ماهر أبي سمرا بعد عام.. متأخراً عشرين عاماً

بشار إبراهيم

يندر أن تمرّ اعتقادات خاطئة، دون أيّ ذنب، وبالتالي دونما عقاب!.. وقليلاً ما يحصل أن يؤجل الاعتقاد الخاطى فرصة تصحيحه إلى وقت آخر. فرصة تأتي بعد عام، أو ربما بعد عشرين عاماً..
في الدورة الثالثة من مهرجان أبو ظبي السينمائي، العام الماضي 2009، لم أشأ مشاهدة فيلم «شيوعيين كنا»، للمخرج اللبناني ماهر أبي سمرا. كان المهرجان قد أعلن، دون ملل، أن الفيلم غير منته، وبالتالي فالعرض أولياً، ليس إلا!.. واعتقادي الخاطئ، بجهل أو غباء، جعلني لا أشاهد الفيلم، ولا آبه لذلك، ظناً مني بأن من الأجدى لي أن أنتظر مشاهدة الفيلم منتهياً، بصورته الأخيرة، في العام التالي؛ 2010.
هذه المرة، شاء الاعتقاد الخاطئ القيام بتأجيل الغنيمة عاماً آخر. لم يشأ أن يعاقبني على خطل اعتقادي، وأن يتركني للحسرة التي لا تنتهي، والتي تجعلني أقتات من أطراف الندم، بل كان من فضائله أن ترك لي مهمة أن أعرف، ولكن بعد مرور عام كامل!..

المخرج ماهر ابي سمرا

هكذا كان لي أن أعود، هذه السنة، فأشاهد الفيلم، بعد مرور عام، وذلك خلال الدورة الرابعة من مهرجان أبو ظبي السينمائي، وأن ألتقي بهذا المخرج، الذي كان بالنسبة لي سراً منغلقاً، وإسماً غامضاً، لأكتشف فيه عالماً رحيباً منفتحاً على آفاق لم أكن أتوقعها، ولا أنتظرها. إنساناً بالغ الرحابة، فياض الطيبة، ممتلئ التجربة.
 من مزايا المهرجانات السينمائية في عالمنا العربي، على الأقل، أنها تمنحك فرصة الاكتشاف؛ فرصة اللقاء، والتواصل، والتعارف.. لتجد نفسك، بشكل أو بآخر، تكتشف وجهك الآخر، صورتك الموازية.. أو صورة من تبحث عنه. كل يأتي من تاريخه ووجدانه وأحلامه وطباعه.. ليكون اللقاء لحظة ومضة في الزمان.
يوم التقيت المخرج ماهر أبي سمرا، على الأدراج الصاعدة، أو الهابطة، من طابق إلى آخر، في قصر الإمارات، وفي ثنايا مهرجان أبو ظبي السينمائي، هذا العام 2010، لم أكن أتوقع للحظة أنني سألتقي بهذا النوع من البشر. ومن المؤسف أن جلّ اللقاءات كانت قبل أن تسنح لي الفرصة، أو برمجة عروض المهرجان، لمشاهدة فيلمه الجديد «شيوعيين كنا». ربما كان من حسنات تلك اللقاءات أنني تعرفت على الإنسان فيه، قبل المخرج. تعرفت على الشخص قبل إنتاجه. تعرفت على الجوهر فيه، قبل أن أتعرف على القول منه.
بغتة، سيسافر المخرج ماهر إبي سمرا، تاركاً للمهرجان رسالة، سوف يتلوها أحدهم، في حال فوزه بجائزة ما.. وسيكون أن تُقرأ الرسالة، المكتوبة على عجل. ستُقرأ نيابة عنه، وقد عاد ماهر أبي سمرا إلى بيروت، في الوقت الذي أعلن المهرجان أن فيلمه نال جائزة، وحظي بحسن استقبال من لجنة التحكيم، كما من جمهور المشاهدين.
غادر ماهر أبي سمرا المهرجان، دون أن يرمي تلويحة وداع. ربما كان ذلك من خجل. ربما لم يشأ إحراجنا، وهو المُبالغ في دماثته، ورقة حضوره، وخجله.. تماماً بما يتنافى مع تاريخه، الذي سنكتشفه في ثنايا الفيلم. يوم أن كان مناضلاً عتيداً. شيوعياً مبادراً، باحثاً عن التغيير. سابقاً لأقرانه. مقدماً أنموذجاً لفتى لبناني، طالع من قرية جنوبية، همّه السعي لتغيير العالم.
لا يمكن اختصار ماهر أبي سمرا، بهذا الفيلم، أو ذاك، من أفلامه. إنه أكبر من أفلامه، وأوسع، وأعمق. إنه ولد نابت من طين أرض قريته، متمرد على كل ما فيه. سيحاول يوماً في الفكر، والثقافة، والأيديولوجيا. ويوماً آخر في حمل السلاح، وأياماً أخرى في حمل الكاميرا، كما في التصوير الفوتوغرافي، كذلك في صناعة الأفلام الوثائقية.

من الفيلم

يثيرني فيلمه «دوار شاتيلا». أسمع عنه كلاماً كثيراً. بين الهمس والصراخ. ويشدني فيلمه «تلك الرائحة». وأسمع عن فيلمه «نساء حزب الله». وأنتظر جديده «شيوعيين كنا»، وأترقب هذا المخرج اللبناني المختلف. لأكتشف بين هذا وذاك من أفلام وثائقية، صورة الفتى ماهر أبي سمرا، الإنسان. ها نحن أمام صورة إنسان يعلو فوق هامة أفلامه. أمام مبدع أعلى من إبداعاته، وأعمق من قولاتها. أمام شخص انتمى للواقع، قبل أن يرهن حاله من أجل مهمة أن يحكي الوقائع.
لن يكون ماهر أبي سمرا طارئاً، ولا زائراً عابراً، ولا عيناً مراقبة.. إنه قبل ذلك كله، ومعه، وقبله، وبعده، من عايش وتعمق وعانى.. وكان مشروعها، على المستويين العملي والنظري.
رؤيته في «دوار شاتيلا»، الوثائقي العتيد، الذي سنتوقف عنده ملياً، ما هو إلا خطوة راسخة، واثقة، قوية.. بل أصيلة وحقيقية، لها من الذكاء ومن النباهة ما تجعلها استثناء.
وماهر أبي سمرا، استثناء. استثناء على كل المستويات. لقد عاش حياته استثناء. وبقي على قيد الحياة استثناء. ومارس تنقلاته استثناء. وسيقدم أفلامه الوثائقية استثناء. ولكنه هو شخصياً، وبتعامله مع البشر، لم يكن استثناء.. على الأقل بكل ما يعيشه من لطافة، ودماثة، وتواضع، وحبّ الآخرين.
في وثائقيه «شيوعيين كنا»، وعلى الرغم من حضوره الشخصي، ضمن جوقة الشخصيات، لا يستأثر ماهر أبي سمرا بالحضور. لا يطغى على الشخصيات الأخرى، ولا يقول قولها. مع إبراهيم الأمين، وبشار الحسن، وحسين ديوب، يغدو ماهر أبي سمرا فرداً.
إنه واحد منهم. شريك الحلم، وشريك الفكرة، وشريك الخيبة، أيضاً!.. لن يحاكمهم. ولن يحاسبهم. ولن يقتص منهم. سيدعهم يقدمون مداخلاتهم، ومرافعاتهم، وتبريراتهم، أو قل قراءاتهم لتحولاتهم. ماهر وفيّ لأصدقائه، صادق معهم، لا يعبث معهم، ولا بهم.
ماهر أبي سمرا، ابن العائلة العتيدة، في تلك القرية الجنوبية، والمؤهل له أن يفعل ما يشاء، سيلتزم المصداقية، ولن يحيد عنها. حتى لو خذلته القرية. لو خذله الحزب. لو خذله الأصدقاء.
سنعرف أن ماهر أبي سمرا، هو سليل تلك العائلة القروية، الجنوبية اللبنانية، التي شاءت منذ البداية، وفي وقت مبكر تماماً، أن تكون عائلة مناضلة، على المستوى الفكري النظري، كما على المستوى العملي، وبما يخالف السائد والمعتاد.. وسنعرف أي مستحيل كان على عائلته، بشكل شخصي، مواجهته وهي تقدم أنموذجاً عملياً تطبيقياً لاختراق المذهبي والطائفي والديني.. وسنعرف أي وفاء ما زال يمتلكه هذا المخرج الماهر، وهو يحرص على تفتيش أوراقه الخاصة، والنبش فيها.
«شيوعيون كنا». ذاك الفيلم الوثائقي. الذي حضر في الدورة الثالثة من مهرجان أبو ظبي السينمائي، على اعتبار أنه فيلم غير مكتمل، وقيد الاستكمال. والذي حضر مكتملاً في الدورة الرابعة من المهرجان نفسه. ونال جائزة كبرى. لم يكن في الحقيقة سوى إشارة إلى مخرج وثائقي لبناني مدهش اسمه: ماهر أبي سمرا.


إعلان