دمشق السينمائي : ملاحظات نقدية، وأخرى إحتفائية
صلاح سرميني ـ دمشق
رُبما يكون مهرجان دمشق السينمائي الدولي الوحيد من بين المهرجانات العربية الذي حالما تستقرُّ عجلات الطائرة فوق أرض مطار دمشق، يخرج الضيف من بابها، ويعبر الممر، وقبل وصوله إلى حواجز الهجرة، والجوازات، يتلقفه أحد موظفي الاستقبال، وينحرف به إلى قاعة الشرف الثانية، هناك، سوف يجد معظم فريق العمل في استقبال الضيوف القادمين من كلّ أنحاء العالم.
في تلك القاعة الصغيرة، وخلال لحظات الانتظار التي تقصر، أو تطول حسب الأعداد القادمة، تشعر بأنك ضيفاً على مهرجانٍ “سينمائيّ عائليّ”، وإذا جاء البعض من بلدٍ عربيّ واحد، مصر، تونس، أو المغرب، .. أتخيل بأنهم كانوا في جوف الطائرة يغنون، يصفقون، ويهرجون كما كان الحال في رحلاتهم المدرسية، أو الجامعية فيما مضى من الزمان القريب، أو البعيد.
ومثل والديّ العروس (أو العريس)، سوف تجد “رأفت شركس” الأمين العام للمهرجان، و”دينا باكير” مسئولة العلاقات العامة، وبهدوءٍ منقطع النظير، وحفاوةٍ بالغة، يستقبلان الضيوف أفراداً، وأفواجاً.
هذه أولى المظاهر الاحتفالية الحميمة التي يتميز بها مهرجان دمشق، وأعتقد بأنني لم ألقاها في مهرجان آخر، وعلى الرغم من التنظيم المُسبق، تشوب تلك الإجراءات بعض الارتباك الحتميّة، ولكن، يبدو جلياً بأنّ الضيوف يدركون الأسباب، ولأنّ الواحد منهم يعرف الآخر، سوف تكون فرصة لأحاديث جانبية، رُبما لن تتحقق فيما بعد عندما ينشغل هؤلاء بالأفلام، اللقاءات، الزيارات، الحفلات، وطقوس التسوّق، …لا يشعر الضيف بالتأفف، التذمر، الملل، ولا حتى إرهاق السفر، تختفي كلّ هذه المشاعر التي تصادفنا عادةً عند الوصول إلى المطارات.
تزداد الأحاسيس النرجسية عندما ينشطُ المُصوّر الخاصّ بالمهرجان في التقاط تلك اللحظات الاستثنائية، بينما تبدأ كاميرا إحدى القنوات العربية بتسجيل وصول الضيوف، وخاصةً النجوم منهم، وأمام الكاميرا يتقصعُ مقدم البرنامج مُحركاً خصره يميناً، وشمالاً مثل راقصةٍ شرقية، وبلهجته اللبنانية، وصوته الناعم يسأل أحدهم/إو إحداهنّ :
ـ شو إحساسك، وانت هلق بالشام ؟
وكالعادة، سوف تكون الأجوبة مُتشابهة، وبلهجاتٍ مختلفة.
![]() |
غلاف الدليل |
لقد نسيّ الجميع تأخير موعد إقلاع الطائرات من عواصم البلدان التي جاؤوا منها، واقتنعوا تماماً بحجة سوء الأحوال الجوية، المهم بأنهم وصلوا بأمانٍ، حتى وإن كان الوصول إلى فندق الشام في الثالثة صباحاً، ولا يوجد غير موظف، أو موظفة واحدة في مكتب الاستقبال لتوزيع الغرف على الضيوف، ولكنها سوف تكون دائماً فرصة إضافية لأحاديث اللقاءات الأولى كي يمضي الوقت سريعاً.
وعلى الرغم من الوقت المُتأخر، لا يتوانَ البعض عن الجلوس في بهوّ الفندق الدمشقيّ الطراز يكملون أحاديثهم، وكأنهم لن يلتقوا مرةً أخرى في الأيام التالية .
في الصباح، سوف تتوّجه خطوات الضيوف العارفين نحو الطابق (ES) للفندق، ويكفي بعض الدقائق فقط للحصول على كلّ المُستلزمات الخاصة التي يحتاجها الضيف : بطاقات الطعام، والمشروبات (وهي خاصيةٌ دمشقيةٌ بامتيازٍ تُوفر علينا الأسعار النارية في مقهى الفندق)، محفظة تحتوي على الدليل الرسمي العملاق، برنامج العروض، دعوات الافتتاح، والختام، قائمة بعناوين الكتب التي صدرت عن المُؤسسة العامة للسينما (ثقافةٌ سينمائيةٌ بالجملة لمن يرغب لن نجدها في أجدع مهرجانٍ عربيّ، أو دوليّ)، دفترٌ، وقلمٌ لم يريد أن يعمل، وخرائط سياحية لمن ينويّ زيارةً حرةً لمدينة دمشق(إحدى الأهداف الأساسية المشروعة للمهرجان، وأيّ مهرجان).
ومنذ تلك اللحظات، سوف يبدأ اليوم الأول، وعادةً، كما حال كلّ المهرجانات العربية، هو يومٌ مفتوح حتى السابعة مساءً موعد حفل الافتتاح الذي يُوليه مهرجان دمشق عنايةً كبيرةً، ويُعتبر إحدى العلامات المهمّة لهذا المهرجان، ولن تجد ضيفاً واحداً لا يُشيد به.
فنجان قهوة مُركزة في شرفة مقهى الفندق المُطلة على الشارع، متعةٌ فائقةٌ لمُغتربٍ مثلي سوف تتحول في الأيام التالية إلى عذابٍ عندما تصبح روتينية، ومزعجة بسبب عدم الانصياع لقرار جمهوريّ يمنع التدخين في الأماكن العامة (هل يتوّجب على السلطة التنفيذية بأن تضع شرطياً خلف كلّ مُدخن؟).
![]() |
على التوالي: رياض عصمت، محمد الأحمد، ريمون بطرس |
الدليل الرسميّ للمهرجان
عادةً، لا أتصفحُ الدليل الرسميّ خلال متابعتي لأيّ مهرجانٍ سينمائيّ عربيّ، وأفضلُ اكتشاف فعالياته يوماً بعد آخر، وأقضي أيامي أشاهد الأفلام انطلاقاً من برنامج العروض فقط، وأتخيّر دائماً الابتعاد عن أفلام المُسابقة، والنبش في التظاهرات المُصاحبة التي تجعلني أكتشف، أو أعيد اكتشاف أفلاماً لم أشاهدها حتى اليوم، وتُمثل الأفلام القصيرة أولى اهتماماتي بفضل تواصلي الدائم معها، ومعرفتي المُعمّقة لها، واقتناعي الدائم بأنها الأكثر خصوبةً إبداعيةً من الأفلام الروائية الطويلة التي تخضع عادةً لآليّات دورات التوزيع التجارية.
يحافظُ الدليل الرسميّ للمهرجان على أناقته، ولكنه ما يزال ثقيلاً، يحتاج إلى “هرقل” لحمله، ومراجعةٍ شاملة تُقلص من صفحاته، وتجعل محتواه أكثر جذباً للقراءة (أتمنى من إدارة المهرجان الإطلاع على الدليل الرسميّ للدورة الأخيرة لأيام قرطاج السينمائية).
اللافت للانتباه، بأنّ المهرجان قد تخلى عن شعاراته السابقة(سينما، ومكان، وتحيا السينما)، ….ونقل العدوى إلى زميله مهرجان القاهرة (مصر في عيون العالم)، وتخيّر هذه المرة تصميماً بسيطاً يقترب من السينما أكثر من الحارة، والسيف الدمشقيّ،….صورة “شارلي شابلن” تتكوّن من كولاج كلمات عنوان المهرجان بالعربية، والإنكليزية ماعدا رأسه، وعصاه، وعلى اليمين جزءٌ من النصب التذكاري الذي يُميّز مدينة دمشق، وهكذا جمع المُلصق بآنٍ واحدٍ بين أحد الرموز السينمائية، والمدينة.
يسعى المهرجان في المقام الأول إلى تحسين صورتنا أمام أنفسنا، والآخرين، وبالآن ذاته، تحقيق رغبة سياسية/سينمائية، ومُسبقاً، أتوقع اتهامي بالمُحاباة، ولكن، ماذا يريد المُعترضون أفضل من ناقدٍ سينمائي”محمد الأحمد” كي يتولى إدارة المُؤسّسة العامة للسينما، ومهرجان دمشق الذي جعله سنوياً، وهذا يعني ـ على الأقلّ ـ مضاعفة الإنتاج السينمائي كي تُشارك الأفلام في المُسابقة، وخارجها.
ابتعادي عن المكان عذرٌ يكفيني، ويعفيني من البحث عن نقائص المهرجان في كلّ عرضٍ، فيلم، صالة، وخطوة من خطوات “محمد الأحمد”، وهل يتوّجب عليّ الكتابة “الشرسة” عن المهرجان كي يرضى عني الآخرون، وبعض نماذجها “الساطعة” توجهت بعنفٍ نحو مهرجاناتٍ سينمائية حضرتها، وكتبتُ عنها بدون خوفٍ من إقصائي في الدورات اللاحقة (الدورة الأولى لمهرجان دبي السينمائي2004، الدورة الأولى لمهرجان الفيلم العربي في وهران 2007، الدورة الثانية لمهرجان الشرق الأوسط في أبو ظبي 2008)، وإذا كانت مسيرتي النقدية قد بدأت يوماً في صحيفة “الجماهير” الحلبية، ومن ثم “الثورة” السورية، وتابعت مسيرة مجلة “الحياة السينمائية” منذ بداياتها، فلماذا أعبر عن موقفٍ سلبيّ تجاه مهرجان دمشق السينمائي الدولي، وشخصياتٍ في قلب الثقافة السينمائية، والمسرحية مثل وزير الثقافة السابق “د.رياض نعسان آغا”، والحالي “د.رياض عصمت”، ومدير المؤسّسة العامة للسينما، والمهرجان الناقد السينمائي “محمد الأحمد”، ألا تستحق السيرة المهنية لهؤلاء، بغضّ النظر عن مسئولياتهم الحكومية، الكثير من الاستحسان، والتقدير ؟.