عبد السلام شحادة: أريد البوح أكثر.. فعدوي لا يخجل

رسالته في فيلم “إلى أبي” العودة للصور

خلف قصة كل فيلم جيد فيلم أخر، يتجاوز الموضوع ويثريه بمقدار ما يقوم بإنجاز عملية تفكيك محبب للفيلم ذاته. لا نتحدث هنا من منطلق ضيق بل نتقصد ذلك لايماننا بحقيقة أن الحكايا لا تكتمل، فدوما هناك ما يستحق الحديث عنه بعد الانتهاء من أي فيلم معبأ بالصور والأفكار والرؤى، فكيف والحال عندما تكون الصورة هي الموضوع، والقضية معا.
نتقصد هنا تجربة المخرج الفلسطيني عبد السلام شحادة سواء في تجربته السينمائية التي تمتد على أزيد من 20 عاما أو في تجربته الأخيرة في فيلم “إلى أبي” 2008 التي نال عليها الكثير مما يستحق من إطراء وإشادة.
وفي هذا الحوار مع عبد السلام نتحدث ليس عن قصة فيلم “إلى أبي” فقط بل خلف مشروعه السينمائي كله، الذي هو بالضرورة فيلما جميلا ومثيرا للاهتمام، وفيما يلي نص الحوار
:

حوار: سعيد أبو معلا

من يدقق في تجربتك السينمائية يجدها متمايزة، وتحفر لنفسها عميقا، أخيرا فيلم “إلى أبي” ولا يكفي أن نقول أنه مدهش فنيا وطرحا فكريا، كيف تحقق ذلك؟
حاولت بأفلامي أن أذهب لنموذج مختلف، أخلق فيها حالة من التميز، منبع ذلك من علاقتي بالتصوير والصورة، فمنذ كنت صغيرا خلقت وشكلت لقطات في رأسي، دوما كان هناك تصوير بالذاكرة التي تراكم كل شيء، وهذا أثمر علاقة خاصة بالصورة التي تراكمت لتشكل مجموعة كبيرة من المشاهد.
أحيانا لا أرى نفسي من أقوم بتركيب الفيلم أو من أصنعه، فالفيلم فعليا موجود على شكل صور في رأسي، فينحصر دوري في ترتيب هذه الصور حسب التجربة التي أمر بها.
كل ذلك يسير ضمن وجعي وإحساسي ومشاعري ومسؤوليتي تجاه المجتمع كسينمائي. مثلا كان لدي قلق على المجتمع الفلسطيني منذ سنوات لما يحدث به حاليا من تشظي وضياع وخلاف، ولذلك كانت إسرائيل بالخلفية في جميع أفلامي ومنها “الظل”، و”الأيدي الصغيرة” و”قرب الموت”..الخ، كانت هناك مؤشرات وهو ما حصل بعد سنوات، وأصبح اليوم موجود حيث الاقتتال وحالة الانقسام. مثال أخر العنف الاجتماعي الذي هو موجود داخلنا، ويتمثل في عنف ضد الولد والأخ، ضد الأسرة وأفرادها المقهورين، نراه في أم مقهورة، من زوج عابث ولديه ضغوطه، الاعتقال وأثره، دوما كان هناك هاجس في أفلامي.
ثم صار لدي شعور أن الفيلم وطني كما في “إلى أبي”، طالما أصبح الوطن متصارع عليه، الفيلم صار وطني الذي لا يمكن لاحد أن يتلاعب فيه، وبالتالي وضعت روحي وأشيائي الصغيرة فيه، اشيائي الشخصية والبوم صوري، وهو ألبوم يشبه ألبوم أي فلسطيني، فيما يكون دوري أنا متمثلا بالكشف عنه وجعل الناس تراه، وخاصة أمام حالة الخوف والتمزق الذي وصلنا.

تقول في الفيلم أن صور الماضي حملتك بعد أن فقدت التوازن بفعل التأرجح المستمر أو فقدانك للثقة بالأشياء، هنا تعاملك أو علاقتك مع الصورة ليست ميكانية بل نراها روحية متجاوزة؟
هي علاقة روحية، مثلا وأنا بغزة وعندما شاهدت حالة الكراهية التي نبتت واشتدت بقسوتها أخذت بالبحث عن بطل لفيلمي الجديد، فذهبت لعبد السلام شحادة الطفل، بسذاجته وعفويته.
ذهبت للبطل الذي لديه ذكريات حلوة وجميلة، أردت الابتعاد أولا، وحاولت ثانيا أن أجعل الناس ترى التغيير الكبير الذي حصل بالمجتمع عبر الصور وعلاقتي بالصورة والكاميرا والتغيرات التي طرأت عليها، وكأن التغير ما بين الكاميرا الثابتة وصورتها الفوتوغرفية القديمة والكاميرا وصورتها الملونة اليوم هو تغيير في واقعنا الفلسطيني الداخلي، تغييرا جلب الألم والحزن.
 
زمان كان البحث عن الصورة الملونة بصفتها تحمل زهوا وجمالا مضاعفا لكن التغييرات التي رافقت هذا التطور في علاقتنا ببعض وانعكست على الصورة أصبحت عاملا سلبيا؟
الأمر أكبر من ذلك، مثلا أنا كمصور فقدت أدواتي، أصبحت عاجزا عن أن أكون مصورا، فالصور تفرض علي، فجأة ترى انفجارات، أحياء يتم تدميرها، شهداء تحت التراب، أنها صورة العدو، يصنعها بوحشيته، وتفرض علي كمصور، في حين أن فهمي لدوري كمصور يتمثل في أنني من أقوم باللعب بالصورة، فالصورة تكوين وأنا أشتغل عليها، لكن صوري في غزة  هي صور الاخر هو الذي انتجها وفرضها علي كمصور ومن ثم على المشاهدين.

إذا بين أن تكشف الصور الدمار هناك مقصد أقوى لدى مسببه يتمثل في تدمير كل من يراها أو اخافته.. هنا الوثائقي عندما يحاور هذا الدمار والقتل الوحشي الدموي الهائل كيف يفترض به أن يفعل، وكيف ترى مشوار توثيقنا كفلسطينيين؟
بشكل عام وبالعودة لمسألة التوثيف نرى أن فترة الأربعينات والخمسينات وحتى الستينات كانت فترة ضائعة فلسطينيا حيث لم يتم توثيقها، هنا علينا التأكيد أن الإسرائيلي يخاف التصوير والتوثيق. ورغم ذلك فإن الصورة هي الوحيدة التي انتصرت للشعب الفلسطيني ودافعت عنه، لكونها نقلت الوجع وحالة الاستفراد فينا، كان الهدف أن لا يسمع فينا أحد أو أن لا يدري أحد ما يجري في هذا المكان من العالم.
وبالعودة للانتفاضة الأولى نلحظ ظهور بعض المخرجين الذي تصدوا للهم التوثيقي، هنا أجد أن الحالة الفلسطينية هي التي أوجدت هؤلاء، الانتفاضة مثلا أعطتني الزخم والدور والفرصة لأقوم بدوري، وعندما أطرح سؤال: لماذا أوثق وأقوم بالتصوير؟ أجد الجواب سريعا “كي يرى العالم”. وهنا لا أخفي عليك فقد كنت أشعر أحيانا بأني كمن يحكي مع ذاتة، لكني كنت أقول لا، هناك إنسانية موجودة، ولغة سينمائية يفهمها العالم. مثلا “قوس قزح” عندما عرض باليابان فاز بالجائزة الأولى، الياباني عاش جزء من تجربتنا.

لقطة من فيلم: إلى ابي                                                       المخرج عبدالسلام شحادة

ماذا عن الأفلام التي تعجر عن التعامل بمثل حسك الفني بمضمون الصورة التي تتضمن الدمار والقتل ومسببات الحزن والألم؟ الا يقود ذلك لنتائج عكسية؟
لا أرى الأمر هكذا، بمقدار ما كان هناك انكسار داخلي هناك أمل، هنا لا أريد ان ازاود على المخرجين الفلسطينيين وأحاكمهم، لكنهم عملوا وأنجزوا. عبر أفلامي أحاول خطف المشاهد والإمساك بقلبه، أو أن أوجعه، كما لا أبخل عليه بمنحه لحظات يعيش فيها مع خياله وأخرى أحقق له فرح ما، وبشكل عام أرى أن السينما عليها أن تغيرنا.

الحالة الفلسطينية في مأزق حقيقي، كيف حاولت أن ترمز له في “إلى أبي”؟
بداية عندما تنظر إلى محيطك تجد فيه الفنتازيا، والأفلام الوثائقية الذي يفترض بها أن تكون واقعية أصبحت غير واقعية وغير منطقية، فهناك عدو مجرم حول الواقعي إلى فنتازي وخيالي وغير معقول وهذا أولا.
ثانيا هناك سؤال مصيري في فيلم “إلى أبي” رمزت فيه إلى كم نحن تنازلنا، كم أصابنا الضياع، مثلا في الانتفاضة الأولى كانت الأمهات تهجم على الجندي الإسرائيلي لتخلص ابنها منه، سؤالي كان: لماذا لم تقم هذه الأمهات عندما كانت ترى ابنها (من فتح أو حماس) عندما يرتدي البدلة العسكرية ويريد دخول المواجهة ضد رفيقه في الكفاح بسحبه من هذا الجحيم؟ لماذا لم يكن هناك خوف اجتماعي؟ هنا صار عندي جدلية، جدلية أن أحلامنا ضاعت، تبعثرت، صورنا الجميلة التي كانت كلها بالأبيض والأسود مع بعضنا البعض، والتي كانت تحمل ابتسامات وود للكاميرا، كان فيها حضور للحضن الدافيء، أصبحت كلها مليئة بالأسلحة والقتال بالشوارع، هذه الأشياء هي التي دفعتني لفقدان التوازن، لكن العودة لصور الماضي أنقذتني.

لماذا وصلنا إلى هنا، هل هناك إدانة ما للصورة بفعل ما نتعرض له من قتل وحشي ودموي ينقل لنا عبر الصور في نشرات الأخبار لدرجة أعتدنا هذه الصورة وما تتضمنه وتحتويه؟
إسرائيل تعمل على الذاكرة، حيث تحاول تهشيمها، على الصعيد الجغرافي أو على صعيد الإنسان، إسرائيل غيرتنا من الداخل وهشمت عقلنا، شخصيا وبمعنى ايجابي وإنساني يجب أن تحاسب إسرائيل على الهواء الذي تنفسناه كفلسطينيين بوجودها كمحتل، هذا المشهد الفنتازي في كل مكان غير معقول، تجد الحاجز في كل منطقة، والمستوطنة كذلك، وكأن المحتل هنا يجعل ذاته جزءا من حياتي، يزرع نفسه في ذاكرتي.
المصيبة هنا أننا نعاني من ضعف في مجال التوثيق، في فيلم “إلى أبي” حملتني الصورة القديمة في لحظة ضياع، أنا جزء من هذا المجتمع حيث أرى الصراع الداخلي بالتحول العظيم والنتيجة الخطيرة التي وصلنا إليها.
أحاول أن أترجم ذات المعنى من التناقض والتغيير أكثر في فيلم “البقجة” الروائي الذي أعمل عليه حاليا، حيث عندما جاءت أوسلوا تغيرنا ووضعنا نظارات ولبسنا بدل وركبنا سيارات، واعتقل هذا الشاب رفيقه في النضال، إنها حالة من الفزع أو الخوف التي نعيشها، وبدل البحث عن وطن أعيش فيه بسلام اجتماعي فلسطيني، أصبحت خائف من الفلسطيني وليس الإسرائيلي.
هنا أجد أننا وضعنا شعارات لم نصل إلى ربعها في التطبيق، وذلك يدفعنا للعودة للصورة القديمة التي تحمل الأحلام، كي أقول للناس لنهتم بصورنا أكثر. تخيل معي أنه يمكن ان نجعل غدا أحلى وأجمل بالصور، وكأني هنا لا أريد ان أصدق الواقع، وبالتالي أريد دفع الناس إلى ذاكرتها.

في فيلم “قوس قزح” تبدو محتضنا الكاميرا بشكل حميمي وكأن السر فيها؟
“قوس قزح” هو اسم العملية الإسرائيلية على قطاع غزة، هنا نرى كيف حول الإسرائيلي الجمال وأشكاله وألوانه إلى جزء من وسيلة تهشيم المشهد الجمالي. حاولت فيه أن أجعل الناس ترى كسينما ما تتعرض له، وكذلك أشركت إبراهيم الفنان، كي أمنحه الفرصة ليعرض رؤيته الفنية للدمار من خلال الفيلم: فكيف يرى الحالة الدموية التي نعيشها، فنحن من بيئة واحدة وقلقنا واحد، نعبر معا، بشكل جماعي، لا يجب ان نكون فردانيين او أنانيين في طرح القضية، عندما تشرك شخص أنت تورطه لكنه ليس بالأمر السيء بل تورطه بالجانب الإنساني، انها ورطه جميلة وتجعله يعبر معك عن الحالة المجنونة.
وتفاصيلنا كثيرة، وتفاصيل عبد السلام تشبه تفاصيل أي واحد لكن ربنا خلق خصوصيات لكل واحد، ولذلك اقول لاي شخص ان يكتب تجربته وعلاقته بما حوله، أنا شوي بخجل لكن أحيانا أقول لنفسي يجب ان أبوح أكثر، يجب ان يكون الصوت أعلي، لان الأخر/ العدو لا يخجل.


إعلان