عن ضبط المصطلح

بين «السينما الفلسطينية».. و«سينما القضية الفلسطينية»!..

بشار إبراهيم

من اللافت للنظر أن ثمَّة خلطاً في المفاهيم والمصطلحات فيما يتعلَّق بموضوع «السينما الفلسطينية»، خاصة من ناحية القدرة على تمييزها عن «سينما القضية الفلسطينية»!.. ويزيد في الأمر غرابة أن هذا الخلط يقع فيه، فضلاً عن الفنانين السينمائيين أنفسهم، عدد من النقاد والمهتمين والدارسين والباحثين أيضاً..
ورغبة منا في التأكيد على ضرورة ضبط المصطلحات، وتحديدها، لتوضيح ميدان البحث، وتحديده، ومنع الإلتباس فيه، نرى أنْ لا بدَّ، بدايةً، من العودة إلى التوقِّف أمام المصطلح، في محاولة حسم كل ما يمكن أن يدور في الذهن، من خلط، أو تداخل!..
يتفق المهتمون، عادة، في نسبة السينما إلى الجهة المنتجة، بغضِّ النظر عن جنسية المخرج، أو الممثلين، أو كاتب القصة أو السيناريو.. وبغضِّ النظر، كذلك، عن جنسية الفنيين والتقنيين العاملين في إنجاز الشريط السينمائي.. بل إن الأمور تعود أحياناً في انتساب السينما إلى الجهة الأكثر قسطاً في إنتاج العمل السينمائي، وتمويله، ويحصل هذا خاصة عندما تتشارك أكثر من جهة إنتاجية، من أكثر من جنسية، في ذلك؛ رغم أننا نلاحظ في بعض الأحيان القيام بنسبة العمل السينمائي إلى جهة المخرج، الذي يتمكّن، بطرائق مختلفة، من توفير تمويل ما، من ماله الخاص، أو من جهات أخرى، تختفي خلف اسم ما، أو تتوارى وراء شخص المخرج، ذاته، لأسباب عدة، ليس مجال مناقشتها الآن في هذا المقام .
وعلى هذا فإننا نقصد بمسمى «السينما الفلسطينية»، تلك السينما التي أنتجتها جهات فلسطينية الجنسية أصلاً؛ وفي هذه الحالة فإن ما هو فلسطيني، كمنتِج سينمائي، سيتعدد بين كونه أحد فصائل الثورة، أو تنظيماتها، أو المنظمات، أو الهيئات، أو الاتحادات الشعبية الفلسطينية، أو تشكيلات مؤسساتية سينمائية فلسطينية، نشأت من خلالها.. وقد يكون المنتج مخرجاً مشاركاً في الإنتاج، بالتعاون مع جهات أخرى، ممن تتو��ّى توفير الإمكانيات المالية، أو التقنية، من معدات وأجهزة له، أو أن يتم ذلك عبر إنشاء شركات أو وحدات إنتاج سينمائية فلسطينية، فردية أو تشاركية، تعاقدية، يكون أحد أطرافها فلسطيني الجنسية، أو فلسطيني الأصل..

لقطتان من فيلم باب الشمس

وبطبيعة الحال لن يختلف الأمر، بين أن يكون الإنتاج السينمائي الفلسطيني، قد تمَّ هنا أو هناك، مكانياً، بسبب حالة الشتات الفلسطيني، أي سواء تمَّ إنتاج هذا الفيلم الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة (1948، أو 1967)، أو أُنجز في أي قطر من أقطار الوطن العربي، أو في أي بلد أوروبي، مثل: هولندا، أو بلجيكا، أو فرنسا، أو بريطانيا، أو إيطاليا.. أو في الولايات المتحدة الأمريكية، أو كندا، أو أستراليا.. أو غير ذلك من بلدان العالم، سواء في آسيا أو أفريقيا، أو دول المعسكر الاشتراكي (الذي كان).. إذ لا يغير ذلك من حقيقة الموضوع شيئاً، رغم دلالاته!..
فالفيلم ينتمي إلى «السينما الفلسطينية»، طالما أن الجهة المنتجة، أو المشاركة بالإنتاج، هي فلسطينية الجنسية، سواء أكانت هذه الجهة مؤسساتية، شخصية، جماعية أو فردية.. وقد تضم «السينما الفلسطينية»، ما هو متعلّق بالقضية الفلسطينية، أو ما هو غير متعلّق بها، ولا يقاربها.. وهذا يعني أن انتساب السينما إلى نسب معين، لا يرتبط بمضامينها، أو خطابها، فقد يكون خطاب هذه السينما تقدمياً، جاداً، ومسؤولاً، وربما يكون عكس ذلك!.. أي أنه في حال «السينما الفلسطينية» قد يكون منها ما يخدم القضية الفلسطينية، أو لا يخدمها، إن لم نقل قد يكون ضاراً بها!.. إذ أن الانتماء القانوني، عبر الجنسية، إلى ما هو فلسطيني، شيء، والانتماء الواعي الجاد الملتزم، الذي يحمل هموم الوطن والقضية، شيء آخر، وليس لهما بالضرورة أن يكونا مترابطين ومتواشجين، وإن كنا نتمنى ذلك..
ونشير هنا، في مجال تحديد مفهوم الفلسطينية، إلى شيوع فكرة أن «الفلسطينية» هي انتماءٌ نضالي، وليست فقط انتماءً قانونياً، عبر الجنسية، وجواز السفر، أو عبر الدم، وصلة القرابة!.. ومع احترامنا وتقديرنا لنُبل هذه الفكرة، أي فكرة أن «الفلسطينية هي هوية نضالية»، ولكل من تبنَّاها، وآمن بها، ومارسها في حياته، سلوكاً ومواقف!.. وهي فكرة وجدت شيوعاً خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، بالتوازي والترافق مع الصعود الكبير للثورة الفلسطينية.

مملصق فيلم حيفا                                                             من فيلم السكين                       

 ومع انتماء الكثيرين من أشقاء عرب، وأصدقاء أجانب، إلى فصائل الثورة الفلسطينية، والعمل في مؤسساتها، والاستشهاد في مجرى نضالاتها!.. إلا أن تحديد حقل البحث، بمنهجية علمية (ربما تبدو باردة، وفجَّة، هنا) يقتضي منا أن نعيد الاعتبار للمفاهيم والمصطلحات، بغضِّ النظر عن مدى نبل فكرة الانتماء/ الهوية، ومغزاها والقيمة الإنسانية العالية التي تتضمنها، ونجد أنفسنا، لتحديد «السينما الفلسطينية»، على اضطرار لأن نميز بين المفهومين، دون أي مواربة.. وأن نتوقف عند مفهوم الفلسطينية القانونية والجنسية والأصل والدم، في هذا التحديد، مع كامل احترامنا وعلو تقديرنا للانتماء النضالي للهوية الفلسطينية، فكراً وعملاً، ولكل من يمارسه في واقعه الحياتي، فكراً وعملاً، ولكل من يعتدُّ به.. وله السبق والفضل!..
وعلى هذا، أيضاً، فإن «سينما القضية الفلسطينية» هي مفهوم آخر، ومصطلح أوسع، وأكثر شمولاً، إذ هو يُعنى بالسينما وفق المضامين التي تقدمها، فقط، وبغضّ النظر عن جنسية المنتج!.. وحينذاك علينا أن ندرك أن مُنجَز هذه السينما، وإن كان يتضمن الإنتاجات السينمائية الفلسطينية، تحديداً المتعلقة بالقضية الفلسطينية، من أحد جوانبها، إلاّ أنه لا يتوقف عند حدود ذلك، بل يشمل كذلك كافة الإنتاجات السينمائية، غير الفلسطينية، ذات العلاقة المباشرة، أو العلاقة غير المباشرة، أو ذات الدلالات والاسقاطات، بصدد القضية الفلسطينية، وجوهر الصراع العربي الصهيوني، وذلك بغض النظر عن الجهة المنتجة..
فجوهر «سينما القضية الفلسطينية»، هو تناولها، أو تطرُّقها للشأن الفلسطيني، منظوراً إليه من خلال الصراع العربي الصهيوني. وهذا يعني أن «سينما القضية الفلسطينية» هي تيار سينمائي، وليست انتساباً معيناً ذا خصوصية قانونية أو جنسية محددة، فهذا التيار ينضوي فيه كل من يريد تناول القضية الفلسطينية، أو أحد جوانبها، أو أي من منعكساتها وتداعياتها، وما ينجم عنها، وما يستشرف منها، أو لها..
وعلينا التأكيد هنا أن «سينما القضية الفلسطينية» هي سينما مضادة للسينما الصهيونية، بطبيعة الحال، لأنها تدحض في بعض جوانبها، إن لم نقل جوهر خطابها، الأطروحات والمزاعم الصهيونية، كما أنها في جوانب أخرى تؤكد على الحقوق الفلسطينية المشروعة، بغضِّ النظر عن مدى اقترابها من حقيقة جوهر الصراع العربي الصهيوني، أو الاكتفاء بملامسة بعض الجوانب الإنسانية من معاناة الشعب الفلسطيني، سواء في وقوعه تحت الاحتلال الصهيوني، أو في تناثره المفجع في بلاد الشتات واللجوء والغربة، بسبب ما حلّ به جراء النكبة الكبرى عام 1948، ومن ثم النكسة الموجعة المفجعة عام 1967، إضافة إلى الاعتداءات الوحشية الهمجية الصهيونية، التي انصبت حمماً من نار وموت ودمار على الفلسطينيين العزَّل في المخيمات، وشتى أماكن اللجوء..

من فيلم حتى اشعار آخر

كذلك من ناحية اهتمام «سينما القضية الفلسطينية» بأحاديث من طراز حقِّ الفلسطينيين في الكفاح من أجل استعادة حقوقهم، والتمكُّن من عودتهم إلى وطنهم الذي طُردوا منه، وأحاديث من طراز البحث في الآثار والمنعكسات الناجمة عن هذا الصراع على البلدان العربية الأخرى، خاصة البلدان المجاورة لفلسطين، وفي المقدمة منها سورية ولبنان ومصر والأردن والعراق.. فضلاً عن ربط الكثير من الأحداث والتحولات، التي شهدها العالم العربي في القرن العشرين، بمجريات هذا الصراع..
ومن ناحية محاولة هذه السينما؛ «سينما القضية الفلسطينية»، رؤية القضية الفلسطينية كجزء هام من مفردات لوحة الكفاح التحرري الثوري التقدمي العالمي، الذي شهده العالم في النصف الثاني من القرن العشرين، انطلاقاً من اعتبار الثورة الفلسطينية واحدة من أبرز الثورات المناضلة في سبيل قضية عادلة، والمتسلِّحة بإجماع العالم الباحث عن الحرية والعدالة.. وصولاً إلى اعتبار القضية الفلسطينية قضية ذات معطى إنساني أخلاقي.. لابد من نصرتها والوقوف إلى جانبها.
ما بين نسقي «السينما الفلسطينية» و«سينما القضية الفلسطينية»، ثمة نقاط تواصل وتفاصل، لا بدَّ من لحظها، لإدراك المسافة ما بين هذين النسقين من السينما، رغم أن موضوعهما واحد، تقريباً، أو متشابه في غالب الأحيان!.. ونحن إن كنا نمايز بينهما، فإنما ذلك يتمّ على أساس الجهة المنتجة، أي بين أن يكون هذا الفيلم مُنْتَجَاً بأموال فلسطينية، أو بمشاركة أموال أو جهات فلسطينية في إنتاجه، وبين أن يكون الفيلم مُنْتَجَاً بأموال وإمكانيات غير فلسطينية، سواء أكانت هذه الجهات عربية شقيقة، أو أجنبية صديقة.. وحتى لو كان المخرج في هذه السينما فلسطينياً، فجنسية السينما، كما نرى، لا تتحدد بالمخرج، بل بالمنتج أولاً وتالياً..


إعلان