“عصافير النيل” العودة للنبع بين الفن والمضمون2
أمير العمري |
التأثير الأدبي
الرؤية الأدبية تلقي بظلالها على فيلم عصافير النيل”، تمنحه الكثير من قيمته، وفلسفته ورؤيته وصوره الأخاذة بفضل مدير التصوير الكبير رمسيس مروزق، الذي يعرف كيف ينتقل من النهار إلى الليل، ومن الليل إلى النهار، وكيف يستخدم ببراعة المصادر الطبيعية للضوء. ورغم ذلك، يعاني الفيلم من الترهل في الإيقاع، عند الكثير من المحاور، مما يكاد ينسف الفيلم لولا أن مجدي يتمكن بحرفيته العالية، من شد المتفرج مجددا إلى الشاشة.
والمشكلة أن سيناريو الفيلم استسلم كثيرا لسطوة الأدب، والرغبة في التعبير عن الكثير من الأفكار الأدبية الكامنة في الرواية، مما أدى إلى شيوع بعض الاضطراب في الفيلم.
ويمكن القول هنا: إن ليس كل ما يرد في العمل الأدبي من “أفكار”، يصلح بالضرورة لكي يدخل إلى سياق الفيلم، ما لم تتم معالجته بطريقة لا تفقده قيمته البصرية وعلاقته “الخارجية” مع الصور واللقطات والمشاهد الأخرى في الفيلم، كما لا تفقده علاقته “الداخلية” بالفكرة الأساسية التي تدور حولها الدراما.. فوحدة الحدث (أو الفكرة) في هذا النوع من الأفلام شرط أساسي لنجاحه، مع مشروعية تطعيمه بالطبع، بكل ما يثري الحدث ويغذي الفكرة الرئيسية من أفكار أخرى، لا تجرنا بعيدا عن السياق الرئيسي.
إلا أن الفيلم كثيرا ما ينحرف خارج الفكرة الرئيسية، إلى أفكار فرعية لا تضيف أي جديد، بل تساهم، في الكثير من الأحيان، في تشويش الرؤية عند المتفرج: من هذه الافكار مثلا: فكرة التطرف الديني وتأثيره علىالشارع، والتي يعالجها الفيلم بطريقة ساذجة كثيرا حتى لو كان هذا ما ورد في رواية ابراهيم اصلان، فالجماعات الدينية المتطرفة لم تكن تنهر الفتيات بسبب تناولهن مأكولات في الطريق العام، ولا تضرب الرجال ضربا مبرحا، لأنهم لا يتوجهون لصلاة الفجر في المسجد، بل كانت تركز اهتمامها على أمور أكثر خطورة!
في الوقت نفسه، هناك ابتسار كبير في تقديم الشقيقين، أي ابني البهي ونرجس وهما: سلامة وابراهيم، والمفترض أن احدهما، وهو ابراهيم، يتجه يسارا (لا أعرف إلى أين تحديدا.. فالفيلم لا يقول لنا شيئا عن نشاطه ولا حتى عن مواقفه الفكرية مما يحدث، بل هو صامت معظم الوقت، وعندما يتكلم يلقي بتعليقات عامة وسطحية)، في حين يختفي الإبن الثاني من الفيلم تماما لكي يعود قرب النهاية، ونفهم أنه مرتبط باليمين الديني، وأنه يمكن حتى أن يشي بشقيقه للشرطة، مما يصيب أمه بصدمة توقعها مريضة إلى أن تغادر الحياة!
هذا الموضوع كان من الأفضل تجنب النفاذ إليه لأنه حتى من الناحية الزمانية، يبدو غريبا على أحداث يفترض أن تقع في الستينيات من القرن الماضي، في حين لم تبرز الظاهرة المتطرفة إلا في التسعينيات.
وتحديد الزمن هنا أمر شديد الأهمية، حتى مع المشروعية التامة بالطبع، للانتقال بين الأزمنة، واعتماد أسلوب التداخل في السرد، الذي يقوم على الانتقال من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى الماضي القريب. والمقصود بتحديد الزمن هو تحديد الزمن “الحاضر” الأساسي في الفيلم، الذي تدور الأحداث من حوله، ذهابا نكوصا.
المخرج مجدي احمد علي |
وفي الفيلم استطرادات لا يندمج مغزاها في السياق بل ربما تكون كفكرة أدبية في الرواية جذابة، مثل السيارة من موديل فيات 128 (عرفت في الستينيات) التي يمتلكها “سيد عثمان”، نموذج الرجل الذي يعرف كيف يراكم المال حتى من الحرام (هناك مشهد في أول الفيلم له وهو يلتقط قطعة نقدية سقطت من أحدهم أثناء الصلاة في المسجد!)، ثم يدور على نساء الحي يشكو من هذا الحفيد، أو تلك الإبنة الصغيرة، التي نرها تقوم بتفريغ عجلات السيارة باستمرار دون أي هدف، وهو ما يستهلك زمنا طويلا من الفيلم، دون أن يضيف شيئا.
وأعترف هنا أنني لم أقرأ رواية ابراهيم أصلان “عصافير النيل”، ولا أظن أن قراءتها يجب أن تكون شرطا أساسيا قبل مشاهدة الفيلم، إلا في حالة واحدة فقط، إذا كان الناقد سيقوم بإعداد “دراسة مقارنة” بين الفيلم والرواية، وهو ليس مجال اهتمامي هنا، لأنني أكتفي بأن أضع نفسي مكان المتفرج، وأحاول أن أفهم الفيلم وأتفاعل معه، من زاوية المتفرج العادي، ولا أظن أنه ملزم بقراءة الرواية قبل مشاهدته الفيلم.
ولكني أرى، رغم ذلك، أن هذا “الإخلاص” الشديد في السيناريو لكل ما ورد في الرواية، ربما يكون قد أدى إلى بعض التشتت في البناء، والهبوط في الإيقاع العام للفيلم، وهبوط الإيقاع في الكثير من المشاهد ايضا.
لاشك في ولع المخرج بتجسيد الكثير من الأفكار والمواقف، وتحرره في السرد استنادا إلى أنه يخرج فيلما غير تقليدي، أي لا يقوم على حبكة تقليدية أو ذروة، تنفك بعدها العقدة، وتنفرج الأحداث عن “حل تطهيري”. ولاشك أن من العناصر الفنية الجيدة في الفيلم استناده إلى نسيج أفقي من الشخصيات والأحداث، تلتقي وتفترق معا، تماما كما يجسد الفيلم فكرة مرور الزمن التي تبدو على ملامح الشخصيات وتنعكس مثلا كأفضل ما يكون، على نرجس مع تقدمها في السن، وزوجها البهي، الذي يصل إلى مرحلة الهلوسة التامة قبيل موته، كما أن الأطفال يكبرون، وعبد الرحيم يصاب بالمرض (غالبا سرطان الرئة) وتبدو عليه آثار الزمن والمرض، وكذلك بسيمة، دون أن تفقد سحرها.
كل هذا صحيح تماما، غير أن هذا البناء يظل رغم ذلك، يعاني من الطموح الزائد. فقد انتهج مجدي خطة لفيلمه افقدته الكثير من حرارته، وكان يمكنه ببساطة، أن يعدل بناء السيناريو ويقومه، ويتحكم أكثر في طول المشاهد، بل ويستبعد البعض منها على طاولة المونتاج إلا أنه لم يفعل. ولاشك أنه كان من الممكن استبعاد اكثر من 20 دقيقة من الفيلم، دون أن يؤثر هذا على أفكاره وشخصياته الرئيسية.
آدم فتحي في الفيلم |
مثالا على ذلك، المشهد الطويل الذي نرى فيه مرشح البرلمان “الدرديري” (الذي يقوم بدوره عزت أبو عوف) الذي يخدع الناس في دائرته، ويبدو كما لو كان شاذا أو محتالا.. لا أدري، بل ولم أفهم أصلا لماذا دخل هذا الشخص إلى الفيلم وخرج منه، وماذا يلخص، وما مغزى دوره هذا، هل هو انتقاد السلطة، أي سلطة، هل هي السلطة في زمن السادات، أي أيام الانفتاح الاقتصادي كما يبدو من خلال تلك الأغنية التي نستمع إليها في الخلفي، وما علاقة الفيلم بنقد السلطة سياسيا!
وهناك مشهد عبد الرحيم وأخته نرجس في زيارة أسرة “أفكار” الممرضة التي كان يرغب في الزواج منها، وموضوع التفاح، وكيف يتناول عبد الرحيم تفاحة يأكلها دون أن يلحظ طعمها الملوث بالكيروسين، لأنه “اعتقد ان هذا هو طعم التفاح”- كما يقول، دلالة على أنه لم يسبق له تناوله من قبل.. وهو مشهد لم أجد له أي ضرورة في سياق الفيلم، بل ويبدو مصمما على أساس ترجمة سينمائية لـ”نكتة” لفظية!
وهناك المشهد “الانتحاري” الذي يخصصه مجدي أحمد علي للبهي افندي، موظف البريد المتواضع المستوى، حياتيا وتعليميا، وهو يندفع فجاة، ويهتف وسط أهل منزله، بمونولوج هاملت الشهير في مسرحية شكسبير، وباللغة الانجليزية (أكون أو لا أكون)، في حين يتابع الجمهور المشهد الطويل (حوالي 5 دقائق) عن طريق الترجمة المطبوعة. وهذا المشهد تحديدا أسميه “انتحاريا” لأنه كاد يقضي على منطق الفيلم كله ويضر ببساطته وشخصياته البسيطة، كما يضر بايقاع الفيلم، الذي يهبط كثيرا بعده، بل ويبدو خارج السياق تماما، بل وخارج طبيعة الشخصية وطبيعة الفيلم نفسه. وكان الأفضل أن يتخلص منه مجدي تماما في المونتاج، خاصة ان ما نشاهده من مشاهد على خلفية هذا المونولوج الشكسبيري، لا علاقة لها بما يقوله “البهي”، بل معظمها لقطات لعبد الرحيم في غزواته النسائية التي لا تتوقف!
من ناحية اللغة والشكل والأسلوب: يستخدم مجدي في فيلمه ثلاثة أصوات للراوي: صوت الراوي المحايد الذي يبدو مطلعا على كل ما يقع للشخصيات، وهو هنا صوت المؤلف، وهذه وسيلة أدبية قديمة معروفة، أضفت طابعا أدبيا تقليديا على الفيلم، كما يستخدم صوت عبد الرحيم نفسه، الذي يروي أيضا ويعلق على بعض المواقف والأحداث من وجهة نظره الذاتية، ويستخدم بدرجة أقل، صوت بسيمة، التي تروي وتعلق على بعض ما يخصها من خارج الصورة.
هذه الوجهات المختلفة، لم أجد أنها ضرورية من الناحية السينمائية الصرف، فبوسع الجمهور أن يدرك، من دون هذا التأكيد، ما إذا كانت التداعيات من ذهن هذه الشخصية أم تلك.
ربما يكون استخدام الراوي التقليدي المحايد، قصد منه أن تبدو بعض أحداث الفيلم كما لو كانت تنتمي إلى الماضي البعيد، في حين أن بالفيلم ما يناقض هذه الفكرة “عن الماضي البعيد” ويجعلنا نرتد كثيرا إلى “الماضي البسيط أي القريب” جدا!
ويستخدم مجدي ببراعة القطع على شريط الصوت قبل الانتقال في شريط الصورة، أي قبل أن ننتقل من مشهد إلى آخر، وهي وسيلة معروفة تزيد من تكثيف الموضوع، وتجعل المشاهد ينتبه، وينتقل من الاستغراق إلى المتابعة الذهنية،كما أنها تمهد نفسيا للانتقال إلى مشهد آخر.
فتحي ودلال عبدالعزيز في عصافير النيل |
وفي الفيلم بعض اللقطات الزائدة الخارجة عن سياقه أو التي سببت بعض التشوش في السرد، وكان يجدر بالمونتير أحمد داود أن يتخلص منها، مثل لقطة سريعة عابرة للأم العجوز قرب النهاية، وهي في الخارج، تدفع بعربة، ثم مشهد طويل لبسيمة وعبد الرحيم مع باقي المرضى داخل المستشفى في الزمن “المضارع” يرقصان ويصران على المضي في الاحتفال بالحياة حتى النهاية. بعد ذلك هناك مشهد مركب على خلفية من الصور المتعددة بينما نشاهد عبد الله (الذي يفترض أنه يجري بلا توقف) ولكننا نراه يجري واقفا داخل الاستديو على تلك الخلفية من الصور المتعددة مما يحدث في الشارع، وكأنه مطارد من قبل الشرطة، ثم نعود إلى الأم العجوز بعد ذلك في إضاءة ليلية خافتة تصطبغ باللون الأخضر، وهي تحاول أن توقف عربة من عربات الخضار لكي تعود إلى بلدتها.
لكن المشكلة الخطيرة من ناحية المونتاج هنا، أن هذه المشاهد الثلاثة، لا تنجح في خلق نهاية جيدة ومحكمة للفيلم: أحد هذه المشاهد يدور داخل المستشفى للمرضى وبينهم عبد الرحيم وبسيمة يرقصون، وهو مصور بالحركة البطيئة، وينزل فوقه التعليق الصوتي الطويل للراوي (المحايد) الذي يروي لنا كيف كان عبد الله يفشل في اصطياد العصافير وهو صغير، وكيف أنه رأى ذات يوم عصفورا جريحا فخبأه ثم عاد إلى المنزل وقال لأمه “نرجس: إنه سيخرج لاصطياد عصفور، ثم كيف انه عندما أمسك بالعصفور محاولا ان يضع قدمه في الفخ، أفلت العصفور وسقط من أعلى السطوح على أرضية الشارع، واخذ الأولاد يطاردونه، ثم جاء عبد الله يحاول أن يمكسه فنشب العصفور الجريح أظافره في يد عبد الله ثم أخذ يقفز بقدمه السليمة نحو الحرية.
هذه النهاية الأدبية الطويلة يفسدها المونتاج بعدم اكتراثه، لأن المونتير لم يتدخل، سواء لتقليص حجم الحكي الصوتي، أو لزيادة جرعة صور ولقطات عبد الله نفسه وهو يهرب من الشرطة، بدلا من جعل هذه الحكاية تظهر على مشاهد شديدة التناقض مع بعضها البعض كما أشرنا، وهي أساسا، مسؤولية المخرج أيضا، لكن كان يمكن للمونتير أن يتدخل، وأن يقول رأيه، ويوجه النصح، فهذا الخليط المضطرب في نهاية الفيلم، لا أظن أنه يمكن أن يصل بسهولة إلى المتفرج.
ولعل من نقاط الضعف الخطيرة في الفيلم أيضا، إلى جانب المونتاج، تلك الموسيقى المصاحبة للفيلم التي وضعها راجح داود (صاحب البدايات المبهرة في الكثير من الأفلام). لقد انتهى راجح داود، بكل أسف، إلى محاكاة موسيقى فؤاد الظاهري، بمبالغاتها ونغماتها العالية واستطراداتها واقحامها اقحاما على الصورة، بحيث لا تدع أي مساحة أمام المتفرج للتأمل، للتوقف، للصمت، بل تحاول أن تفرض عليه “فكرة” ما، أو تضغط من أجل انتزاع مشاعره انتزاعا، وهي بهذا تعكس تراجعا مخيفا إلى موسيقى ميلودرامات الخمسينيات، في حين أن نسيج الفيلم نفسه، بدا مغايرا.
ولعل الرغبة في مغازلة الجمهور أيضا، هي التي دفعت مجدي إلى الإبقاء على ذلك المشهد الذي لا معنى له قرب نهاية الفيلم، ونرى فيه الزوجة الثالثة لعبد الرحيم وهي تستغل استغراقه في غيبوبة المرض على فراشه في المستشفى، لكي تنتشل لباسه الداخلي، بعد أن رفض ان يقرضها إياه حتى تتمكن من زيارة الطبيب للفحص. هذا المشهد وضع بالطبع في قالب هزلي، وبدا أيضا كما لو كان نكتة مترجمة إلى أداء مسرحي، وكان من الأفضل أن يستبعد من الفيلم لتناقضه مع الطبيعة الشاعرية لمشاهد النهاية، خاصة بعد أن نجح المخرج بما يكفي، لتجسيد فكرته عن إشاعة المرح رغم الموت المحلق.
لكن هذا ما تؤدي إليه، تلك العادة في التأرجح ما بين السينما السائدة، والسينما الفنية، بين سينما تريد أن تعبر بشفافية وشاعرية عن المشاعر الإنسانية، وسينما أخرى، تريد أن تغازل متفرجي السينما السائدة بتقاليدها المعروفة، وهي سينما تطمح من ناحية، إلى تطوير الشكل، وسينما أخرى كسولة، تريد أن تلعب على “المضمون”. وإن كانت النتائج نفسها ليست دائما “مضمونة”!