فيلم “إنفكتوس” تحية تليق بمانديلا

لاشك أن أفضل تحية أو تكريم للزعيم الافريقي الكبير نيلسون مانديلا في الذكرى العشرين لإطلاق سراحه، هو بدء العروض العالمية لفيلم “إنفكتوس” Invictus وهي كلمة لاتينية تعني “من لا يقهر”.
هذا الفيلم الكبير من إخراج الممثل والمخرج الكبير كلينت إيستوود، يحقق حلما شخصيا طال انتظاره للممثل الأمريكي مورجان فريدمان، الذي يقوم هنا بدور مانديلا بعد سنوات من التأهب له، والبحث الدءوب عن المشروع السينمائي المناسب الذي يحقق له حلمه الفني.
سيناريو الفيلم، الذي كتبه أنطوني بيكهام، مستمد من كتاب جون كارلين “ملاعبة العدو: نيلسون مانديلا واللعبة التي صنعت أمة”. وهو يعتمد على وقائع حقيقية شأنه في ذلك شأن فيلم “فروست/ نيكسون”، إلا أن كاتب السيناريو يسمح لنفسه هنا بتجاوز ما حدث في الواقع، ليسبح في محيطه الطبيعي، أي ينسج من خياله ما يدعم الأحداث ويقويها ويمنحها طابعا دراميا حقيقيا يمكن تجسيده بشكل مؤثر ومقنع في السينما.
“إنفكتوس” فيلم سياسي لكنه أساسا، عمل إنساني كبير، أساسه القدرة الإنسانية على التسامح ونسيان الماضي وتجاوزه، والسعي الحثيث لتحقيق هدف أكبر وأشمل كثيرا من مجرد الانتقام الشخصي أو تصفية حسابات الماضي، هذا الهدف يتعلق بإعادة توحيد صفوف أمة بجميع عناصرها، بعد صراع عنصري عنيف، وحرب أهلية دامية استغرقت عشرات السنين.

مانديلا والرجبي

من الطبيعي أن تكون الشخصية المحورية في عمل كهذا هي شخصية نيلسون مانديلا. ومن الطبيعي أيضا أن يكون للحدث في هذا الفيلم، مغزى سياسي واضح. غير أن ما يلفت النظر هنا هو أن السيناريو، والفيلم بالتالي، يتخذ من رياضة “الرجبي” الشهيرة في جنوب افريقيا والبلدان الناطقة بالانجليزية في العالم، محورا لأحداثه دون أن يغرق في تفاصيل وأجواء تلك اللعبة، ودون أن يبتعد في أي لحظة عن الشخصية الرئيسية والمغزى السياسي والفلسفي لما تقوم به في الفيلم.
يبدأ الفيلم بخروج مانديلا من السجن يوم 11 فبراير 1990 بعد أن قضى 27 عاما وراء القضبان كزعيم للحركة المناهضة للنظام العنصري في جنوب افريقيا. وبعد أن يستعرض الفيلم مظاهر الاستقطاب الحاد بين الأقلية البيضاء التي كانت تتمتع بالكثير من الامتيازات خلال عهود التفرقة العنصرية، والأغلبية السوداء التي لاتزال تئن تحت وطاة آثار النظام العنصري، يقفز الفيلم مباشرة إلى عام 1994، أي إلى انتخاب مانديلا رئيسا للبلاد، ورغبته في التقريب بين كل الأطراف، والقضاء على الانقسام السائد.
السود في جنوب افريقيا كانوا يعتبرون فريق القمصان الخضراء، أي فريق جنوب افريقيا للرجبي (وهم من البيض) فريقا يمثل الجانب المستغل (بكسر الغين) وكانوا بالتالي، كما نرى في الفيلم خلال تصفيات كأس العالم، يفضلون تشجيع الفريق الانجليزي ضد فريق جنوب افريقيا. أما وقد استقر الأمر على أن تستضيف جنوب افريقيا بطولة كأس العالم في الرجبي لعام 1995، فقد برز اهتمام مانديلا بفكرة استخدام هذه المناسبة لتحقيق المصالحة التي ينشدها بين الطرفين، واثبات أنه انتخب رئيسا، ليس للسود فقط، بل للجميع، من السود ومن البيض، وأنه يريد بالتالي أن يجعل فريق الرجبي في بلاده منتخبا لكل البلاد، وأن يتخذ منه وسيلة لتوحيد عنصري الأمة، والانتقال لتحقيق إنجاز اقتصادي يجعلها- كما يردد في الفيلم- “جوهرة الدنيا”.

القرار الصعب..

ومن البداية يختار مانديلا، أن يتخذ القرارات الصعبة التي قد لا تكسبه شعبية، لكنها تتسق مع مفاهيمه السياسية والإنسانية التي ترمى إلى أبعد من الموقف التكتيكي الآني المحدود القيمة والأثر. إنه يبدأ بإصدار أوامره بالإبقاء على الحراس السابقين من البيض الذين كانوا يعملون في خدمة الرئس السابق (بوتا) في ظل النظام العنصري، بل ويجتمع مع كل العاملين بمقر الرئاسة لكي يطمئنهم على وظائفهم، ويدخل إلى نفوسهم تلك الروح الجديدة، روح التسامح والمصالحة والتوافق مع زملائهم من السود، في مجتمع واحد، وتحت رئيس واحد للجميع، ويطلب منهم نسيان الماضي، وعدم الخشية من المستقبل.
أسلوب السيناريو أي طريقة السرد هنا تتبع خطا منهجيا صاعدا، يبدأ من لحظة الافراج عن مانديلا، ويتجه إلى عام 1995 حينما تقام بطولة الرجبي لكاس العالم، وينتهي بتحقق الحلم الشخصي لمانديلا، والحلم الجماعي العام الذي نجح مانديلا في أن يجعله مشتركا، يجمع البيض والسود في المجتمع الجديد.

الانقسام الاجتماعي

ومن البداية يجسد أسلوب الإخراج الانقسام القائم في المجتمع: فنحن نرى سيارة مانديلا تشق طريقها، بينما نشاهد على اليمين الأطفال السود يلعبون كرة القدم في تجماعاتهم السكنية التي تعاني من الفقر والتخلف، وعلى اليسار نلمح فريق الرجبي يتدرب معزولا تماما عن الجانب الآخر الذي يعتبره “فريق الأعداء” الطبقيين.
ويعتمد الفيلم كثيرا في الجزء الأول، على استدعاء الأحداث من خلال التعليقات والأحاديث التي تصدر عن الراديو، كما يصور كيف يتعامل مانديلا مع مديرة مكتبه، يناقشها ويختلف معها أحيانا، ويكن برقة وقوة في الاقناع، وكيف يتعامل مع حراسه الشخصيين، ويطلب منهم الابتسام وهم يتعاملون مع الجماهير التي يمكن أن تحيط به، ثم كيف يتجه إلى اجتماع لأنصاره الذين يعلنون خلال ذلك الاجتماع رفضهم لسياسته في التقترب مع السود، لكي يسيطر عليهم بقوة اقناعه وقوة منطقه وسلاسة أفكاره.
ويقرر مانديلا في لحظة استنارة نادرة أن يلتقي بكابتن فريق الرجبي فرنسوا بينار الذي ينتمي إلى أسرة عنصرية تمقت السود وتستنكر أن يكون مانديلا هو رئيس البلاد شأن قطاع كبير داخل الأقلية البيضاء قبل على مضض تقاسم السلطة في ذلك الوقت.

تأثير الشعر
ويصور الفيلم تمهيدا للقاء البارز في الفيلم، كيف يتشكك والد فرانسوا في الأمر، ويسخر منه، ولكن اللقاء يحدث، ويتمكن مانديلا بحكمته وثقافته من إبهار فرنسوا والاستيلاء على مشاعره، بعد أن يهديه قصيدة “إنفكتوس” للشاعر وليم هنلي التي كتبها عام 1875 من على فراش المرض في المستشفى وقتما كان يعالج من مرض الدرن (أو السل الرئوي) وأجريت له فيما بعد جراحة لبتر إحدى ساقيه.
هذه القصيدة يقول مانديلا إنها كانت بمثابة إلهام له خلال سنواته في السجن، وهي إشارة رائعة في الفيلم، ليس فقط إلى ثقافة مانديلا الرفيعة واهتمامه بالشعر والأدب، بل وإلى ذكائه الذي يجعله يستعين بالشعر في كسب من يفترض أنه خصم له، والتأثير عليه، ومساعدته في العثور على وسيلة لـ”إلهام” فريقه” كما يكرر عليه مانديلا.
وفي أحد المشاهد الكبيرة في الفيلم يقرر مانديلا التوجه في طائرة هليكوبتر للالتقاء بأفراد الفريق، ويأخذ في مصافحتهم واحدا واحدا وهو يردد أسماءهم بعد أن تدرب على حفظها عن ظهر قلب بالاستعانة بصورهم المنشورة في الصحف، لكي يبدو أبا للجميع، يشجعهم، ويقف بجانبهم، ويتمنى لهم الفوز.. بل إنه يبدو في ذلك المشهد المؤثر، أكثر اهتماما منهم بالفوز. ففي ذلك الفوز يترتب مصير شعب.
وفي المشاهد الأخيرة من الفيلم، نتابع كيف يتمكن فريق جنوب افريقيا من الصعود إلى النهائي ثم الفوز بكأس العالم، ويتحقق في الوقت نفسه التئام شمل المجتمع، ويرمز كلينت ايستوود لذلك، من خلال تصوير طفل أسود مشرد، يقترب من جدران الملعب من الخارج يريد أن يحظى بمشاهدة المباراة النهائية. يوقفه رجال الشرطة من البيض، ولكن بدلا من اعتقاله أو ابعاده، يضمونه إليهم وهم يستمعون إلى التعليق الإذاعي على المباراة من مذياع سيارة الشرطة، وبعد تحقق الفوز النهائي يحتضنونه ويحتفلون معه بالكأس.

ورغم أننا عادة ما نرى مشاهد مألوفة يمكن التنبؤ بها مسبقا في مثل هذا النوع من الأفلام “الرياضية”- إذا جاز التعبير، أي تلك التي يكون فيها طرف يسعى بشدة للفوز، وينطلق من موقف اليأس إلى الثقة والقوة وصولا إلى النصر، إلا أن إخراج إيستوود لمشاهد فيلمه في الثلث الأخيرة ينجح في شد أنظارنا بقوة إليها، ودفعنا إلى ترقب النتيجة أيضا، فإيستوود يمزجها بالاهتمام الشخصي لبطله مانديلا، وبالتحول الذي يطرا على موقف أسرة كابتن الفريق بينار الذي يشتري والده بطاقات لمشاهدة المباراة النهائية لجميع أفراد الأسرة بمن في ذلك الخادمة السوداء، دلالة على ما وقع من تغير في المفاهيم.
ويتميز التصوير في الفيلم بالواقعية الشديدة، والاستخدام الجيد للأماكن، والتصوير الخارجي المقنع تماما لمشاهد المباريات، بحيويتها وإثارتها، والابتعاد عن المبالغات، والحوار الكتوب ببراعة، يكتسب سحرا خاصا بأداء فريمان المتميز.
ولاشك ان أهم جوانب الفيلم وأحد الأسباب الرئيسية لنجاحه في جذب المشاهدين، هو ذلك الأداء الفذ للممثل الكبير مورجان فريدمان في دور مانديلا، بحركات جسده المتباطئة الثقيلة، وطريقته الخاصة في الحديث، وفي المشي، وإشاراته وايماءاته المعبرة، وصوته الرخيم المؤثر وقدرته الكبيرة على التعبير بعينيه، واكسابهما حزنا، ولكن مع أمل نبيل في تبدل الأحوال.
وينجح مات دامون في أداء دور كابتن فريق الرجبي فرنسوا بينار، ببنيته المكتنزة، وملامحه المستنفرة في البداية ثم المستسلمة تدريجيا لسحر مانديلا، وصولا إلى الاقتناع بضرورة الفوز، وكيف ينجح في نقل مشاعره والتأثير في زملائه، كما ينجح في الأداء بلهجة “الأفريكانر” أي البيض في جنوب افريقيا، ويصمد في لاكثير من المشاهد أمام قوة أداء فريمان.
وربما يترجم هذا الأداء الواثق هنا في حفل توزيع جوائز الأوسكار لأحسن ممثل وأحسن ممثل ثانوي التي رشح لهما كلاهما.
لقد نجح كلينت ايستوود بلا شك، في أن يشطب الفكرة التي كانت مستقرة لدى الكثيرين، عن مفاهيمه العنصرية كما تبدت في عدد من أفلامه الأولى مثل “هاري القذر” Dirty Harry ليصبح أحد أبرز السينمائيين الأمريكيين أصحاب النزعة الإنسانية كما اتضح في أفلامه الثلاثة الأخيرة.


إعلان