الوثائقي الجزائري من مرحلة النضال إلى تجسيد الهوية
ولدت السينما الجزائرية في أحضان الثورة التحريرية و تأسست على قواعد مدرسة الفلم التسجيلي الوثائقي. بعد انطلاق حرب التحرير في 1954 تحتم على التنظيم الثوري أن يوظف كل الوسائل لتحديث أساليب المقاومة و مجابهة الدعاية الاستعمارية الفرنسية التي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر على مستوى الأدب والفنون التشكيلية والصحافة والتي صنعت صورة سلبية تعكس الجزائري على أنه متخلف و محدود الذكاء و لابد من تمدينه. كتب فيكتور هيغو” إنها الحضارة التي تدوس الوحشية، انه شعب مستنير يلتقي بشعب في الليل ، نحن إغريق العالم علينا تنوير العالم” .. إن الصورة السلبية المفبركة تجسدت بقوة بعد ما استطاع “الإخوة لوميار” أن يخترعوا آلة التصوير في1895 وانجاز ثمانية أفلام في تجاربهم الأولى على أرض الجزائر إلى غاية اندلاع الثورة أول نوفمبر 1954 . تحول الاستشراق من الصورة الثابتة إلى الصورة المتحركة موجه ليس فقط للفرنسيين وإنما كذالك للأوروبيين لتبرير الاستعمار. ولكن هذا لا يمنعنا من أن نعتبر هذه المرحلة جزءا من الرصيد التجريبي السينمائي الجزائري الكولونيالي ولا يجوز أن نمر عليها مر الكرام، لقد فتحت أبواب الاكتشاف المعرفي السينمائي للجزائريين.
يعتبر كل من الفيلم التسجيلي الوثائقي”اللاجؤن” في 1956 لسيسيل دي كورجيس والذي كلف صاحبه سنتي سجن وفيلم “الجزائر تحترق” للفرنسي روني فواتيي في سنة 1957، البداية الأولى للأرضية السينمائية التسجيلية في الجزائر. ثم بعد ذلك خرج إلى العالم فيلم “كفاح الجزائر” الذي ساهم في تفسير القضية الجزائرية للرأي العام الفرنسي خصوصا في صفوف التيار التقدمي الاشتراكي إلى جانب مجموعة من المبتدئين السينمائيين مثل جمال شدرلي ومحمد الأخضر حمينه وأحمد راشدي.
![]() |
جمال شدرلي
لابد أن نفرق بين الأعمال التي أنتجتها خلية الإنتاج السينمائي لخدمة الثورة التحريرية دعائيا والأعمال التي قام بها بعض الأجانب مثل بيار كليمون الذي حكم عليه بعشر سنوات سجن بعدما سجل ما جرى من جرائم قام بها الجيش الفرنسي في” ساقية سيدي يوسف” في 1958على الحدود الجزائرية التونسية واليوغسلافي لابيدوفيش الذي رافق التنظيم الثوري في أعقد مراحله بعد تأسيس الحكومة المؤقتة وسجل كل النشاطات السياسية والميدانية.. ثم فرانك بيرتون الأمريكي الذي سجل بشجاعة التقتيل المباشر للجزائريين بالمناطق النائية وغير موقف الأمريكيين إلى جانب الثورة الجزائرية. إن التنظيم الثوري أكد على ضرورة الصورة والصوت في الكفاح المسلح لتحرير الأرض من الاستعمار الغاشم والمستبد الذي اغتصب البلاد والعباد وفي ظل هذه الظروف المتشعبة أنشئت أول خلية سينمائية تسجل كل ما يدور في أرض المعركة تحت إشراف محمود قنز وريني فوتيي مباشرة بعد مؤتمر الصمام في 1956.
بعد ذلك أنجز محمد الأخضر حمينه فيلما وثائقيا خياليا بعنوان “يسمينه” الذي لا يزال تحفة تكشف عن عظمة الثورة الجزائرية. ثم استطاع بيار شولي وزوجته كلودين مع جمال شدرلي ومحمد الأخضر حمينه أن ينجزوا فلما تسجيليا حمل اسم “جزائرنا” لتقدميه أمام جمعية الأمم المتحدة في 1960 تحت مسؤؤلية محمد اليزيد الذي كان يترأس قسم الإعلام في الحكومة المؤقتة والذي لعب دورا هاما في التعريف بالقضية الجزائرية.
![]() |
أما الفلم السينمائي الخيالي الطويل فيعود إلى فترة الاستقلال مع الفيلم التاريخي “معركة الجزائر” للمخرج الايطالي التقدمي جيلو منتيكورفو ثم “الليل يخاف من الشمس” لمصطفى بديع (1965) و”ريح لأوراس” لمحمد الأخضر حمينه في 1966 و”التحية يا ديدو” لمحمد زينات في سنة 1971 و”ريح الاوراس” إلى جانب ” وقائع سنين الجمر” الذي نال السعفة الذهبية في 1976 في مهرجان “كان” الدولي و”سقف وعائلة” لرابح الاعراجي في 1982 وغيرها من الأفلام التي عبرت بقوة عن الشخصية الثقافية الجزائرية النضالية وبناء المجتمع الجديد.
لم تعرف هذه الفترة الاهتمام بالفلم الوثائقي إلى غاية بداية التسعينيات من القرن الماضي عند رجوع البعثة الأولى من المخرجين الاختصاصيين من روسيا(الإتحاد السوفييتي سابقا) و من بينها المخرج عز الدين مدور في أواخر الثمانينات من القرن العشرين والذي أخرج رائعة “استعمار دون إمبراطورية” تناول فيها موضوع المقاومة في المجتمعات التي تكافح من أجل الاستقلال ومنها المجتمع الجزائري كنموذج حي للثورة. وقد عمل مدور في المؤسسة الوطنية للتلفزيون الجزائري وأنجز عدة أعمال سينمائية تسجيلية تتناول واقع الحياة الاجتماعية والثقافية وله أعمال فنية تدخل في خانة الفلم الخيالي المطول مثل “كم أحبك” و”الحروب الصليبية الجديدة” ، “أسطورة تيكلات” حيث يمزج الأسلوب الوثائقي للوقائع بالخيال وأخيرا “جبل باية” الذي جسد فيه قوة المرأة و شجاعتها الأمازيغية وطبيعتها المقاومة.
ظهرت كذلك بعض الأسماء التي أعطت نفسا جديدا للفلم الوثائقي على غرار إبراهيم اتساقي في “أطفال الريح” و”حكاية لقاء” و مزيان يعلا والعربي لكحل في عمله الفني السينمائي الوثائقي “المقاومة بالجنوب الغربي” و بالقاسم حجاج الذي “تميز بفيلم “امرأة تاكسي” حيث نكتشف الواقع من خلال الخيال.
ويمكن القول إن التجربة السينمائية في الجزائر تعيش عموما مرحلة انتقالية حاسمة، لا يمكن فصلها عن التغيرات السياسية والاقتصادية الكبرى التي طرأت على البلاد. فقد استطاع تيار العولمة أن يجعل من هذه الصناعة أداة في تحديد مفهوم الحضارة وفرض آليات الممارسة تربطه بالوعاء الثقافي الأوروبي وخصوصا بعد القطيعة التي عاشها المجتمع الجزائري في أواخر الألفية الثانية من القرن الماضي نتيجة العنف الذي اكتسى كل المساحات العمومية وأدى إلى تهجير الكثير من الفنانين و المبدعين المثقفين نذكر على سبيل المثال مالك بن إسماعيل ومرزاق علواش و غيرهم . إن النظم السياسية لم تواكب بصفة جدية الفعل السينمائي في ظل مطرقة أحادية النظر والتخلف السياسي الفكري لدى الطبقة الحاكمة التي تخشى كشف التناقض بين الأقوال والأفعال.
معلوم أن الفلم الوثائقي يتعامل مع واقع الأحداث والظواهر سواء كانت من الماضي أو الحاضر، فهو يعكس حتما جزء من الحقيقة أو كل الحقيقة بالارتباط النسبي مع عدة عوامل ذاتية وخارجية. معظم الأعمال الفنية السمعية البصرية الناجحة مؤخرا قد تمت على مستوى الإنتاج المشترك مع البلدان الأوروبية، باعتبار أن التمويل المالي يشكل السكة التي تقود إلى فردوس الإبداع الفني السينمائي ثم عامل حرية التعبير الذي لا يقل أهمية في انجاز الصورة المتحركة وخير دليل على ذالك الفلم الوثائقي “الصين لا تزال بعيدة” . كما ظهرت في الآونة الأخيرة أسماء مخرجين و منتجين وأعمال لا تقل مهنية عن مثيلتها في الضفة الشمالية رغم الصعوبات والحواجز التي تقف في طريق الانجاز. فنلاحظ دخول المرأة إلى ساحة معركة الإبداع مثل دراوي صبرينة بفيلمها “قوللي” أو فاطمة الزهراء زموم بعملها “الزهر” فقد تميز كلاهما بالأسلوب الخيالي في تركيب الواقع.
![]() |
من فيلم المقاومة في الجنوب الغربي الجزائري للعربي لكحل
لقد انتقل الفلم الوثائقي الجزائري من مرحلة الجمود إلى مرحلة الحراك وتغير شكلا ومضمونا ولم يعد يستنسخ جملة الوقائع كما هي وإنما يوظف الخيال ومفردات فنية أخرى للتعبير عن هذا الواقع بجميع تناقضاته. ويعتبر المخرج العربي لكحل من المبدعين السينمائيين الذين ينطلقون من وعيهم الثقافي معتمدين على وسائلهم المادية والمعنوية الخاصة للحفاظ على استقلالهم. لقد قام مؤخرا بانجاز عمل يمكن أن يكون عبرة للجيل الجديد وهو ” المقاومة بالجنوب الغربي” رغم بعض النقائص في التعامل التقني الإخراجي الدرامي وهو لا يبتعد كثيرا عن العمل السابق” تاريخ المناجم الجزائرية من 1830 1962 ” حيث يتناول المبدع موضوعا تاريخيا اجتماعيا سياسيا. ويتمثل جهد المخرج في تجسيد الهوية الثقافية الاجتماعية. فابتعد عن المفهوم العام التقليدي للفيلم “الوثائقي” المنحصر عادة في إطار السلوك النخبوي. لقد كان موجها إلى الجمهور العام. ثم إن قدرة المخرج على بناء القصة التاريخية مكنته من التوظيف الموضوعي لسرد الأحداث مستعينا بأسلوب الفيلم الخيالي المطول مما أعطى للصورة بعد آخر.