حكّاء سينمائي ايراني اسمه عبد الوهاب

فجر يعقوب

( يرجى عدم الازعاج ) للمخرج الايراني محسن عبد الوهاب ، والفائزة بالجائزة الفضية في مهرجان دمشق السينمائي الأخير( 7 – 13 تشرين الثاني 2010 )  ، قد لا ينتمي  إلى ” تحف ” كياروستامي ومجيدي ومخملباف ، كما رأى فيه بعض المنقبين في كتابات الآخرين عن أصداء هذه الأفلام ، لجهة اعتماده على حوارات مطولة ، لاتقترب من البنية التلفزيونية التقليدية التي تنحو باتجاه تسطيح لغوي للحالات الانسانية المعمول علبيها في الشاشة الصغيرة . هنا في ( يرجى عدم الازعاج ) يجيء الحوار لا ليقلل من قيمة الصورة ، بل ليزيد من قوتها ، فليس بالضرورة أن تقل الحوارات لنقول إن هذه الأفلام وحدها هي نبع السينما الخالصة ، وإلا فإن أفلام  مخرج كبير مثل بيدرو آلمودوفار بهذا المعنى لايمكنها أن تستقيم أو تقيم معنى خالصا لحالها ، فهي تقوم على حوارات يعرف صاحبها كيف يوظفها ، ليس بوصفه ” ثرثارا كبيرا ” ، وانما حكّاء سينمائي كبير . هنا الفرق الذي قد لايدركه مثل هؤلاء المنقبين في هذه الأفلام بغية تأمين مقالة عن مهرجان هنا ومهرجان هناك ، وقد لايدركونه في أفلام أخرى ، لأنهم لايشكلون في السياق النقدي السينمائي حالة من أي نوع ، حتى يمكن الاحالة إليهم للاستزادة ، فقراءة في بعض هذه التنقيبات عن ” التحف ” المشار إليها قد تكشف عن نهج  كتابي ولغوي يصلح لأن يمرر فوق كتابات أخرى ، بنفس المعنى ، ونفس الايقاع ، ونفس اللغة  في مهرجانات أخرى ، من دون أن تتأثر تلك العبارات الوهاجة من مثل ” تحف ولغة سينمائية خالصة ”  بخلل النهج الكتابي المشار إليه ، لأنها تعد سلفا للكتابة عن المهرجانات المختلفة .
فيلم عبد الوهاب ، ينتمي إلى نوعية من الأفلام التي لاتهمل الصورة لحساب الحوارات الذكية واللماحة ، ولكنه يغوص في اللغة المواربة التي تصل إلى مجموعة أفكار تهم اليوم ايران المعاصرة . ايران القائمة على مجموعة من الرؤى والمفاهيم التي لايمكن استخلاصها إلا من هذه النوعية من الأفلام ، التي لاينقصها شيء للالتحاق بالتحف ، ولكنها تحف من نوع  آخر قد لاتسعد بعض هؤلاء المنقبين في كتابات الآخرين أو قد لاتسعفهم بشيء ، وهذا ليس هما سينمائيا استثنائيا ، بقدر ماهو ضرورة لقول كلمة انصاف بحق هذ ه النوعية التي طالما كانت موجودة ، وهي نوعية تنتمي في جوانب كثيرة منها إلى السينما الخالصة أيضا بوصفها أسلوبا مختلفا قائما بذاته .

محسن عبدالوهاب                                             مقدم البرامج ورجل الدين

ماالذي يقدمه هذا الفيلم الذكي للمشاهد وقد آثر بنية  خاصة به تختلف عن ”  تحف ” كياروستامي ومخملباف ومجيدي ؟
نحن نقف أمام  قصص ثلاث تبدو للوهلة الأولى متفرقة ولارابط دراميا بينها .  ولكن نزول في العمق من قبل المشاهد المتأني يكشف أن هذه القصص تستولد نفسها تلقائيا من خلال ذكاء اللعبة الدرامية التي يذهب عبد الوهاب من خلالها إلى نهاية اللغة وهي  تريد قول أشياء بالغة الدلالة حول صورة ايران كبلد وملتقى لكل أولئك الناس الحاضرين في الفيلم بقوة وسلاسة مدهشة.
في الفيلم يقودنا المخرج الايراني في الحكاية الأولى إلى صراخ من خلف الابواب المغلقة بين زوج وزوجته ، ففيما تريد الزوجة الغاضبة أن تذهب لحضور حفل زفاف صديقتها ، يرفض الزوج ذلك متعللا بأعذار شتى ، ولكن ضربه لها يكون مبررا لتقرر الذهاب إلى الشرطة وتقديم شكوى بحقه . يفقد الزوج عقله ، لأن صورته كمقدم لبرامج الاستعراض التلفزيونية سوف تهتز أمام المعجبين والمعجبات  الذين يتعرف بعضهم عليه بسهولة في الطريق إلى قسم الشرطة . يحاول الرجل أن يثنيها عن عزمها بمختلف التوضحيات والتبريرات من أن الرجل كان عبر تاريخه يقوم بضرب المرأة ، لابل أن جزءا كبيرا من تاريخه يقوم على ذلك ، ويوافق على ذهابها إلى حفل صديقتها شريطة ألاتتصور مع أحد ، حتى لايتعرف عليها أحد بوصفها زوجة المقدم التلفزيوني المعروف الذي انتقل من الكتابة الصحفية المهتمة بشؤون الناس إلى هوس التلفزيون والمجد والشهرة والمال . في قسم الشرطة وفيما هو ينتظر انتهاء زوجته من التقدم بشكواها يتعرف عليه الحارس ويقول له إن مشاهير كثر يأتون إلى هنا في تهم مشابهة وإن عليه ليكسب رضاها أن يشتري لها ثوبا فاخرا .

الزوج وزوجته                                                          ..والعلاقة المرتبكة

يتنكر المقدم التلفزيوني ويرفض الاعتراف بهويته المفضوحة على الملأ  ،  ولكن الحارس يصر على ” تبجحه ” مايغضبه وهو  الذي يجد نفسه بالفعل قد تحول إلى ببغاء تلفزيوني كما تصفه زوجته ، بعد أن تحول بمحض ارادته عن الاهتمام بقضايا الناس البسطاء . السيارة التي تقلهما معا تكون السبب الدرامي في الانتقال إلى الحكاية الثانية حين تكاد تصدم سيارة أجرة تقل رجل دين معمم من الأشراف كما سنعرف لاحقا ، فيصر السائق على مطاردتهما وسط توسلات رجل الدين بألايفعل ذلك ويتركهما لشأنهما ، ولكن هذه التوسلات تذهب أدراج الرياح أمام اصرار السائق الغاضب ، ومع طلب رجل الدين النزول تكون الكارثة باكتشاف ثقب في أسفل حقيبته أدى إلى ضياع ماله وليس لديه مايدفعه للسائق ، ولكن اتصالا هاتفيا من لص غير مرئي يؤكد له إن موجودات حقيبته معه ، وأن عليه ليستلمها أن يقوم بتقديم موعظة هاتفية لأمه المريضة . رجل الدين الذي يعمل كاتب بالعدل في الأساس يكاد يجن لأن وثائق مهمة تعود لعمله فقدها من الحقيبة أيضا ، وهو ماسيؤثر عليه وعلى زبائنه وبعضهم على عجلة من أمره مثل المرأة المتقدمة في السن التي تبحث في الزواج من شاب يصغرها بكثير عن مستقبل مشكوك فيه  ، مايجعل رجل الدين يرفض تزويجهما بحجة أنه يبحث في زواجه منها عن مالها ، وأمام اصرارها وعنادها يطلب إليها الذهاب إلى كاتب آخر ، ولكنها تزيد في عنادها بقولها إنه من الأشراف ولن تقبل بغيره . يكشف الحوار الذكي عن قدرة المخرج عبد الوهاب ، وهو كاتب السيناريو أيضا  على التلاعب بمصائر أبطاله ، وبخاصة أن هذا الكاتب بالعدل يخضع هو بدوره لتلاعب من قبل لص متوار وراء المعنى المجازي للعبة كلها ، فمايريده هذا الأخير لايتعدى ” تلفيق ” موعظة دينية لأمه المريضة مقابل تسليمه المال المسروق والوثائق المهمة التي يفتقدها الآن أكثر من أي وقت مضى ، فالرجل عالق في مكيدة واقعية ، لاتتناسب مع مكانته الاجتماعية ، ولكن المجاز أقوى منه ، اذ  يجد نفسه رهينة بيد اللص ، الذي يريد القول بالتواري ، إن النفخ في قربته لايساوي شيئا عمليا ، فكيف اذا لم يكن بوسعه دفع أجرة سيارة التاكسي وانجاز عمله المفترض أن يقوم بتأكيد موعظة هاتفية في شؤون الدنيا والدين ، وهي اللحظات التي يستسلم فيها على أدراج مكتبه ، مايدفع إلى الانتقال إلى القصة الثالثة في الفيلم ، حين تظهر امرأة عجوز أمامه  وهو في حال يرثى لها  وتسأله عن جاره . رجل الدين ، الكاتب بالعدل ليس لديه مايضيفه ، فاللص نال منه تماما ، وأصبح هو واقعا في المجاز أكثر مما هو واقف في مرمى المراة العجوز التي تقودنا نحو قصة رمزية ، تسهم برسم صورة أكثر وضوحا لواقع ايران المعاصر ، فالمرأة العجوز تقطن في بيت مع زوجها في بناية مهجورة ، وهي تعد العدة لمشاهدة مسلسل تلفزيوني محبب لها ولزوجها العجوز ، ولكن التلفزيون معطل ، وهما بحاجة إلى تقني لاصلاحه ، يمنعانه – للمفارقة –  من الدخول تخوفا منه ، فقد نهش الخوف  قلبيهما في هذه الصورة المرسومة بدقة ، ويدور بينهم حوارا عميقا وعبثيا في آن يكشف عما هو مخبوء في صدور الثلاث ، وكأن حال الزوجين المسنين  قد توقف هنا عند خوف غامض لامستقر له  قد لايليق بهما ، وقد تقدم بهما  العمر ، ولم يعد لديهما ما يخفيانه أو يلوذان به ، من شر الواقع المحيط بهما ، ولكن المخرج عبد الوهاب لايريد أن يخرج صفر اليدين من القوس المكمل  للحكاية في فيلمه ، فيقدم لنا تقني التلفزيون الشاب في وضعية مفاجئة حين يكشف لنا عن حمله طفلته الرضيعة معه في تنقله ، فهو لا يملك مكانا يتركها فيه أثناء عمله بعد طلاقه من زوجته ، وعندما تجوع الطفلة يرق لها قلب العجوز ، فتدخله وتطعمها  وسط احتجاج الزوج الذي يبدو أنه يعيش في عالم ساكن لايتغير من حوله ، أو هكذا يبدو له هو على الأقل ، حين يقوم بتناول مسدس صدئ معلق على الحائط ، يعود لوالده ،ويهدده به ، ولكن المسدس معطل ، والشاب أصبح الآن في الداخل ، أي أنه أصبح واقعا في عرينهما ، وقد انكشف أمامه ، ولكنه لايريد منهما سوى أجره ، ولحظة يستسلم فيها للرجاء بأمل مفقود ، ربما يعبر عنها بترك طفلته عندهما ، ويختفي من المشهد نهائيا بعد نواله أجرته .
( يرجى عدم ازعاج ) المنقبين في تحف كياروستامي ومخملباف ومجيدي ، وهذا أمر مهم  يكاد ينطبق عليه وحده ، فهو فيلم يقوم على بنية مختلفة . بنية ذكية لها قوام درامي مختلف قد لايعجب كل أولئك الواقفين على عتبات الصورة المختلفة ، وهم يبحثون عن ادعاءات يلوذون بها ، وقد يعجب من يجد نفسه مشدودا إلى حوارات ذكية تصلح لصناعة فيلم مهم ، وبطريقة لا تشبه أفلام الآخرين أيضا .


إعلان