رموز السّينما العالميّة الوثائقيّة جان روش

 وُلد المُخرج الوثائقي الفرنْسِي جان روشْ (Jean Rouch) بِباريس سنة 1917 وتُوفّي بِالنِّيجر في مَطلع سنة 2004، وهو مِن أكبر السّينمائيّين الذِين أعادوا الاعتبار للقارّة السّودَاء ولتقاليدها وعاداتها وثقافاتهَا سواء أكانت مكتُوبة أو شفويّة. لقد اعتمد جان رُوشْ تمَشِّيًا في تصوير السّود والأفارقة يَمزُجُ بين الأنتروبولوجيا(Anthropology) والإيتنولوجيا (Ethnology)، مُؤَكِّدًا أنّ الوسيلة الوحيدة للنّفاذ إلى جوهر الواقع الإفريقي وطقوسه هو البحث المتأنّي والعميق في كلّ الظّواهر والرّموز والاستعارات التي تسُوس تَمَظْهُرَات هذا الواقع.
 كان هذا المُخرج المُتيّم بالقارّة الإفريقيّة والتي أقام في كثير من بلدانها، مثل النّيجر والسّينغال وغانا، تارة بوصفه المدير العلمي لمعهد إفريقيا السّوداء الفرنسي في نيامي (Niamey) مثلا، عاصمة النّيجر، وتارة أُخرَى في إطار مهمّات دراسيّة، الغاية منها التّعرّف على الثّقافات الإفريقيّة ومحاولة فهم منطقها ومنظومتها وكلّ مميّزاتها. وفي فترة استعماريّة حالكة ازدهرت خلالها العنصريّة واحتقار الآخر ونبذ هويّته وحضارته، لفتت أُولى روبورتاجات جَان روشْ عنِ القارّة السّمراء الأنظار إليها، لأنّها أرادت، ولو بلُغة سينمائيّة ما زالت بدائيّة وعفويّة، التّنويه، دون شعارات إيديولوجيّة وسياسيّة، بإسهامات إفريقيا في الثّقافة الكونيّة.

جان روش

بدأ جَان رُوشْ يتلمّسُ طريقه ويفرض رؤيته الخاصّة به بوصفه سينمائيّا وثائقيّا من الطّراز الرّفيع، في بداية الخمسينات وذلك بإنجازه لفيلمه الأوّل، “الأسياد المجانين” (Les Maîtres fous) الذي أثار ضجّة كبيرة عند عرضه في مهرجان البندقيّة بإيطاليا سنة 1957. أقلق هذا الفيلم الذي توّجته هذه التّظاهرة السّينمائيّة الإيطاليّة كلّ النّاس الذين تعوّدوا على صورة محنّطة وفولكلوريّة للأفارقة السّود وهي صورة كرّستها السّينما الغربيّة وخاصّة منها الهوليوديّة في مجموعة كبيرة من الأفلام. ويُعَدُّ شريط “الأسياد المجانين” وثيقة لا مثيل لها عن طُقُوس السِّحْر كَمَا تُمارسها قبيلة “الهاوكاس” (Haoukas) بالنّيجر، تَمَيَّزَ فِيها رُوشْ بِنظرة ثاقبة قوامها تَوَهُّج العين التي تلتقط جزئيّات الأمور وتفاصيلها وتتبرّأُ من اللّجوء إلى الأرشيف والتّعاليق العلميّة الفضفاضة.

من فيلم الأسياد المجانين

 لقد رسّخ جَان روشْ هذا التّمشّي الإتنولوجي في رائعة من روائعه عنوانها “الهرم الإنساني” (La pyramide humaine)،  أنجزه سنة 1959 وهو بمثابة البورتريه لتلاميذ سود وبيض، في مدرسة بأبيدجان عاصمة الكوت ديفوار، يتجاورون جنبا إلى جنب لكن دون محاولة التّعرّف على بعضهم البعض. وفي فيلم آخر عنوانه “شيئا فشيء” (Petit à petit) يحاول جان رُوشْ فهم طريقة عيش بعض المواطنين، أصيلي النّيجر في العاصمة باريس، مُبْرزًا انْبِتَات بعض الأفارقة وحرصهم على التّنكّر لهويّتهم الأصليّة وعلى تقليد الباريسيّين في طبائعهم وتقاليدهم.
 تُمثّل سنة 1958 لحظة مهمّة وحاسمة في مسيرة جان رُوشْ، إذ أنجز في تلك السّنة فيلمًا عنوانه “أنا الأسود” (Moi, un Noir) سيُمكّنه من تبوُّأ السّينما الإيتنولوجيّة الوثائقيّة على الصّعيد العالمي ومن فرضِ نفسه كأستاذ ألمعيّ في هذا المجال وذلك بإنارة سبيل كثير من المخرجين الوثائقيّين الذين أرادوا النّسج على منواله.
مأ أُعِيبَ على جانْ رُوشْ الذي تأثّر كثيرا بالمخرج الأمريكي الوثائقيّ روبار فلاهرتي (Robert Flaherty)، سواء من قبل بعض الأفارقة أو بعض الغربيّين، هو اعتماده على تمشٍّ ذاتيّ حميميّ ورَفْضُهُ لكلّ أنواع المباشرتيّة الخطابيّة. وهو لوم يمثّل مفارقة غريبة، إذ أنّ مصدر قوّة أفلام جَان رُوشْ الوثائقيّة، ليس التّنديد بالمُسْتَعْمِرِين ونُصْرَة المُسْتَعْمَرِين، وإنّما إرساءُ منهجٍ وبيداغوجيا في تصوير تجلّيات الحضارة الإفريقيّة والتّناقضات الواضحة والجليّة التي تعيشها شعوب إفريقيا السّوداء في علاقتها مع البيض.

روبار فلاهرتي

 يقول جَانْ رُوشْ في هذا الصّدد: “رُبّما تَكُونُ نظرتي ذاتيّة وتعكس ميولاتي وتصوّراتي الشّخصيّة في علاقتي بالقارّة السّمراء، لكن عيني تبقى موضوعيّة ولا تحاول لا تزييف ولا تزويق واقع الأفارقة. تعرفون جيّدا أنّ إفريقيا التي تهمّني هي إفريقيا التّقاليد وإفريقيا الأساطير الضّاربة في القِدَمِ وإفريقيا التي تُحاول كسرَ طوق الاسْتعمار والاِسْتعمَار الجديد. كان سهلا بالنّسبة إليّ أن أفعل مثل الدّعاة الغربيّين الذين يُطالبون باستقلال البلدان الإفريقيّة، لكنّهم، باطنيًّا، يحتقرون الإنسان الأسود ولا يُحاولون المرّة فهم حضارته وثقافته”.
 إنّ الغيريّة (l’altérité) التي يُدافع عنها جَانْ رُوشْ في جُلّ أفلامه الوثائقيّة هي غيريّة تُؤسّسُ للجَمَال وللفنّ وتمقُتُ كلّ نظرة فوقيّة مُسلّطة على الشّعوب المُسْتَعْمَرَة من قِبَلِ بعض المُثقّفين الغربيّين الذين يدّعون التّقدّميَّة. في جولاته المتعدّدة في كثير من بلدان العالم للتّعريف بإفريقيا وعاداتها، وخاصّة الشّفويّة منها، كان يَحْلُو لِجَان رُوشْ ترديد هذه العبارات: “في السّينما الوثائقيّة، ليس هنالك لا يسار ولا يَمين، بَل هُنالك نَظْرَةٌ وعين”.


إعلان