“عراقيون في منفى متعدد “.. ومحنة الأسماء المستعارة

أمل الجمل 

“أسامينا شو تعبو أهالينا تلاقوها..” هكذا تشدو “فيروز” في مطلع إحدى أغنياتها والتي يستهل بها “فجر يعقوب” فيلمه “عراقيون في منفى متعدد الطبقات” للتكثيف من حدة ووطأة مأساة أبطاله. فعلي أرض الواقع الذي يُعيد ترتيبه ونسج خيوطه الدرامية بمهارة صانع الدانتيل يكشف “يعقوب” كيف أن البعض يلجأ مضطراً ورغماً عنه أحياناً إلى وأد اسمه الحقيقي، واستبداله بآخر مستعار رغبة في حماية الأهل الذين تركهم وراءه في وطنه، ثم حماية نفسه وهو في منفاه. مع ذلك سرعان ما يتحول هذا الاسم المنتحل إلى منفي آخر أشد قسوة ووطأة إذ يُصبح منفى متعدد الطبقات؛ لأن المرء فيه لن يعد فقط منفياً عن بلده وأهله، بل أيضاً منفياً عن اسمه الحقيقي، منفياً عن عالمه القديم، وعن ذكرياته الحميمة كأنه هارب من ماضي ما قد يكون أسري، أو إجتماعي، أو سياسي يُمثل بلد بأكمله.
“إنه منفى ذهني، منفي مكاني، منفى أيديولوجي، لكن أخطر مافي هذا أن اسمك لا يصبح هو اسمك.” هكذا يحكي الشاعر العراقي المنفي “محمد مظلوم” عن تلك الوضعية المؤلمة ضمن هذا الفيلم الوثائقي للمخرج والناقد السينمائي الفلسطيني المقيم بسوريا “فجر يعقوب” الذي خبر بدوره ماذا يعني النفى عن وطنه “فلسطين”. ربما لذلك، إلى جانب أسباب فنية عديدة جاء فيلمه على مستوى عال من الصدق. 
يتناول الشريط الوائقي ثلاثة عراقيين أمضوا معظم حياتهم لاجئين في “سوريا” بعد أن غادروا وطنهم العراق خفية في أواخر سبعينيات القرن العشرين كغيرهم من آلاف اللاجئين في تلك الفترة. يرصد الفيلم خبراتهم ومشاعرهم الدفينة عندما يعيشوا في المنفى بأسماء مستعارة، ويتنقلوا ويكتبوا بها. الأول هو الشاعر “فائز العراقي” واسمه الحقيقي “ناهض حسن”. ظل “ناهض” مطارداً لمدة عامين في “بغداد”، طوال العامين ظلت أخته الصغرى إلى جانبه، بل كانت الكائن الذي خاطر بحياته ووقف إلى جواره حتى الموت، وكان اسمها “فائزة”، فاختار لنفسه اسم “فائز العراقي”، ثم بدأ بالكتابة تحت هذا الاسم المستعار ونشر به الشعر منذ عام 1981 في جريدة “تشرين” حتى لا يُسبب أذى لأسرته. في ذلك الوقت ظل رجال النظام العراقي يبحثون عنه فاضطر والده، لكي يحمي عائلته، أن يُعلن أنه تبرأ من ابنه وأنه قد ذهب إلى الحرب العراقية الإيرانية ولا يدري هل مات أم لايزال على قيد الحياة، وقد تأكد للابن أنه على مدار عشرين عاماً لم يتمكن النظام العراقي السابق من تحديد هويته، وها هو لايزال يعيش في حلب السورية مع زوجته الفلسطينية وابنته “بابل”. 
أما “أبو حالوب” – واسمه الحقيقي “لبيد” و”الحالوب” هو البرد أو حب العزيز – فهو صاحب أشهر اسم مستعار عاش به لأكثر من ثلاثة عقود منذ أن غادر عراقه متخفيا، ولازال مصراً عليه إذ لايزال عازم على استمرار منفاه، وعدم العودة إلى العراق حتى للزيارة. نعم “أبو حالوب” متواطيء مع غربته ولديه استعداد أن يتحمل الغربة ويشتريها بمليون دولار وربما أكثر، لكنه يرفض أن يعيش في العراق بوضعيته السابقة أو الحالية. يقول “أبو حالوب” الذي تجاوز الخمسين من العمر ويتخذ من مقهى الروضة الدمشقي مقراً شبه دائم: “أعرف أن مكاني هنا، ولا أشتري عودتي للعراق. العراق لن يعود إلى سابق عهده، هذا البلد نتيجة طبيعية لهذا الخراب، إنه حلم وراح خلاص، فهو بلد حروب وتصفيات، وانتهى عن بكرة أبيه.. سأنتظر خمسين عاما أخرى قبل أن أقرر عودتي”. 
بالمقابل فإن “محمد مظلوم” يمتلك قصة مغايرة، إذ لم يكن سياسياً محترفاً ولم يكن ينتمي إلى تنظيم سياسي محدد، ربما لذلك إلى جانب أسباب آخرى، رفض أن يحمل اسماً مستعاراً فقد خرج أصلاً من أجل اسمه الذي عاش به، ونشر به لأكثر من خمسة عشر سنة في العراق، لذا كان إصراره على الاسم الحقيقي كنوع من العناد، والتحدي المعكوس في أن يعزز هذا الاسم، ربما ليتخلص من المنفى المركب أو يُخفف من وطأته. يقول “مظلوم” كأن الوشاية هى الاسم المستعار، والحقيقة هى الاسم الحقيقي، لذلك كنت أخشي من الوشاية، من استعارة الاسم، كأنني أهرب من ماضي معين، والحقيقة أنني لم يكن لدي هذه الرغبة في الهروب.”
ذروة المأساة
ما أكثر ما رأيت في الحياة
لذا وضعت بوصلة الضياع ورحلت
وإن كان عليَّ أن أحيا مجبرا
ستجدني ذات يوم قتيلاً في الوديان البعيدة 
إنها أبيات شعرية للعراقي الراحل “آدم حاتم” الذي ما أن يبدأ رفاقه في سرد حكايته على الشريط الوثائقي حتى يتكثف الألم الحقيقي وتصل المأساة إلى ذروتها وأقصد بها إشكالية العلاقة بين الاسم الجديد والاسم القديم. كان “آدم” مشروع شاعر مهم، بل كان واحداً من أجمل الشعراء العراقيين طيلة العقود الأخيرة.. كان – كما يصفه “مظلوم” – في عينيه حيرة وسؤال وشغف، كان بعينيه حيوية وإنطفاء بذات الوقت. حيوية فيها شراسة، وإنطفاء فيه تعب من الحياة. كان “آدم” تركيبة من اتجاهات عدة؛ جيفاري، صوفي، واقعي، مادي، ماركسي – على حد وصف “ناهض”. كان كتلة فكرية غير متجانسة العناصر تحولت إلى الشعرية والتعبير عنها في السلوك اليومي والشعر الحقيقي. كان لايقرأ كثيراً، كان ابن الحياة أكثر من المؤلفات. كان يعيش الحانة والمقهى والشارع ويحب كتابة القصيدة. كان شاعراً له نمطه الخاص به الذي لا يمكن أن يتكرر. كان قاسياً مع نفسه، يعتبر قصائده خيول برية، لا يستطيع أن يضعها في اسطبل، لذا ترك قصائده مبعثرة من بعده، إلى أن جمعها أصدقاء المنفى في ديوانه يحمل عنوان “لا أحد”. 

ثلاث لقطات لابوحالوب..أشهر لاجيء عراقي في سوريا وربما في العالم بمقهى الروضة مكانه المفضل

لم يعد “آدم حاتم” إلي اسمه الحقيقي “سعدون حاتم الدارجي” إلا حينما توفي. وقتها لم يعرف كثيرون أن الاسمين لشخص واحد. كُتب الاسم الحقيقي في شهادة الوفاة وعلى شاهد القبور. سجل الموت نهاية للمنفى، لكنه فتح باباً آخر على المنفي من جديد، فذاكرة الناس لا تعرف سوى “آدم حاتم”.  
وهم العودة  
بعد عام 2003، وسقوط النظام العراقي السابق، أراد البعض أن يعود إلى اسمه الحقيقي لكن الحلم تحول إلى كابوس، وكأن وهم عودة بعض العراقيين المنفيين إلى أسمائهم الحقيقية أصبح يُعادل وهم العودة إلى العراق، أو وهم العودة إلى الفردوس المفقود. كأن خراب العراق يُعزز خراب وفناء الاسم القديم. إذا كنت تبحث عن عراقك فلن تجده فهناك عراق آخر لن يتعرف عليك، وإذا كنت تبحث عن اسمك القديم فقد صار اسماً مجهولاً لدى الناس وهناك اسم آخر ارتبط بك وبذاكرة الناس هو اسمك المستعار، فأيهما تختار مواصلة المنفى القديم أو البدء مع منفى آخر جديد؟! 
قرر الشاعر العراقي “فائز العراقي” بعد أكثر من ثلاثة عقود أن يعود إلى اسمه الحقيقي “ناهض حسن”، لكنه صار يشعر بوطأة الاسم الجديد كما لو أنه يعيش به للمرة الأولى حتى أنه أصبح يكتب اسميه الجديد والقديم، المستعار والحقيقي، على غلاف دواوينه ومؤلفاته. فيما رفض “أبو حالوب” العودة إلى اسمه الذي ولد به، لأن الاسم الذي امتلكه في المنفى صنع له فضاء كونياً يعرفه به العراقيون في مختلف بلدان العالم. ضاع “لبيد” بقوة اسم “أبو حالوب” الكوني الذي أصبح قيمة أكبر من الاسم الشخصي على الرغم أن الشاعر الكبير “محمد مهدي الجواهري” كتب قصيدة باسمه “لبيد” تندرج في باب الإخوانيات .  
تُرى هل فازوا أم خسروا أم أن الأمر ينطوي على فوز مشوب بالخسارة؟ تلك النقطة الجوهرية أيضاً بما تنطوي عليه من مشاعر دفينه يتوغل إليها “فجر يعقوب” بسلاسة ويسر ووضوح، تماماً كما أجاد المزج والتضافر القوي بانسيابية وعذوبة بين أزمة الأشخاص ومأزق الوطن، وذلك عبر جُمل مكثفة معبرة وكاشفة منها ما أوجزه “محمد مظلوم” في ثلاثة صور تعبر عن تواريخ ثلاثة ظلت لا تمنحه ولا تُثير فيه أي شيء من الأمل، أولها في عام 1979 عندما دخل صدام إلى قاعة الإجتماعات لكي يتهم 52 من كوادر حزبه، كان بينهم عشرين من القيادين البارزين، ليُؤدي بهم إلى الإعدام. الصورة الثانية حينما يسقط تمثاله فقد كان معادلاً لسقوط بغداد. هنا أصبحت المعادلة ظالمة برأي “مظلوم”، تماماً كما برأي كثيرين. سقوط طاغية أم احتلال “بغداد”، أيهما تختار؟ أما الصورة الثالثة فهى إعدام “صدام حسين”. وما بين هذا وذاك اندلعت حروب وشهدت البلاد مزيداً من أفعال القتل والإعدام. تعبر الصور جميعها عن الموت.. من 79 والموت موجود إعداماً وقتلاً.. وها هو “صدام” يصل إلى المآل نفسه.   
“عراقيون في منفى متعدد الطبقات” فيلم وثائقي مدته 43 دقيقة، عمل سينمائي مفعم بالسرد الشائق والمؤلم في آن، تتخلله حركة كاميرا رشيقة متابينة في أحجامها ولقطاتها وزواياها البليغة المعبرة والكاشفة عن تعاون هارموني بين كاتب السيناريو ومخرج العمل “فجر يعقوب” ومدير التصوير “رائد صنديد”، فانعكس ذلك على الصورة السينمائية التي جاءت ثرية موسومة بالزخم، جميلة ونابضة بأدق تفاصيل حياة هؤلاء العراقيون المنفيون والذين احتضنهم الأراضي السورية. أكمل هذا المثلث الإبداعي المونتير “فراس جواد” فحقق التدفق والنعومة في الإنتقالات البصرية والسمعية.  
أما مخرج هذا الشريط الوثائقي الهام “فجر يعقوب” فهو شاعر ومخرج وناقد سينمائي لديه قدرة على السير في طريق حياته الصخري، حاملاً فوق أكتافه بقايا أحلام مجهضة، وآخرى مؤجلة برحابة صدر، دون حنق أو ضيق. يستمد وقود المسير من شعلة آمال لاتزال متأججة، من رغبات سينمائية تحقق بعضها ولايزال الكثير في انتظار المخاض. نجح “فجر” في الجمع بمهارة بين الكتابة النقدية السينمائية وبين العملية الإبداعية في الفن السابع. إنتاجه المتنوع يتسم بالزخم فقد حقق أفلاماً روائية قصيرة ووثائقية بلغت العشر، كما أنجز سبعة عشر كتاباً سينمائية ولاتزال الأحلام تمتد وتتكاثر في ليال الصيف ونهارات الشتاء.  
تخرّج “فجر يعقوب” في المعهد العالي للسينما في “بلغاريا” 1994. فأنجز أول أفلامه “سراب” 1998، 15 دقيقة، عن قصة بذات الاسم للأديبة “كوليت خوري، من إنتاجه الخاص، وتمثيل كل من بسام كوسا ويارا صبري. في عامي 2003، و2004، حقق فيلمَين تسجيليين في بيروت هما “متاهة”، 4 دقائق، من إنتاجه الخاص، و”صورة شمسية”، 15 دقيقة، إنتاج تلفزيون المنار ومؤسسة غسّان كنفاني. ثم أنتجت له المؤسسة العامة للسينما فيلم “البطريق”، 18 دقيقة، 2004، تمثيل بسام كوسا ونادين سلامة، ثم عام 2009 شهد إنجاز فيلم “السيدة المجهولة”، 22 دقيقة، عن قصة بالاسم نفسه للأديبة كوليت خوري، إنتاج المؤسسة العامة للسينما، وتمثيل تاج حيدر ونادين. في 2010 أخرج “فجر” فيلماً من تأليفه وإنتاجه الخاص بعنوان:”This is my Casablanca.. أثر الفراشة”، 14 دقيقة. أما فيلمه التسجيلي “عراقيون في منفى متعدد الطبقات” فتمكن “فجر” من إنجازه عبر إنتاج شركة “صورة” للمخرج السوري “حاتم علي”. 


إعلان