(عسل ): التحلل من آفة الكلام

            فجر يعقوب

( عسل ) للمخرج التركي سميح كبلان أوغلو افتتح به مهرجان دمشق الماضي ، وسبق له أن حظي بالدب الذهبي في برلين في شباط 2010 ، متقدما بذلك على فيلم بولانسكي ( الكاتب الشبح ) ، وهو بلاشك يستحق هذه الجائزة ، بغض النظر عن ” جحافل ” الأوصاف والتسميات التي ألصقت بهذا المخرج البولوني الفرنسي الأميركي ، وهي كلها هويات فائضة عن قيمتها في مجال تقييم أفلامه انطلاقا من  فيلم التخرج الشهير ( شخصان يحملان خزانة ) ، حين قدر لنا أن نشاهده في المعهد العالي للسينما في صوفيا . لم يكن فيلما مهما أبدا ، ولكن شاءت الأقدار أنه منذ عام 1959 ، وحتى يومنا هذا لايزال هذا المخرج يأخذ  الكثير دون وجه حق وآخرها جوائزه السبعة في مهرجان الفيلم الأوروبي في تالين ، حتى أن طلابا كثر قاموا بتقليد فيلمه هذا في معاهد كثيرة للسينما حول العالم ، فصرنا نشاهد شخصا يحمل بابا مثلا ، أو شخصين يحملان بيانو ويخرجان من البحر ويدوران في الشوارع والأمكنة على غير هدى ، وعندما “يزهقان ” يعودان ثانية إلى البحر . هذه هي رسالة فيلم التخرج ، التي حفظناها في أفلام كثيرة ولم تعد تثير في أحد الرغبة بالتخرج أو التفرج على قصص من هذا النوع تطلع علينا بين الفينة والأخرى ، وحسنا فعل أوغلو في مهرجان برلين الماضي بأن أقصى بولانسكي وكاتبه الشبح عن الجائزة البرلينية ، مايعني بشكل أو بآخر ، بأن هناك سينمائيون كبار قادمون ويتشكلون من هويات مختلفة لم تعد حكرا على هذا الثالوث الذي يتشكل منه بولانسكي نفسه. قد يطلب منّا البعض أن ندخل في صلب الموضوع مباشرة ، ونبتعد عن الدوران في اللغة الذي تتشكل منه معظم مقالاتنا ، وهذا مالا نفهمه حقيقة ، لأنه كما يمكن لهذا البعض أن يدافع عن التجريب في السينما ، نجده يقف متحجرا أمام التجريب في اللغة ، وهذا نحيله إلى الوعي الرث الذي تتشكل منه هذه اللغات البطيئة الساكنة التي يضطر هذا البعض إلى امتلاكها قسريا بحكم تعدد ” مغامراته ” في الحياة ، وهي تخشى روح المغامرة والتجريب تحت ذرائع كثيرة ، أبسطها ، أن السينما التي نكتب عنها جميلة ولكنها لا تستحق كل هذا العناء وهذا التجريب .

 

يوسف

مايفعله سميح كبلان أوغلو في ( عسل ) لا يخرج عن هذا التجريب في الصورة ، وهو شقيق للتجريب في أي لغة ستكتب عنه مستقبليا . لأن فيلمه يقيم في المستقبل ليس بمعنى البحث عن مشاهد مستقبلي غير متوفر الآن ، بل بمعنى دفع ذائقة المتلقي نحو استظهاره وتغليب الدفق الصوري فيه على ماعداه من سكون ويقين مخرب تتشكل منه ذائقة ولغة ( نقاد كثر ) . إذا كان ( عسل ) من نوعية من الأفلام التي قيض لها منذ تشكل أول كادر فيه ، وحتى تشكل آخر كادر ، ينتمي للّغة السينمائية المتأججة في الصمت ، فالأولى البحث في علامات هذا الصمت الدلالي الحر ، بدل الانكماش اللغوي الناجز تحت دوافع كثيرة منها إقصاء هذه العلامات بذريعة الوضوح والدخول في القصة من دون لف أو دوران كما يطالب البعض المتنكر . في الحق لايمكن الكتابة عن ( عسل ) وفق هذا الوعي الرث ، لأنه فيلم ينتمي إلى وعي بصري مختلف ، وذائقة متخمرة لايمكن افسادها بكلمات من هنا وهناك تحت طائلة نقد سكوني متعسف ، لأن مايتيحه لنا هذا الفيلم من لغة متبصرة تضعه في الطليعة دائما ولاتشكك بماقاله عنه ناقد  ألماني متمرس لحظة منحه الدب الذهبي من كونه ” فيلم قريب جدا وبعيد جدا “. هل يعني هذا أننا بتنا قاب قوسين أو أدنى من تقويمه بالرغم من التهليل الذي قوبلت به كلمات الألماني ؟  لانعتقد ذلك ، فالفيلم عموما ، ومن إشاراته لايمنح وسام استحقاق لتدرجات الصمت .

يوسف وابوه يعقوب

 

إنه يبحث عن الخفوت في الصوت الانساني ، لاعن تردادته الفيزيائية التي يخبرنا بها الطفل يوسف ابن جامع العسل ، ولو كان الأمر كذلك لقلنا إن ( الرؤيا ) التي يحدث أباه ( يعقوب ) عنها تحيلنا مباشرة إلى رؤيا  ( النبي يوسف ) . ولكن هنا ليس هناك إخوة من أبيه وأمه ليغارون منه ويغدرون به ويلقون به في الجب ، وما طلب الأب له بأن لايبوح برؤياه أمام أحد  إلا بروفة للتدرب على الصمت النهائي ، لأن اخوته ” رمزيا ” موجودون معه في المدرسة ، ولابأس من اختراع الفأفاة للنجاة حين يمكن ذلك ، وهذا هو سر الفيلم الذي رأى فيه البعض عجزا في حل اللغز الذي يدفع بالصبي تدريجيا نحو الصمت النهائي ، وهو المصاب أساسا بعاهة في امكانية النطق السليم ( الديسلكسيا ) ، أي التلعثم الحر وغير الموجه الذي يمنعه من نيل ميدالية استحقاق يقوم المعلم في الصف بتوزيعها يوميا على زملائه تشجيعا لهم على القراءة واللفظ السليمين ، وهو ما لا يجيده يوسف ، وما يتوجب عليه هو التجريب في منحى آخر ، فمادام سيفشل في نيل وسام الاستحقاق ، فعليه أن يتدرب على الصمت النهائي ، حين لاتنفع تهجئة الكلمات ، وهذا ماتفعله السينما الجسورة حين تخرج عن نمطية السرد ، وقد تفعله بعض الكتابات  حين تتوازى معها في تجريب لايقل جسارة عنها لعبور جسر الصور والكلمات الصعبة ، وهذه وظيفة متبادلة  ، لايمكن الفصل بينها أو الاقتصاص منها ، كما حال بعض من ذهب في تقويمه للفيلم في تتبع انتشاء يوسف بالصمت الذي يلفه ، ويلف حياته مع أمه وأبيه ، حتى حين يأسرنا أوغلو بمشاهد الأب وحصانه منذ اللحظات الأولى ، فإنه لايقوم  سوى بنصب الفخاخ في طريقنا نحو بقية القصة التي سنكتشف أن نهايتها في الحقيقة تكمن هنا ، فالأب المبهور بجمع العسل ، وليس المشغول به ،هذه من أسرار هذا الفيلم الممتع والكبير، من باب تشكل حياته بالكامل منه ، يتسلق شجرة ويربط حبلا بغصن ، لكن هذا الغصن سينكسر ، وسيقع الأب ، لكننا لن نشاهده يقع ، فالقصة ستدور في مكمن آخر ، وليس في مكان آخر ، ذلك أن أوغلو كما أسلفنا ينصب فخاخه بحرية تنطلق من جسارة التجريب ، وهو يبدأ برواية القصة على عهدة التلعثم الذي يميز الصبي يوسف ويتحول تدريجيا إلى صمت كامل يغرق في الواحة الخضراء اللانهائية التي يلجأ إليها حين يسمع الشرطي يخبر أمه لحظة عودته من المدرسة بأنهم قد فشلوا في العثور على أبيه . وهي اللحظة التي يحسم فيها يوسف مصيره بشكل نهائي من خلال توجه إلى الظلمة والغرق فيها .

ملصق الفيلم                                                   ..ومخرجه سميح كبلان

علامات الصمت التي يتشكل منها عالم يوسف معقدة ولاتقوم على صحة ( الرؤيا) التي تميز بوحه الخافت لأبيه كي لايسمعه أحد ، اذ ليس ثمة من سيغدر به سوى صمته حين يطبق عليه في النهاية ، وهو كما أسلفنا ذريعته غير الواعية في التحلل من آفة الكلام حين يكون هذا الكلام زائدة لغوية ، وهي ذريعة قادرة على النيل من المشاهد الكسول ، وكذا القارئ الكسول الذي يمكنه أن ينتصر للتجريب المزور في السينما برطانة أحادية التوجه ، ويحاول من  فرشته الوثيرة أن يطال بالأذى متعة التجريب في اللغة ، وهذا يطوي بداخله الكثير من الجبن الذي لايتوازى بأي حال من الأحوال مع جسارة التجريب البصري  ، وفيلم ( عسل ) ينتمي إلى هذه النوعية ، فنحن سنشهد على تجريب الفتى قدرته على الصمت بعد أن يكتشف تساوي أقرانه في الصف مع كل ماهو سائد ويقيني ومكرور تمثله الدروس بالدرجة الأولى ، وليكشف عن عدم تحقق الرؤيا ، حين لايكون هناك أشقاء ، يماثلونه غيرة ، وبالتالي عدم تأكدنا عند اكمال الفيلم إن هذا ليس في أحسن الأحوال أكثر من فخ بصري يستدرجنا إليه أوغلو لنقول كلمة عن غدر الأخوة غير الموجودين ، بل لنؤكد فرادة يوسف في صمته النهائي حين يذهب أبوه للبحث في سر اختفاء مستعمرات النحل في أماكن أخرى ، واذا لم يوضح لنا المخرج سبب اختفاء النحلات ، فهذا اكمال للفخ ،لأن النحلات التي يتكون منها عالمه تكون قريبة في يوم ، ويمكنها أن تصبح  بعيدة في يوم آخر. وهذا هو حال يوسف حين يؤثر التحلل من آفة الكلام نهائيا وحين يقرر ألا يشبه أقرانه في الصف مخافة غيلة تنتظره على قارعة الطريق ، حين عودته إلى البيت .


إعلان