” حجارة الوادي”.. تأريخ النضال التقدمي في فلسطين
سعيد أبو معلا
قليلة هي الأفلام الوثائقية الفلسطينية التي تعود للوراء، أي أن تتجشم عناء فتح صفحة ما من الماضي، سواء القريب أو البعيد منه، ربما للأمر علاقة ما بثقل الواقع وسخونته، وهو ما يدفع بالكاميرا ومن قبلها المخرجين لتكون عيونهم مسلطة على اللحظة الراهنة، فكيف وهي الأكثر درامية وعنفا ودموية، وهو ما يجعل عودة أي مخرج للماضي حدثا مهما، فكيف والحال مع فيلم مختلف فنيا وموضوعا.
نقصد في حديثنا السابق عودة المخرج الفلسطيني إسماعيل الهباش في فيلمه “حجارة الوادي” (2010) إلى مرحلة غاية في الأهمية بالنسبة للتاريخ النضالي الفلسطيني، وهي الفترة الواقعة ما بين عام 1948 – و1967، وهي هنا ليست عودة مفتوحة على كل شيء، بل عودة اقتنصت النضال الشيوعي والتقدمي في فلسطين من خلال الدخول إلى عوالم ستة من المناضلين التقدميين.
بين الماضي والحاضر
أرادها المخرج محاولة للتأريخ الشفوي لهؤلاء المناضلين، أو هكذا أعلن عنها في مطلع فيلمه الذي تجاوز الساعة بدقيقة ونصف تقريبا، لكنه وأن لم يخلص لتلك المحاولة تماما نرى الفيلم تجربة لمقاربة فترة زمنية مهمة ليس بهدف توثيق الحدث التاريخي والنضالي الصرف بل عبر مقاربتها إنسانيا عبر ستة مناضلين تقدميين أصبحوا الأن على أعتاب قبورهم، بعد عمر طويل طبعا.
قبل تلقي الفيلم سأسأل: ماذا يمكن لكاميرا مخرج أن تسجل وتقول عندما تذهب في زيارة لمنازل وأماكن الفعل والحدث لمناضلين فلسطينيين ينتمون إلى الفكر الشيوعي؟ وبعد المشاهدة سأقول: صحيح أن الفيلم لم يطرح سؤال اللحظة الراهنة في ظل حالة التراجع المدوية أو لنقل الانتكاسة التي تضرب بالنضال التقدمي، وبين سؤال والقول أجد أن الفيلم ذاته فرصة مثالية لطرح السؤال إنطلاقا من التجربة التاريخية العريقة، إنه فيلم وأن كان مهموما بالماضي والتأريخ له نراه مستدعيا، وبطريقة غير مباشرة، للحظة والمصير والواقع.
تسجل لنا الكاميرا القليل مما نعرفه من عمر تلك الفترة الزمنية (1948-1967) والكثير عما لا نعرفه من تفاصيل مواطنين بسطاء كانوا في عز حماسهم النضالي والفكري أمام ثقل الواقع الذي كانت تعاني منه فلسطين المحتلة من أكثر من جهة، وهو بالذات ما دفعهم للانخراط في حزب أو حركة كان لها ثقلها المرفوض من أنظمة عربية تارة، حيث كانت ترى فيها ما يهدد حكمها، ومن عقلية محافظة تارة أخرى، كانت ترى فيه نضالا يجترأ على الدين ويعادي الأخلاق والكثير من الصور النمطية التي رافقت ذلك النضال والفكر التقدمي، كل ذلك كان في عز حاجة المجتمع الفلسطيني لتلك الأفكار الاشتراكية التي كانت ثورة على الافكار السائدة وعلى السلوك الاجتماعي المستتب.
15 عاما من النضال
إذا يؤرخ “حجارة الوادي” 15 عاما من النضال الفلسطيني عبر الايغال في مقاطع من حياة شخصيات مناضلة وهي على التوالي: خديجة عودة، وفؤاد قسيس وزوجته جميلة النمري، وراغب البرغوثي، وعبدالله البياع، وخضر العالم.
يتوقف المخرج بخفة على محطات من حياة هؤلاء ويتنقل بين تجربة نضالية وأخرى ببراعة من يتنقل بين الزهور، حياة ربما لا يعرفها قطاع كبير من الشباب الفلسطيني في يومنا ولحظتنا الراهنة، وهو أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت باتحاد الشباب الفلسطيني، وهي الجهة التي تقف على إنتاج الفيلم، بالعمل على اخراجه إلى النور وأن كانت قد قطعت على نفسها عهدا بإكمال المسيرة التي يفترض بها أن تطال تجارب نضالية أخرى في الداخل والشتات.
وهو في ذلك وأمام هدفه النبيل، حتى لو اقتصر على طيف نضالي فلسطيني، وعبر تنويعات مكانية وبشرية تشكل معا ضفيرة الفيلم، التي تشي وتبوح بجزء مما عايشوه وعانوه، وطبيعة الأفكار التي يحملونها ونظرتهم للواقع والبدايات النضالية.
نرى المناضلة “خديجة عودة”، المولودة في قرية زكريا داخل الاراضي المحتلة العام 1948، والتي تعيش الآن في مخيم الدهيشة للاجئين الفلسطينيين قرب مدينة بيت لحم في الضفة الغربية، تتحدث بعاميتها وببراءة الفلاحات الأصيلات عن طفولتها القروية ومن ثم عن يومياتها مع زوجها الممرض الشيوعي، وعن هربها في ليلة ثلجية من أحد المستشفيات بعد ساعة على ولادتها مخافة أن ينفضح أمرها، فهي التي عاشت سنوات طويلة برفقة زوجها متوارية عن الأنظار.
خديجة العجوز القوية تسرد مقاطع مؤثرة من مشوارها النضالي الطويل مع زوجها الشيوعي، كيف كانت تقيم مع الرفاق وتؤمن لهم الطعام والشراب والمنام، وكيف كانت تتحمل حديث أهل القرية الذين لا يفهمون ما تقوم به، وكيف كانت تهرب الرسائل بملابسها الداخلية وفي حفاظات أطفالها الصغار.
تحولات الوضع السياسي
وبمقدار ما طغى الحديث الإنساني وتفاصيل النضال الدقيقة على تجربة خديجة كان حديث المناضل خضر العالم من قرية “كفر عين” منصبا في جزء منه على الوضع السياسي وتحولاته وكيف أثر ذلك على الحزب الشيوعي.
يحدثنا “العالم” بداية عن سر انخراطه بالنضال وهو أمر يرتبط برغبته بالانتقام من الفظائع التي تعرض لها الشعب الفلسطيني على أيدي سلطات الانتداب البريطاني، فيقرر رفض الزواج ويطلب من والده أن يمنحه أموال زواجه ليشتري بندقية تمكنه من نصب كمين لدورية بريطانية حيث يعتقل ويسجن بقرار من محكمة بريطانية سنوات ست.
![]() |
خديجة العودة المخرج إسماعيل الهباش |
يسرد العالم أيضا تفاصيل إنسانية عن يوم زفافه حيث قررت السلطات الأردنية اعتقاله، والأيام التي مرت عليه برفقة زوجته دون أن يجدوا ما يسد جوعهم، ولحظات نومهم تحت الشجر وفي المزارع مختبئين من أعين المخابرات.
أما في تجربة فؤاد قسيس من مواليد مدينة رام الله وزوجته جميلة نمري المولودة في قرية الحصن الأردنية ما يضيف ويثيري التجربتان السابقتان، فقسيس الذي تعرف على الأفكار الشيوعية عندما كان مقاتلا في جيش الانقاذ ومنها نرى سجنه بفعل أفكارة وإقامته الجبرية التي كانت سببا في افتتاحه مدرسة لقريته ومن ثم تحريضه سكانها على المطالبة بالحقوق الصحية وهو ما دفع بالسلطة إلى وضعه في السجن الانفرادي.
أما زوجته جميلة المدرسة المطرودة من سلك التعليم بفعل مشاغبتها فتسرد حكاية زواجهما التي تمت بقرار حزبي حيث كان قسيس محكوم ويعيش حياة سرية، وهي التي أرهنت حياتها في سبيل الحزب.
تسرد في الفيلم ومن مطبخها وغرفة الجلوس كيف أنها لم تنم ليلة كاملة لكونها رأت عاملا يجر عربة ثقيلة، وأن زوجها كان يبيع أرضه كي يدعم الحزب، وأنه كان يستثمر لحظات زيارته لوالده في المستشفى من أجل أن يجمع تبرعات للحزب وهو ما لم يتوقف حتى في جنازة والدة.
نرى ونسمع عبر الفيلم حكاية راغب البرغوثي من قرية كوبر، الذي أكمل مشوار والده في السجن الذي حكم بسبعة وعشرين عاما قضاها في سجون الاحتلال البريطاني قبل ان يعدم شنقا، ليكمل هو مشواره في الحديث عن رحلته بدءا من رحلته المدرسية والأيام الماطرة وذهابه حافي القدمين ومعاناة كل ذلك في سبيل إكمال مسيرته الدراسية في جامعة بيرزيت.
يتحدث البرغوثي عن الكيفية التي أثرت فيها الأفكار الاشتراكية على عقلية القرية وعلاقات سكانها حيث كان للحزب دور في نزع فتيل الكراهية بين العائلات في القرية وفي تحرير النساء، كما يحدثنا عن الكيفية التي كان يقاوم فيها الافكار المتخلفة من التبرك بالأولياء وطلب المطر منهم.
يحدثنا أيضا عن قرية “كوبر” التي أصبحت بفضل النضال التقدمي تسمى “موسكو الصغيرة”، ثم يقص مجموعة من أسراره مثل سفراته لسوريا وتدربة على السلاح هناك ومن ثم عودته واعتقاله برفقة 90 رفيقا عام 1957.
أما عبد الله البياع، من قرية كفر مالك، والمعروف “ببياع الشيوعي” فيتحدث عن تطوع والده في الحرب العالمية الاولى مع الجيش التركي هربا من التنكيل به من قبل زوجة ابيه، وكيف خاطب عناصر في الجيش الروسي ” الفلاحين والعمال” من الفلسطينيين والعرب في الجيش التركي بالانقلاب على الاقطاعيين وتسلم السلطة كما فعل الروس انفسهم.
كما يتحدث عن أهم جارب حياته وتحديدا دروسه التي تلقاها من المدرسين الحزبيين الذين كانوا يزرون بيتهم لعقد اجتماعات حزبية، وهو يفاخر كذلك بكونه الوحيد الذي يوزع البيانات الحزبية جهارا نهارا، كما يستعرض بعض مواقفه الثورية على الظلم الاجتماعي وحالة الفساد السياسي وارتهان أهالي قريته للحاكم العسكري الأردني.
وعبر تلك القصص التي دمجت معا وشكلت ضفيرة متنوعة المشارب على مستوى التجارب أو على مستوى القضايا والموضوعات التي تنوعت ما بين السياسي والإنساني والتاريخي..الخ، وهو الذي قدمه المخرج بالاستعانة بذاكرة أبطاله المتقدة.
![]() |
من الفيلم ملصق الفيلم |
إحساس عال.. ومعادلات بصرية
المخرج الذي بدا متعاملا بإحساس عال مع أبطاله وحديثهم الحميمي وراتعا بفرح وتفكر بتلك الاستعادة المؤلمة ضمن فيلمه بموسيقى تراثية ناظمة للعمل وهي موسيقى النشيد الوطني إضافة إلى مقطوعات موسيقية تراثية يتسيدها صوت (الناي) والإيقاع (الطبلة) التي كانت تقوم بدور الناقل للقصص وتفريعاتها باختلاف الأبطال المتذكرين مع تفاصيل حياتهم في اللحظة لراهنة.
المخرج إضافة إلى صدق إحساسه لجأ إلى معادلات بصرية بسيطة (تتوائم وشروط الانتاج الفقيرة) في محاولة محاكاة الأحداث أو المواقف التي يسردها الأبطال، فمثلا عندما قص “غالب البرغوثي” مقاطع من طفولته وطريق ذهابه وأيابه إلى المدرسة في فترة الأربعينات حيث كان يقطع مسافات طويلة مشيا على الأقدام تحت المطر استعان المخرج بمشاهد يومية لأطفال القرية في رحلة ذهابهم وأيابهم المدرسية.
كما عادت الكاميرا مع أبطالها إلى الأماكن الأولى، حيث تجولت مثلا بالمناضل “العالم” في قريته وساحة البئر الذي كان يذهب إليه هربا من الوقت ليهرب أبناء قريته من حوله مخافة الشبهات التي كان يجلبها لكل من يتحدث إليه.
كما تذهب بنا الكاميرا مع “خديجة” حيث البيت الذي كانت تقيم فيه متخفية برفقة زوجها مع مجموعة من الرفاق، وتركض ذات الكاميرا بالطريق الوعرة التي سلكتها وهي تحمل مطبعة الحزب الوحيدة في ليلة ماطرة باردة.
كما برع الفيلم باستخدام مجموعة لا بأس بها من اللقطات اليومية والحميمية لحياة أبطاله حيث توقفت الكاميرا مع تفاصيلهم وعائلاتهم وأطفالهم ولحظات احتسائهم الشاي…الخ من تفاصيل اليومي والبسيط والإنساني.
مُشاهد “حجارة الوادي” سيفخر بالنماذج التي ظهرت فيه، مهما اختلف فكريا معها، لكنه وبذات الوقت سيتألم على ما آل إليه النضال الشيوعي والتقدمي في فلسطين وغيرها. فالفيلم يطرح السؤال الصعب على ذلك النضال الذي اجتاح العالم ذات وقت، وهو هنا يؤكد أنه أن صانعي هذا النضال هم تماما مثل حجارة الوادي التي يصعب اقتلاعها أو حتى التخلص منها.. فشكرا للمخرج إسماعيل الهباش على فعل التأكيد وحالة التذكر، ويبق السؤال المستحق في ظل تراجع اليسار إن لم نقل انتكاسته: أين الخلل إذا؟