في السينما الفلسطينية الجديدة 1

بشار إبراهيم

لا يرتبط مصطلح «السينما الفلسطينية الجديدة»، بالبعد الزمني، فقط، كما يوحي اسمها، ولا بالتتابع أو التلاحق التاريخي بين نسقين إبداعيين، أو أكثر.. بل كذلك، وأولاً، بطبيعة الرؤية السينمائية التي تتناول القضية الفلسطينية، من خلالها، وطبيعة البناء البصري للصورة، وآليات السرد السينمائي، وتقنياته، التي تقدم الموضوعات عبرها.. كما تتعلَّق بطبيعة التغيير الحاصل في الشروط، وفي القوانين، التي باتت تحكم العمل السينمائي، من كتابة وإخراج، وآليات إنتاج، وطرق توزيع وعرض.. وهي شروط اختلفت، عموماً، عما كان سائداً، من قبل، في السينما الفلسطينية، خلال مرحلة الثورة الفلسطينية (السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين) أي تلك التي يُتفق على تسميتها بالسينما الفلسطينية القديمة، أو «سينما الثورة الفلسطينية»، كما سنسميها، من ناحيتنا..
فمن ناحية المموِّل (أي المُنتج السينمائي) يُلاحظ انطفاء، أو اختفاء، دور فصائل الثورة الفلسطينية المسلحة، والتنظيمات المعروفة في إطارها، والاتحادات والهيئات والنقابات، وتراجع دور منظمة التحرير الفلسطينية، وانحساره، في مجال الإنتاج السينمائي، ليتحوَّل الإنتاج إلى ما يمكن أن نسميه بالإنتاج السينمائي الخاص، المُعبَّر عنه من خلال وحدات إنتاجية خاصة، يملكها المخرجون الفلسطينيون ذاتهم، في أغلب الأحوال، أو يشاركون في ملكيتها، أو إدارتها.. ويقومون بالإنتاج السينمائي، بالتعاون مع جهات أخرى، ويحصلون على تمويل، من جهات مموِّلة، غالباً ما تكون أوروبية غربية، أو أمريكية شمالية.. وفق صيغ تعاقدية، مختلفة، منها المشاركة بالمال، أو أخذ دور الموزِّع، أو تولي مهام إدارة الإنتاج، وتوفير الخدمات الإنتاجية، أو ربما جميعها.
ومن ناحية المضامين، وطبيعة الموضوعات، فقد تراجعت سمات الثورية، والتحريضية المباشرة، والدعائية، والإعلانية.. وبرزت سمة التأمُّل، والتفكُّر، والنقد، والكشف عن جوانب متعددة ومختلفة من حال الفلسطيني، القاهرة، كإنسان يطمح إلى أخذ دوره التاريخي الحضاري، أو استعادة ذلك الدور الذي حاول العدو الصهيوني إطفاءه بإخراج الفلسطينيين من سجلات التاريخ.. كما برز، في هذا الإطار، اهتمام السينما بالحديث عن الفلسطيني، على مختلف تفاصيل حياته وشؤونه، سواء أكان ذاك الفلسطيني يعيش تحت الاحتلال الصهيوني، أو لاجئاً في المنافي، وبلاد الشتات، أو في مخيمات اللجوء..

ومن الضروري التأكيد على أن سمة التأمُّل، هذه، حتى لو وصلت إلى درجات الشاعرية، في بعض الأحيان، فإنها لم تغفل عن مهمتها الأساس، في رصد وطء الاحتلال، وقسوته، وبشاعة ممارساته، ورفض حضوره أصلاً.. والتأكيد على ضرورة نيل الفلسطيني لأدنى حقوقه المشروعة، في العودة إلى دياره، وفي التخلُّص من الاحتلال.. وحقِّه في الشروع ببناء مجتمعه الفلسطيني المدني الحديث، وامتلاك حضوره، وهويته الثقافية الحضارية، اللائقة بشعب له من الوجود التاريخي والجغرافي والإرث الغني ما هو عصيُّ على النكران..
ومن أدنى سمات «السينما الفلسطينية الجديدة» أن غالبية المخرجين فيها هم، عموماً، من فلسطينيي الأراضي المحتلة، أي ممَّن ولدوا ودرسوا وعملوا، في فلسطين، سواء من الضفة الغربية وقطاع غزة، أو من وراء ما يسمى «الخط الأخضر»، أي فلسطين المحتلة عام 1948، ممن باتوا يعرفون بفلسطينيي 48، حيث استطاعوا متشبثين، بالبقاء على الأرض الفلسطينية، أن يشكِّلوا الجزء الهام من الشعب الفلسطيني، الباقي على أرضه، وفي وطنه. ويلاحظ أن غالبية مخرجي السينما الفلسطينية الجديدة كانوا ممن سافروا إلى أوروبا أو أمريكا، للدراسة أو للعمل، ومن ثم أتاحت لهم الفرص أن ينجزوا أفلامهم بإنتاجهم، أو استطاعوا توفير فرصة الحصول على تمويل لأفلامهم، سواء بالدعم المباشر، أو بالمشاركة..
لقد أرادت «السينما الفلسطينية الجديدة» أن تعيد للقضية الفلسطينية حضورها، وتجدِّد ألقها، في الوقت الذي كانت السينما الفلسطينية القديمة (أو ما نسميها «سينما الثورة الفلسطينية») تبدو وهي تمضي نحو الاختفاء والتلاشي، توافقاً مع تراجع دور منظمة التحرير الفلسطينية، بكافة مؤسساتها وفصائلها.. وبدت «السينما الفلسطينية الجديدة» وكأنها استعادة للدور الثقافي الإبداعي الفلسطيني، الذي بدا مُستنفَداً، على وقع الهزائم المتتالية، والانكسارات الكبيرة، فظهرت هذه السينما وكأنها تريد تقديم خطاب يناسب المرحلة المستجدَّة بقديمها، دون أن يُفلت ذلك الخطاب الخيوط الأساسية للموضوع من بين يديه، خاصة في الوقت الذي بدا أن الخطاب الثوري التحريضي للثورة، وللمنظمة، وكأنه قد استنفد أغراضه، وبدأ في لفظ أنفاسه!..

إن افتراض وجود «سينما فلسطينية جديدة» يعني بالتأكيد وجود «سينما فلسطينية قديمة».. وهو في البدء، وأولاً، يتجاوز حالة الجدل التي يخوض فيها بعض النقاد السينمائيين العرب، ممن يرون (أو يدَّعون، لا فرق)، أن لا وجود لسينما فلسطينية، أصلاً، وذلك انطلاقاً من أن السينما الفلسطينية القديمة، أي «سينما الثورة الفلسطينية»، في رأيهم، ليست سوى مجموعة أفلام أنتجتها فصائل الثورة ومنظماتها، والتنظيمات والاتحادات الفلسطينية.. وأن هذا الأسلوب من الإنتاج السينمائي لم يقم بوضع أسس وتقاليد صناعة، أو إنتاج سينمائي، ولم يُنجب سينمائيين حقيقيين.. فضلاً عن أن هذه الأفلام، بمجموعها (وفق ما يرون) إنما هي بمثابة بيانات بصرية، ودعايات وإعلانات مباشرة، مضمَّخة بالأيديولوجيا الخاصة التي تتبَّناها الجهة المنتجة.. وهي بالتالي لا ترقى إلى مستوى يُمكِّن من منحها أهلية الانتماء إلى فن السينما، والاعتراف بها، من ثم، كأفلام، أو كسينما فلسطينية!..
ويستكمل طراز هؤلاء النقاد السينمائيين (مع كامل الاحترام والتقدير لهم) موقفهم ضد مقولة وجود السينما الفلسطينية، فيرفضون اعتبارها سينما أصلاً، خاصَّة ما نسميه بالسينما الفلسطينية الجديدة، باعتبار أن غالبية أفلامها تُصوَّر بكاميرا الفيديو (بأنواعها) وتُنجز باستخدام تقنية الديجيتال والكومبيوتر وبرامج المونتاج الإلكتروني.. وحجَّة هؤلاء (النقاد السينمائيين) تتمثَّل في مقولة مفادها إن السينما هي فقط تلك التي تستخدم كاميرا قياس 16 مم، أو قياس 35 مم.. وأن بناءها الفني يقوم على اللقطة، لا على المشهد.. فاللقطة هي لبنة بناء السينما، والمشهد هو لبنة بناء التلفزيون.. وبهذا يصلون إلى موقف رفض وجود سينما فلسطينية، من حيث المبدأ.. ويعتبرون أن جلّ ما أُنجز سابقاً، وما يُنجز راهناً، إنْ هو إلا أفلام، أو ريبورتاجات (تقارير) تلفزيونية.. في أفضل الأحوال.. وعندما يتوفّر بين أيدي هؤلاء النقاد فيلم سينمائي (حقيقي)، أقصد فيلماً منجزاً بكاميرا سينمائية، وببنائية سينمائية، يرون أن وجود التمويل الأجنبي، يشوِّش هوية هذه السينما، بل ويبدِّدها.. فلا يبقى المنجز السينمائي في إطار هويته الفلسطينية، كما يرون، على الرغم من أن الأفلام الفلسطينية هذه، كافة، يتواجد فيها رأس مال فلسطيني ما، سواء عبر الوحدة الإنتاجية التي يمتلكها المخرج نفسه، غالباً، أو تلك التي يملكها أحد رجال الأعمال الفلسطينيين، من هواة السينما، أو المهتمين بإنتاجها وبصناعتها..
لن نخوض أبعد، هذه اللحظة، في هذا الجدل، ونعتقد أن ما يرونه، إنْ هو إلا موقف حَرْفي، لا يمكن أن يشكِّل أية إعاقة لمسيرة السينما الفلسطينية، التي تحفر دربها، وتحقّق حضورها بالكثير من الجهد والتعب.. بالإصرار والدأب.. ونعلن مباشرة (رغم كل ما قيل، وكل ما يمكن أن يقال) عن إيماننا بوجود سينما فلسطينية، استطاعت حتى الآن توليد الكثير من المبدعين السينمائيين، ممَّن يبنون تجارب سينمائية، راقية..

نقول هذا، مع تمييزنا، طبعاً، بين وجود سينما في بلد ما، ووجود صناعة سينما، في ذاك البلد. إذ أن وجود السينما، يعني من حيث المبدأ توفُّر منتوج إبداعي سينمائي، أي أفلام. بينما وجود صناعة سينمائية، فتعني وجود البنية التحتية للإنتاج السينمائي، وتواتره، من حيث هي صناعة ذات آليات وتقاليد، وتوفُّر ما يمكن أن يسمَّى بالمدن السينمائية، التي تتوفر فيها آلات التصوير والإضاءة، والصوت، وبناء الديكورات، ومعامل التحميض، والطبع، ووجود رؤوس أموال محلية منخرطة في العملية السينمائية، وتوفر سوق التوزيع، وشبكة دور العرض.. وتساهم في مجمل الدخل القومي.. وهو أمر غير موجود عربياً إلا في مصر.
هكذا يمكننا أن نميز بين وجود سينما، من جهة، ووجود صناعة سينمائية، من جهة أخرى. ويمكننا أن نأخذ مثال النموذج السينمائي السوري، إذ لا يستطيع أحد إنكار وجود سينما سورية، تماماً في الوقت ذاته الذي لا يستطيع أحد الإدعاء بوجود صناعة سينمائية، في سورية.. وعبر هذا الفهم يمكننا الحديث بشجاعة وبوضوح، لا لبس فيهما، عن وجود سينما فلسطينية.. لا عن وجود صناعة سينما فلسطينية..


إعلان