقل” الى قرية التأهيل السياسي ليس بوصفه من أسيرى روسيا عند الألمان ولا لكونه متخاذلا، بل على العكس من هذا، كان من بين الجنود الشجعان الذين دافعوا عن البلاد، ولكنه نفي الى هناك لأنه عارض سياسة ستالين وديكتاتوريته. في القرية التأهلية اشتغل ألكسي يوشيتل على شريطه بإسلوب فيه الحركة كانت واضحة الى جانب وجود عناصر المدرسة الروسية الواقعية الحريصة على نقل تفاصيل المشهد، ليصل أحيانا الى حد مطابقته للواقع، ولهذا ف”الحافة” يتوزع على أكثر من مستوى خطابي بصري، يميل ثقل كل مستوى منها حسب المشهد الواحد، فحين تكون هناك الحركة نجد المشهد قد أخذ بعدا كوميديا وحين يغلب السرد السياسي، يغلب معه الايقاع البطيء وعلى هذا المنوال بقينا نتابع عمل  ألكسي يوشيتل، المكتوب بطريقة جيدة لكون حكايته مركبة وأبطاله يتفاعلون مع تفاصيلها بشكل فعال. ومع غلبة الحضور النسائي – حيث أكثر المنفيين الى هذة القرية من النساء-  فأن وصول “انياب” وبوجوده ظهرت التناقضات السياسية والقومية على السطح وكشف المأزق الذي عاشته البلاد وآثار ما تركته الحرب على ناسها. فالنساء كن يعشن في مستوى حياتي بائس، فكل شيء معتمد على وجود قاطرة واحدة، وبضع عربات كانت تنقل لهن الأطعمة القليلة وعليها يتوقف مصيرهن.

مجيء “البطل المنفي” خلق معادلة جديدة داخل “المجتمع النائي” من خلال علاقته الندية بالضابط المشرف وإحساسه بالتفوق الوطني إزاء النساء الموجودات وهن بالطبع روسيات، رغم أن الجميع منفيون، ولهذا نشأت علاقات انسانية مع كل هذا التشابك والتنافر، ذهب الفيلم بعيدا في تجسيدها عندما قدم لنا، وفي منتصفه، شابة ألمانية كانت تسكن قبل الحرب مع أهلها هناك وحين نشبت اضطرت للهروب الى الغابات المحيطة بالمعسكر. وجودها هناك لأكثر من أربعة أعوام جعلها كائنا منعزلا وحشيا وحين التقاها “انياب” بدأت ملامح علاقة انسانية تتشكل، فتعاونا سوية لتصليح قاطرة كانت مهمولة وسط الغابة، ثم تطور الأمر لدرجة قرر فيها البطل الروسي مساعدتها، وهي الألمانية (الممثلة أونيوركا ستريشل)  للخروج من هذا المنفى. في “الحافة” يطرح يوشيتيل موقفا نقديا أزاء السياسة الستالينية التي قسمت البشر وفق موقفهم السياسي، وكيف انه استغل النزعة القومية الروسية المنتشية بالنصر الى وسيلة للإنتقام من المعارضين له سياسيا. من تلك المنطقة وعلى صغر المجتمع الطاريء فيها أستطاع “الحافة” الوصول الى مكامن صراع استمر لعقود وسمي بالحرب الباردة. فمن تلك الممارسات ظهرت الفردية السياسية والدغوماتية. وعلى المستوى الإنساني أخذ “الحافة” تفاصيل صغيرة وبنى عليها موقفا. فالمنفية الروسية صوفيا (يوليا بيريسيلد) وفي لحظة خروجها من السجون الألمانية وجدت طفلا وسط الدمار فأخذته معها. لقد قالت عنه انه “غنيمة حرب” ولكن مع الوقت صار ابنا حقيقيا لها الألمانية فيما صارت ترى في الروسي بطلها المتخيل، والناس تعارضوا فيما بينهم ولكن الاحساس بالعدالة كان كافيا ليوحدهم، وفي ذات الوقت أو بدرجة قريبة كان الانتماء القومي يوحد الجميع ضد الشابة الألمانية. “الحافة” وعلى تباين مستوى معالجته يبقى فيلما مهما جيد الصنعة مس موضوعا حساسا كما فعل مثله “وراء السهوب”.

حكاية المنفيين البولونيين
 أخذت المخرجة البلجيكية فانيا دالكانتارا في فيلمها “وراء السهوب” البولونية نينا (الممثلة أنيشكا كروكوفسكا) نموذجا لألاف من المبعدين البولونيين، الذين عارضوا الوجود الروسي على أرضهم، فكان مصيرهم النفي الى سيبيريا. لقد عاشت نينا حياة هانئة مع مولودها الجديد وزوجها الضابط البولوني، ولكن ومع وصول الروس تغير كل شيء، لقد وجدت نفسها فجأة بعيدة عن وطنها وحيدة ليس معها سوى طفلها الرضيع منفية في احدى التعاونيات الزراعية في الأرض المتجمدة المتاخمة لأراضي كازاخستان حيث البدو الرحل هم كل ما يصل الى تلك القرية النائية الغارقة أكواخها في محيط من الثلوج. من خلال وجودها وبقية النساء المنفيات نقل لنا “وراء السهوب” الأهوال التي كان تعرض لها المنفيين الى سيبيريا من الشعوب غير الروسية. اعتمد العمل كثيرا على أداء بطلته، وظل محصورا بها، وبحركتها الضيقة التي تجاوزتها لفترة وجيزة هي فترة ذهابها للحصول على دواء لإبنها المريض بمساعدة الكازاخستانيين، الذين كانوا أرحم كثيرا من الجنود ومراقبي المعسكر.

 في مناخ درامي وكثير الحساسية جرت أحداث الفيلم بل وطبع به، لدرجة بدا فيه قريبا في بنائه الى الميلودرامات السينمائية، مع ضعف في مستوى الحوار والسيناريو، لكونه اعتمد بشكل كبير على المباشرية في نقده للتجربة دون الاعتماد على جودة الصنعة، طبعا باستثناء أداء بطلته. وعلى مستوى القراءة التاريخية لم ينقب الفيلم في تفاصيل العلاقة التي ربطت الروس بالبولونيين وبذات القدر ما تركته هذة الاجراءات التعسفية على المجتمعات “المحررة” وربما المشهد الأخير الذي جمع نينا بزوجها قد أدى جزءا من هذة الوظيفة الدرامية حين ظهر الإثنان وكأنهما غريبان عن بعضهما بعدما فرقهما الزمن طويلا وأضاع منهم وليدهم الرضيع. الفيلمان في النهاية توافق عرضهما في المسابقة الرسمية لمهرجان مراكش الدولي وتقارب موضوعيهما ولكن درجة ومستوى المعالجة له جاءت مختلفة وبدرجة كبيرة.    


إعلان