عندما يصبح الانتظار شعراً، والسفر قصيدة

صلاح سرميني ـ باريس

الحياة التي نعيشها هي من إبداع الخالق، ولهذا، فإنّ السينما ليست الحياة، ولن تكون، والفيلم السينمائي ليس انعكاساً للواقع، ولا مرآةً  له، إنه باختصارٍ خيالٌ مكثفٌ في مدةٍ زمنية معينة، يتجسّد عن طريق مفرداتٍ جمالية للصورة، والصوت، تُشكل في مجموعها لغةً فيلميّة، يختلف استخدامها من مخرج لآخر، ولهذا السبب، تمهل الإيرانيّ “علي رشيدي فر” في الكشف عن موضوع فيلمه التسجيلي القصير SAFAR (THE JOURNEY) سفر(14 دقيقة، إنتاج 2008)، وتعمّد وضع المتفرج في حالة ترقبٍ هادئٍ قبل إغراقه تماماً في نشوة الفرجة، والمُتعة الخالصة بعيداً عن أيّ أهدافٍ “كبيرة”.
واختياره للأبيض، والأسود كمُفردةٍ لونية للصورة، يدحض فكرةً ساذجة، مغلوطة، وشائعة، تعتبر السينما، والفيلم التسجيلي تحديداً، انعكاساً للواقع .
قبل العناوين، “لقطةٌ متوسطة” لأقدامٍ تتحرك في كلّ الاتجاهات بـ”حركة مُبطئة” في الصورة، و”موسيقى” تطغى على “المُؤثرات الصوتية الملغية” بدورها تماماً…
لقطةُ واحدةُ فقط تستخدم بعض المُفردات الجمالية، تؤكد بأنّ الواقع شيئ، والفيلم السينمائيّ شيئ آخر، كما الكلام العاديّ بين البشر، والشعر، ومثل الألوان المُحيطة بنا، واللوحة التشكيلية، وكحال المألوف من حياتنا، والإبداع .
في اللقطات التي اختارها “علي رشيدي فر”، تتسللّ الإضاءة من مكانٍ ما، وتمنح الظلال، والأشباح تبايناتها اللونية الرمادية.

المخرج الإيراني على فر

الإضاءة، والعتمة هما الركيزة الأساسية للبناء اللونيّ للفيلم، ذلك الشخص القادم من الخارج تغمره إضاءةٌ حادة لا تُظهر أيّ تفاصيلٍ للمكان خلفه، وكأنه يُبعث إلى الحياة من جديد.
حتى تلك الدقائق من الفيلم، لا يُحدد المخرج المكان، والزمان، وتدريجياً، يكتشف المُتفرج بأنّ الكاميرا ترصد انتظار مسافرين في قاعة انطلاق حافلات سفر.
“انتظار”، “مُسافرون”، “مُودّعون”، “مركز انطلاق”، “حافلات سفر”، مفرداتٍ تمنح الفيلم بعداً إنسانياً، ورُبما روحانياً.
وهكذا، بعد أن كشف المخرج عن موضوعه، يستخدم لقطاتٍ عامة أطرتها عدسة الكاميرا في تكويناتٍ مدروسة تنضح بتوازنٍ تشكيليّ للكتل، والمساحات المكانية، والأشخاص.
الكاميرا بعيدة عن المُسافرين، والمُودعين بما يكفي، هي بالأحرى تتلصصّ عليهم، تسرق صورهم، تُصورهم من الخلف، ولكنها ليست كاميرا مراقبة تلتقط كلّ ثانية من حركاتهم كي تحفظها في أشرطةٍ مُوثقة تاريخاً بهدفٍ استخدامها لأغراضٍ أمنية.
الموسيقى شرقية، متواصلة، خشنة نوعاً ما، ولكنها حانية بقدرٍ يبعث على الانتشاء، وفي لحظاتٍ ما، عندما تقترب الكاميرا من المُسافرين المُنتظرين، تنتصب أمامهم، وتؤطرهم في لقطاتٍ متوسطة، نُدرك بأنّ المخرج، وعلى عكس الاستنتاج المُتسرّع أعلاه، ليس لصاً، ولا مُتلصصاً، هم يعرفون الآن بأنه يُصورهم، ويمارسون معه لعبةً مُشتركة، يتركونه يستمتع بتلقائيتهم، صامتين، راضخين، نائمين، ساهمين، ذاهلين، أو يشغلون أنفسهم بعملٍ ما، مكالمة هاتفية، أو التثبت من مواعيد سفرهم.
وحده، المُتفرج، لا يشعر بتدفق الزمن، وحالة الملل الجاثمة على صدورهم، حيث تضعه حدّة موسيقى أوركسترالية في حالة تحفز.
من مرحلة الانتظار، والاسترخاء، إلى الاستعداد، والحركة، يقترب موعد السفر، ويبدأ السائق، ومعاونيه بتنظيف حافلاتهم، هنا، يُكثف المُونتاج الزمن، يصبح أكثر سرعةً من بداية الفيلم، ويُهمل عمداً تفاصيل كثيرة.
عندما تتحرك الحافلة، تُظهر الصورة مقدمتها مع سماءٍ مليئة بغيومٍ مُستعجلة، لقطة تُوحي بأنّها هبطت من السماء، أو صعدت إليها، تبدو مثل مركبة تطير بين الغيوم، وتُعيدنا إلى الجانب الروحانيّ المُفترض في الفيلم الذي لا يبدو توثيقاً، أو تسجيلاً لتفاصيل رحلةٍ ما، إنه بالأحرى قصيدةٌ سينمائيةٌ عن الانتظار، السفر، والحياة الفانية (رُبما).
لقد وصلت الحافلة، بدأت الاستعدادات سريعة، والوداع المُقتضب، ومع الدخول إلى جوفها، يبدأ انتظارٌ من نوع آخر، المُودعون ينتظرون أيضاً، تنعكس الصور في المرايا، وزجاج الشبابيك، الحركة البطيئة للصورة مرةً أخرى تُعيدنا إلى الجانب الحلميّ للحدث.
في الجزء الأخير من الفيلم، الثالث، احتفاءٌ بالحافلة نفسها، والطريق، حيث الموسيقى مُتسارعة ومتصاعدة، وبالأحرى جنائزية، تتداخل اللقطات مونتاجياً فيما بينها.
فجأةً، تقتحم الشاشة عتمة مُخيفة، وصوت ارتطامٍ مُفزع، رُبما يكون أحد المُؤثرات النادرة في شريط الصوت.
هل هي مفاجأة غير مُتوقعة سوف تحوّل الفيلم إلى حكايةٍ بائسة، ومُوجعة ؟
لقطة عامة مأخوذة من زاويةٍ منخفضة في وسط الطريق تُظهر الشريط الأبيض المرسوم على الإسفلت يمتدّ من أسفل إطار الصورة وحتى عمقها، مُتوازنة التكوين، ليس فيها ما يدلّ على حادثةٍ ما، أو أمر مفاجئ.
ما هي الحكاية إذاً ؟، لقد ظهرت الشاشة السوداء بالضبط مع ذروة الموسيقى، وأوحت بنهاية الفيلم، ولِمَ لا ؟ رُبما يرغب المخرج في هذه اللحظة بالذات التأكيد على الجانب الإنسانيّ، والروحانيّ أكثر من الهدف التسجيليّ، باعثاً رسالةً عن الحياة، والموت  .
وعلى عكس المُتوقع، يُكمل الفيلم مشواره، لقطة أخرى لانعطافة الطريق، وثالثة للسهول، والجبال المُترامية، تحتفظ بزمنٍ كافٍ على الشاشة لإدراك تفاصيلها، هنا، يقدم البناء المونتاجيّ انتظاراً من نوعٍ آخر، مُقلقٌ هذه المرّة، باتساع اللقطات، مدتها، وصمتها، ولكن، لا شيئ يدلّ على حدثٍ مُفجع.

لقطة من فيلم سفر

ومن هذا السكون الذي تغرق فيه اللقطات المُتمهلة، تعود الموسيقى، وينطلق خرير مُحرك الحافلة التي نراها من زاويةٍ منخفضة تتقدم نحو عمق الصورة حتى تختفي تماماً، بالأحرى، كانت الكاميرا مُسترخية في ذلك المكان تنتظرها، رُبما سبقتها لمسافاتٍ، وانتهزت الفرصة للاحتفاء بالطريق، والطبيعة حتى وصولها.
وفي نهايةٍ مُتفردة، مشحونة بالإنسانية، وردّ الجميل لهؤلاء المُسافرين، الشخصيات الرئيسية لهذا الفيلم القصير، البسيط، والمُؤثر، يتخيّر المخرج لقطاتٍ كبيرة لوجوههم يتطلعون إلى الكاميرا، وكأنها المُتفرج نفسه، صامتين كعادتهم.
لا تخفي نظراتهم حزناً غريباً، قدرياً، أتصوره اختياراً من الشخصيات نفسها التي امتلكت الفرصة للابتهاج أمام كاميرا.
أطفالٌ، نساءٌ، شبابٌ، وشيوخٌ، وكأنهم يقفون أمام مصورٍ فوتوغرافيّ لالتقاط صورة تذكارية، أو إدارية، أو سائح أجنبيّ مذهولاً بالبشر، والمكان.
يحتفي المخرج بهم، ويُبادلهم حباً بحبّ، وبالمُقابل، يجعلنا نحبهم، ويُشعرنا بأنهم أفراد عائلةٍ واحدة، عائلتنا.
يقدم لهم أعظم هديةٍ لتخليدهم، وبدون الكاميرا لما تعرّفنا على صورهم الجميلة، الناصعة، النقية، التي تخلت طوعياً عن ألوانها، واستغرقت في جانبها الحنينيّ بالأبيض، والأسود.
وفي لقطةٍ واحدة، وأخيرة، تتداخل صورة السائق يحتضن المُقوّد بصمتٍ مُتوحداً مع الحافلة، والطريق.

هامش:
في مرحلة التشذيب الأخيرة لهذه القراءة، وبناءً على اتصالٍ مع المخرج للحصول على صورٍ من الفيلم، وصلتني منه رسالة يكتب فيها:
“خطرت لي فكرة انجاز هذا الفيلم قبل عاميّن، عندما توفى صديق لي إثر حادث سيارة بينما كان في رحلة سفر…”.


إعلان