السّينما الوثائقيّة على محكّ القضيّة الفلسطينيّة

الأفلام الوثائقيّة أو الأفلام التّسجيليّة نوعان وصنفان: هنالك الأفلام الجيّدة والمتميّزة التي تنمّ عن نظرة حادّة وثاقبة يسوسها الإبداع النيّر والتّمثّل الدّقيق لأهمّ مكوّنات ناصية هذه النوعيّة من الأفلام الحسّاسة، وهنالك أيضا الأفلام الرّديئة، وهي تتكاثر يوما بعد يوم، همّها الوحيد هو التّصوير الجنوني والمرتجل لأهمّ مشاهد الرّعب والدّمار التي نراها في كثير من بلدان العالم، وغايتها الأساسيّة تجاريّة بحتة.

المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي

 لِنَسُقْ مَثَلاً بعض الأفلام الوثائقيّة الجيّدة التي أُنجزت عن فلسـطين. أعمـال المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، مثل “حظر التّجوّل” (Couvre-feu)، “حيفا” (Haïfa)، “مباشرة من فلسطين” (En direct de Palestine)، “تذكرة إلى القدس” (Un ticket pour Jérusalem)، “جينين” (Jenine) وغيرها من الأفلام، أثّرت فينا وقرّبتنا كثيرا من صورة المشهد لأنّها تُعبّر عن شهادة صادقة وحيّة، ركيزتها الأساسيّة ليست الشّعارات الإيديولوجيّة والسّياسيّة وإنّما المتن الفنّي والجمالي في تصويرشهادات الفلسطينيّن وفي كيفيّة الإنصات إلى مسرّاتهم وأحزانهم. أجاد رشيد مشهراوي، رغم فضاعة الواقع الفلسطيني في الأراضي المحتلّة، في تجنّب “التّدريم” (من كلمة الدراما) المبالغ فيه ونبذ النّبرة البكائيّة التي لا فائدة منها.

المخرجة فانيسّا ريدقراف

 لِنَسُق أمثلة أخرى لأفلام وثائقيّة أُنجزت من قبل سينمائيّين غربيّين تحمّسوا للقضيّة الفلسطينيّة. نرى أنّ دوافع هذا التّضامن مع شعب مظلوم ومُهان يوميّا من قبل العدوّ الصّهيوني لا تطمس إطلاقا الجانب الإبداعي في هذه الأفلام. لنأخذ الأفلام الوثائقيّة التي أنجزتها، في نهاية السّبعينات ومنتصف الثّمانينات، الممثّلة البريطانيّة “فانيسّا ريدقراف” (Vanessa Redgrave) الملتزمة بحقوق الشّعوب، فهي أفلام، مهما قيل عنها ومهما وقع التّشكيك في صدق نواياها، مهمّة لأنّها تعبّر عن شجاعة فائقة من قبل ممثلة كانت تدرك تمام الإدراك أنّ الغرب الصّهيوني والشّركات السّينمائيّة العالميّة، وخاصّة منها الأمريكيّة، لن تغفر لها إطلاقا مساندتها للشّعب الفلسطيني وإنّه يمكن بالتّالي أن تُحال على البطالة.

ريشارد دندو

هنالك مخرج آخر أبهرنا بقدرته على إثبات أنّ السّينما الوثائقيّة هي إبداع أصلا وإنّه لا يمكن لهذه السّينما أن تؤثّر في المُشَاهِدوتُلهمه إلاّ إذا كان الحسّ الجمالي والفنّي متوفّر فيها، وهو المخرج السويسري ريشار داندو (Richard Dindo) الذي اشتهر هو أيضا في الأوساط العربيّة والدّوليّة بنُصرته للقضيّة الفلسطينيّة. ففي بداية سنة 2000، أنجز فيلما وثائقيّا عنوانه “جان جينيه في شاتيلا” (Jean Genet à Chatila)، يُعتبر من أهمّ الرّوائع التي أُنجزت عن القضيّة الفسطينيّة وعن شهدائها. يقتفي هذا الفيلم الطّويل أثر الرّوائي والمسرحي الفرنسي جان جينيه، مؤلّف “أربع ساعات بشاتيلا” (Quatre heures à Chatila) و”الأسير العاشق” (Un Captif amoureux) عن ذكرياته مع الفلسطينيّين في الأردن ولُبنان، أثناء المِحن الكبرى، في مخيّمات “صبرا” و”شاتيلا” التي دخلها الكاتب الفرنسي الشّهير غداة المجازر خلال شهر سبتمبر 1982. يحيّي هذا “الفيلم – القصيدة” كلّ المثقّفين والمبدعين الغربيّين الذين وقفوا جنبا إلى جنب مع الشّعب الفلسطيني وعاشوا معه سواء الانتصارات أو الهزائم.

فيلم جان جينيه في شاتيلا

تميّزت جلّ الأفلام التي أُنجزت عن القضيّة الفلسطينيّة من قبل مخرجين غربيّين، مرموقين أو مغمورين، ببحثها عن العلاقة بين “هنا” و”هناك”، أي الكيفيّة التي يرى بها المواطن الغربي الشّعوب الأخرى، من موقع وطنه الأصل والكيفيّة التي يتفاعل بها مع قضايا هذه الشّعوب.

جان لوك غودار

 ولقد كان المخرج الفرنسي “جان لوك قودار” (Jean-Luc Godard) سينمائيّا مؤسّسا في هذا المجال، كما يتبيّن ذلك في فيلمه الشّهير “هنا وهناك” (Ici et ailleurs) الذي صوّره سنة 1976 عن حصار تلّ الزّعتر وعن مخيّمات اللاّجئين الفلسطينيّين بلبنان، وهو فيلم جدليّ وثوريّ يدين، من خلال الصّورة وليس من خلال الخطابات، طغيان الغرب في مناصرته للكيان الصّهيوني كما يدين أيضا بعض الأنظمة العربيّة التي تآمرت على الفلسطينيّين وشنّعت بالمدنيّين العزّل تشنيعا فظيعا.

فيلم “هنا وهناك”

 ما فعله قودار أساسا، في هذا الفيلم، هو تجنّب دور المخرج الواعظ المرشد والاعتماد على حضور الفلسطينيّين، وخاصّة منهم المقاومين، وكأنّهم دليله الأمثل في عمليّة التّصوير. أدرك “قودار” أنّه يتوجّب على كلّ مخرج غربي ملتزم وصادق يريد تصوير الشّعوب التي تكافح من أجل استرجاع أرضها أن يتجنّب التّمشّي الفوقي وأن لا يطنب في التّعاليق التي تعيق نفس الصّورة وتقتلها، بل عليه أن يتمثّل نبض الحياة اليوميّة لهذه الشّعوب وأن يكون له حسًّا متّقدا لكي ينصت إلى شهادات النّاس الذين أُطْردُوا من وطنهم الأمّ.


إعلان