في مفهوم الممثل في السينما

 تختلف نماذج الأداء في الفيلم السينمائي من مدرسة إلى أخرى ومن رؤية جماليّة إلى أخرى. ولكن إجمالا يمكن أن نميّز بين نموذجين أولهما كلاسيكيّ متأثر بالأداء المسرحيّ، يضخّم من الإيماءات في مبالغة وتكلّف، ويجعل الشكل الخارجيّ للجسد سبيلا لإبراز ما ينطوي عليه المستوى الباطنيّ من عاطفة. وثانيهما حديث يستند إلى مصادرة ترى في التعبيرات الجاهزة للمواقف والوضعيات تقييدا للممثل وحدا من إبداعه. وبدلا من التركيز على المظهر الخارجي للممثّل وإعلاء قيمة جماله الجسدي يعوّل هذا النموذج على الجانب النفسانيّ الجسمانيّ بحثا عن رؤية الفكرة وهي تضيء الوجه. وضمن النموذج
الواحد يمكننا أن نميّز بين أربعة أنماط من الممثّلين:
° ممثل الشخصيّة وهو ذلك الذي يتقمّص الدور وينخرط في عالمه حتى التوحّد به وانتزاع ذاته من “أناه” لتحل في “أنا” أخرى.
°ممثل الذات وهو ذلك الممثل الذي يعرض بشكل ما ذاته لا الشخصيّة الفيلميّة فلا يحتاج إلى قدر مهمّ من الإثارة في الدور أو مهارة في التوجيه والقيادة من قبل المخرج حتى يتحوّل إلى ممثل شخصيّة.
°الممثل الجسدي وهو ذلك الذي يعوّل على مواهبه في أداء الدور بقدر ما يعوّل على خصائصه الجسديّة المؤثرة من جمال أو قوّة جسديّة أو قبح أحيانا.
° الممثل الطبيعيّ: هو شخص يلتقط من الشارع لما له من مواصفات جسمانيّة توحي بمجمل من التجارب ويختزل حياة كاملة تتوافق مع حياة الشّخصية وتجربتها. فيمثل بفطرته وينجح متى توفق المخرج في إبقائه بعيدا عن مراقبة ذاته. نجد هذا النمط من الممثلين خاصّة في سينما المؤلف والسّينما غير الاستهلاكيّة عامة .
وعلى خلاف الشّخصيّة الأدبية التي توغل في التّجريد باعتبارها صرفما فارغا، ونظرا لسمة الوسيط السّينمائي الأيقونية، تولد الشّخصيّة الفيلميّة على هيئة صرفم مليء، بما أنها تتوسّل جسد الممثل سبيلا لتشكّلها البصري حتى تدرك عند المتلقّي، عيانا. فكان لهذه السمة الأثر البالغ في توجيه مقاربتها إلى البحث في أبعادها الملموسة وفي حضورها المادّي الفيزيائي.
 ضمن هذه المقاربة يقارن يوري لوتمان بين الممثّل على الرّكح والممثّل في الشّاشة، مبيّنا أنّ المسرح يعرض علينا كائنا بشريّا، حين يعرض الشّخصيّة، ويرغمنا على تجاهل هذا البعد فيه وعلى الاقتصار منه على بعده السيميائي.ّ وعلى النّقيض من ذلك يعرض علينا الفيلم حزمة من الأضواء تُبسط على الشّاشة المسطّحة ولكن “هذا أيضا علينا أن ننساه لنتعامل مع شخصيات الشّاشة تعاملنا مع أناس يضجّون بالحياة.. في الحالة الأولى نستخدم الواقع على أنه علامات وفي الثانية العلامات على أنها الواقع”  
إنّ ازدواج هذا المكوّن بين شخصيّة هي محض افتراض وتصوّر، وجسد ممثل حامل لها متلبس بها ومتّحد معها، ما دفع لوتمان إلى دراسته من منطلق الإخراج. فالمخرج يتعامل مع لقطة صورة للشخصية/ الممثّل تعامله مع سائر المواضيع المصوّرة في الفيلم فيقطّعها بين لقطة قريبة وأخرى بعيدة وثالثة متوسّطة بما تقتضيه الرّؤية الإخراجيّة. وعليه يتمّ الإيماء في السّينما بكامل الجسد أحيانا وببعض منه أحيانا أخرى كأن تركّز الكاميرا في اللّقطة القريبة على اليد أو العين فـ”قدرة السّينما على تقسيم الصّورة البشريّة إلى قطع ومن ثمّ ترتيب هذه المقاطع في سلسلة تتتالى زمنيا تمكنها من تحويل الصّورة الخارجيّة للإنسان إلى نصّ سرديّ”.   غير أنّ صورة الممثّل لا تستبدّ وحدها بالشّاشة عامة ولكنها تقتسمها مع وحدات أخرى ممّا يولّد لعبا علائقيّا، بين مختلف عناصر الصّورة، منتجًا للمعنى. ومن هنا مأتى القيمة الدّلالية المضافة حسب اصطلاح حمّادي كيروم  . لشرح الأمر يفترض الباحث صورة رجل يمشي وحيدا في فضاء صحراوي قاحل فيتآلف في اللّقطة محوران، محور يتعلّق بمسيرة الرّجل وآخر يتعلّق بالفضاء. وعن إسقاط الأول على الثاني تتولد هذه القيمة الدّلاليّة المضافة “فنلاحظ أن القساوة [كذا] التي تتجلىّ في المنظر القاحل سابقة لقدوم الرّجل لكن هذه المسيرة ستظهر أكثر صعوبة عندما تدخل مع قوّة أخرى مضادّة” .  
وعلى خلاف الشّخصيّة ذات البعد الواحد، في الأدب، تكون الشّخصيّة السّينمائية ثلاثيّة الأبعاد. فهي أوّلا دور مستقلّ عن النّصّ الفيلمي، وهي ثانيا شخصيّة تزرع في هذا الدّور الافتراضيّ العام حياة وهي أخيرا لممثّل يجسّد الشخصيّة أيقونيّا.

شخصية حمزة بن عبدالمطلب بين عبدالله غيث وانطوني كوين

1) الدّور(Rôle):
يقتضي الدور جملة من الكفايات ويفرض جملة من الإكراهات منها الجسديّ ومنها الحركيّ ومنها النّفسيّ. من ذلك دور المغامر أو العاشق أو الخائن أو المناضل. واستقلاله عن النّصّ الفيلمي يجعلنا نحدّده بكونه “وجها بلاغيا ثابتا قابلا في نفس الوقت لبعض التّغييرات الممكنة” . 
2) الشّخصيّة (Personnage):
تمثّل الشّخصيّة تجسيدا للدور وانتقالا به من طور التّجريد والافتراض إلى عالم القصّ ممّا يكسبها هويّة ووظيفة ويؤهلها لعقد العلاقات المختلفة مع غيرها من الشّخصيات وللدفع بالحدث.
3) الممثل (Acteur):   
يعطي الممثل الشّخصيّة بعدها الماديّ فينقلها من مستوى العلامة اللّغويّة إلى علامة أيقونيّة تمثّل عنصر جذب في الفيلم. ورغم ما بين المفهومين من تمايز ـ نظريّا، يعسر الفصل بينهما على مستوى الأجراء. فدراسة البعد التّمثيلي تستدعي الشّخصيّة بالضرورة ودراسة الشّخصيّة الفيلميّة تظل منشدّة إلى شخص الممثّل. ويعود ذلك إلى خصوصيّة الفن السّينمائي ذاته بما أنه يقوم على تقطيع الموضوع إلى مجموعة من المشاهد أولا والتّأليف بينها عبر تقنية التوليف ثانيا مما يحوّل جسد الممثّل، على عبارة لوتمان، إلى نصّ سردي وتكاد تخرج عن الأثر لتشتغل مستقلة عن سياقه. فـ”الشّخصيّة المؤسطرة للممثّل في الفيلم السّينمائي لا تقلّ واقعيّة عن الشّخصيّة التي تؤديها… هذا السبب الذي يدفع مشاهدي السّينما غالبا إلى تصنيف الأفلام تبعا لاسم الممثّل، يربطون كل ممثل بسلسلة من الأفلام يعدونها بمثابة نصّ، بمثابة كلّ فنيّ. وذلك على الرّغم أحيانا من تنوّع مخرجيها وتفاوت مستوياتها الفنّية”  .
فالممثّل وهو يجسّد شخصيّة معيّنة في الفيلم إنما هو يجسّد – عند المتقبل – الشّخصيّة المذكورة وكلّ الشّخصيات التي أدّاها سابقا. وعلى خلاف العلامة المعبّرة عن الشّخصيّة الأدبية يكون جسده موطنا “لحركة قوية من التّناص”. 
……
هوامش

 (1) لمزيد من التوسّع أنظر خاصّة: ماري إلين التمثيل أوبراين، التمثيل السينمائي، ترجمة عصمت رياض، سلسلة الفن السّابع، منشورات وزارة الثقافة، المؤسسة العامة للسينما، دمشق 2001. عامّة الأثر.
 ( 2 ) يوري لوتمان، قضايا علم الجمال السّينمائي، سلسلة الفن السّابع، منشورات وزارة الثقافة، المؤسسة العامة للسينما، دمشق 2001ص .139         
 (3 ) م ن، ص 141.
 (4 ) أنظر حمادي كيروم، الاقتباس من المحكي الروائيّ إلى المحكيّ الفيلمي، سلسلة الفن السّابع، منشورات وزارة الثقافة، المؤسسة العامة للسينما، دمشق 2001 ص .176
 ( 5 )  ن م، ص 176.
 (6 ) ن م، ص 172.
  (7 )  يوري لوتمان، قضايا علم الجمال السّينمائي،  ص ص 149/148.
  (8 ) حمادي كيروم، الاقتباس من المحكي الروائيّ إلى المحكيّ  الفيلمي، ص .173


إعلان