في السينما الفلسطينية الجديدة 2
بشار إبراهيم
إن ولادة «سينما فلسطينية جديدة»، يعني منطقياً نشوء ظروف جديدة تستدعي هذه الولادة. لأن ولادة سينما جديدة لا يتمُّ بنزعات ورغبات إرادية، فقط، دون إنكار أهميتها، ولكنه يتمُّ أولاً وأساساً بفعل جملة عوامل ناشئة فاعلة؛ ذاتياً وموضوعياً، تقود بمجموعها وبتفاعلها، إلى الضرورة التاريخية، أو الإمكانية المفتوحة، المتمثِّلة ببروز الجديد، وامتلاكه لمشروعيته المستقبلية، وانطفاء القديم أو تراجعه وانحساره، وافتقاده لمبررات استمراره..
ولادة سينما جديدة، وفق هذا الفهم، يفترض بها أن تعني استنفاد دور السينما القديمة، سواء على مستوى الأشكال الفنية، التي كانت تُعتمد، أو على مستوى المضامين، التي كانت تُقدَّم، وأساليب تقديمها، أو على المستويين، كليهما، والميل من ثم نحو ما هو مستجدّ، من أشكال فنية، ومضامين فكرية، وطرائق تقديمهما، بفعل نشوء تحوِّلات عميقة في شروط الواقع، أو في طريقة وعي هذا الواقع، أو لنشوء أغراض جديدة في الواقع ذاته، أو تحولاته..
وإذا ذكرنا أن من العوامل التي هيأت لنشوء سينما فلسطينية جديدة، نشوء جيل جديد من المخرجين الفلسطينيين، خاصة من داخل الوطن المحتل، سواء في العام 1948، أو في العام 1967، هؤلاء السينمائيون الذين خرجوا للدراسة، وأمكن لهم العودة متسلحين بمعارف سينمائية، واطِّلاعات على تجارب سينمائية عالمية، وأشكال من المشاركات فيها أحياناً، واتفاقات على تمويل أعمالهم السينمائية الخاصة، مع جهات إنتاجية أوروبية أو أمريكية.. فإن من تلك العوامل أيضاً توفّر إمكانية إنجاز أعمال سينمائية فلسطينية، داخل الوطن المحتل، خاصة بعد انتهاء مرحلة الحكم العسكري الإسرائيلي، الذي كان مفروضاً على العرب الفلسطينيين حتى العام 1966، والذي كان يقف عائقاً أمام أية محاولة للتعبير الجماعي عن الوجود الثقافي الحضاري الفلسطيني، ولم يكن من الممكن حينها إلا ظهور التعبيرات الإبداعية الفردية، التي يمكن أن تمرُّ (أو تتحايل) على قوانين الرقابة، وأعين سلطات الحاكم العسكري. وعبر ذاك، يمكننا إدراك لماذا أصبح الشعر الفلسطيني وسيلة التعبير الإبداعية الأساس، عن الذات الفلسطينية، من خلال الفرد المبدع، طيلة العقود الثلاثة (خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن العشرين) من عمر النكبة، في حين انعدمت تماماً وسائل التعبير الإبداعي الفلسطيني الجماعي، والسينما في مقدمتها.. فالشعر هو فعل فردي، وهو ذات مبدعة منتجة، تعيد إنتاج معرفة وثقافة ورؤية للعالم، بينما السينما فعل جماعي، يتطلب مستلزمات تفيض عن الفرد.
![]() |
ثم كان للتحولات التي حصلت عند نهاية السبعينيات، ومن أبرزها المكاسب التي حقَّقها الفلسطينيون، بعد انتفاضة يوم الأرض 1976، وامتلاكهم، بعد ذلك، القدرة على التعبير الذاتي عن أنفسهم، سياسياً واجتماعياً وثقافياً، أثرها الكبير في بدايات الظهور الجنيني لمحاولات التعبير الجماعي، من مسرح وسينما على مستوى الثقافة.. ومن أحزاب وكتل وقوائم على المستوى السياسي، ونشوء العديد من المراكز الثقافية والروابط والتجمعات ذات الأغراض والأهداف الاجتماعية.. التي كانت بمجموعها تريد التعبير عن الوجود الفلسطيني، كقضية، أو كأقلية قومية، أو كجماعة بشرية.. وهي التي أسست للحضور الفلسطيني الناهض في أراضي 1948، من تحت ركام النكران والتجاهل، بعد شوط من القتل والمجازر..
وفي سياق مواز، كان للتفاصيل التي ولَّدتها اتفاقيات كامب ديفيد 1979، مع مصر، أثرها اللافت، خاصة بعد خروج مصر من دائرة الصراع، وخروج الإسرائيليين من عقدة الخوف، في التعامل مع العرب، بعد أن تيقَّنوا أن العرب لن يستطيعوا أبداً، لا من «رميهم في البحر»، ولا الاقتراب من حدودهم، وأن حرب تشرين 1973، هي آخر الحروب، ليس فقط كما أعلن أنور السادات، بل كما كان يصرِّح الواقع الذاتي والموضوعي للعرب.. لا سيما وقد نجح الإسرائيليون في اختلاق الشريط الأمني، في الجنوب اللبناني، بحراسة جيش من العملاء والمتعاملين معهم، باسم (جيش لبنان الجنوبي)، بقيادة سعد حداد، ثم قيادة انطوان لحد، ذاك الجيش الذي كان من مهماته العملياتية ردّ ومنع أية أعمال عسكرية يمكن للثورة الفلسطينية، أو المقاومة الوطنية اللبنانية، القيام بها.. وهو ما منح الإسرائيليين شعوراً بإبعاد خطر قوات الثورة الفلسطينية، والحدّ من قدرة الفدائيين على إيذاء (أو إزعاج) مستوطنات الشمال، التي طالما كانت أهدافاً لهجماتهم..
![]() |
إن تجاوز الإسرائيليين لعقدة الخوف من العرب، سمح بنشوء مواقف غضِّ النظر الإسرائيلية عن اتصال بعض الفلسطينيين الموجودين في الأرض المحتلة، علناً بمنظمة التحرير الفلسطينية، بل والمضي إلى حدِّ السماح (أو غضِّ النظر عن) لبعض الإسرائيليين بالاتصال بمنظمة التحرير الفلسطينية، أمثال ما فعله كل من الجنرال ماتياهو بيليد، ويوري أفنيري، وآخرون ممن ينتمون إلى المعارضة الإسرائيلية، أو ممن ينتسبون إلى ما يسمى «اليسار الإسرائيلي»، وما سُمِّي حينها باسم «حركة السلام الآن». وقد كان أي اتصال مع منظمة التحرير الفلسطينية، أو أيٍّ من قياداتها، أو رموزها، ممنوعاً لدى الإسرائيليين، ويرقى إلى درجة استحقاق العقوبة، والوصم بالخيانة، أو تهمة التعامل مع العدو (أي الفلسطيني من هذه الزاوية)..
في هذا الوقت، تماماً، بدأ التراجع يدبُّ في حركة الثورة الفلسطينية المسلَّحة، التي غاصت في مستنقع الحرب الأهلية في لبنان (مختارة، أو مجبرة)، إلى الدرجة التي أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية طرفاً فيها، وكان من نتائج ذلك أنْ فقدت الثورة الفلسطينية الكثير من مكانتها، ووهجها، وألقها، وشعبيتها.. ونالت من قيمة القضية الوطنية ذاتها، في بعدها القومي والعالمي، وجعلتها تدفع أثماناً باهظة، على المستوى المادي والمعنوي، إذ دفعتها للخوض في حروب، لا يمكن أن تكون رابحة، حتى لو كان الطرف الآخر ممن يتعاملون مع العدو الصهيوني، فبدت بمثابة حرب «اللا غالب واللا مغلوب»!.. وأثارت الأسئلة حول الثورة بدايةً، ثم حول القضية تالياً، وأعطت (إن لم نقل دفعت) الكثيرين للكفر بالقضية، وهو ما بدا بمثابة المسوِّغ المنتَظر لمن كان يريد التخلُّص من وطء القضية..
إن التراجع الذي دبَّ بالثورة والمنظمة، كان لا بدَّ له، بالضرورة، أن يصيب مختلف الفعاليات التي كانت تمارسها الثورة الفلسطينية، وعلى المستويات كافة، ومن ضمنها، في صدد ما نحن فيه، تراجع «سينما الثورة الفلسطينية»، (أي السينما القديمة)، والوشاية باستنفاد أغراضها، وتجاوز الزمن للكثير من مفرداتها، وعدم تناسب خطابها، بتقليديته، وتحريضيته، وربما ثوريته، مع التطورات والتحولات الناشئة.. ولقد توازى هذا التراجع، في السينما، مع بدء انتقال مركز الثقل في الفعل الفلسطيني من الخارج إلى الداخل، والذي سيصعد إلى ذروته الباهرة في الانتفاضة الباسلة العام 1987.
ذكرنا أن من أهم العوامل التي كان لها الدور (وإنْ غير المقصود) في توفير الإمكانية لظهور «السينما الفلسطينية الجديدة»، بروز وتنامي اتجاهات اليسار الإسرائيلي، ونشوء حركة «السلام الآن»، عام 1978، التي تكوَّنت من مجموعة من ضباط الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، ومن عدد من الفنانين والكتاب والشعراء والروائيين والصحفيين، ومن العاملين في مجالات الدراما، في المسرح، أو في السينما الإسرائيلية.. إذ بدأ طور جديد، بتأثيرات حركة اليسار، وحركة «السلام الآن»، ومختلف الأحداث والتطورات، كان من أبرز سماته إدخال تعديلات ملحوظة، ولو محدودة، على صورة الفلسطيني في المنتوج الإسرائيلي، ومنها في السينما والمسرح، كما كان من نتائجه أن فسح المجال أمام عدد من الفنانين الفلسطينيين داخل الوطن المحتل، ليعملوا في السينما والمسرح الإسرائيليين، وجعلهم يمثُّلون دور المعبِّر الذاتي، أو الممثل الذاتي، عن حضور الفلسطينيين ووجودهم (وينبغي الانتباه، والتأكيد، على كلمة وجودهم).
![]() |
صحيح أن هذا التحوُّل لم يصل إلى درجة النزاهة والوضوح والشفافية، ولم يخرج أبداً عن إطار الصورة العامة الصهيونية، في التعاطي مع حضور الفلسطيني، وصورته، ولم يتخلَّ عن نزعاته العنصرية تجاه الفلسطيني كآخر (غوييم)، بل حصل أن وجدنا، في بعض الحالات، محاولة صهيونية وقحة لمنازعة الفلسطيني على موقع الضحية، واستلابه حتى من هذا الموقع؛ موقع الضحية..
ولكن الصحيح أيضاً، من جهة لا تقلُّ أهمية، أن مجرد السماح لبعض الفنانين الفلسطينيين للتعبير عن ذاتهم الفلسطينية، كان له أن يمثِّل (بشكل ما) تجاوزاً مضمراً للمقولة الصهيونية التي كانت تتنكَّر لوجود الفلسطينيين، أصلاً، ومن حيث المبدأ.. فقبل هذا الطور كان الممثلون اليهود الشرقيون (لاعتبارات فيزيولوجية أيضاً) هم من يتولُّون تمثيل دور الفلسطيني، في السينما الإسرائيلية، بينما كان اليهود الغربيون يقومون بتمثيل دور الإسرائيلي، فيها.. وعادة ما تأتي صورة هذا الفلسطيني بوصفه إرهابياً دموياً متوحشاً همجياً متخلفاً.. يريد عرقلة المشروع الصهيوني (الحضاري!..)، الذي يريد تحويل الأرض البور الجرداء إلى جنة!.. بل يبدو الفلسطيني على هيئة من يرفض التطور والحضارة التي يجلبها الصهاينة له!.. وهم بذلك يضعون الفلسطيني في سياق معاد للحضارة الغربية، ذاتها، التي تريد قيادة العالم، وتتولى إدارة شؤونه!!..