“عصافير النيل” العودة للنبع بين الفن والمضمون 1
أمير العمري
لاشك أن الأفكار الكبيرة في السينما، خاصة السينما المصرية، جاءت أساسا، من الأدب، أي من عالم الرواية. وهنا لابد أن نتذكر تأثير طه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس وفتحي غانم ويحيى حقي ولطيفة الزيات، وكثيرين غيرهم، على الفيلم المصري، سواء في مضمونه الاجتماعي ودلالاته النقدية، أو في أشكاله السردية، حتى أن المرء يخال أحيانا أن نجيب محفوظ كان يكتب وعينه على السينما، أي أنه كان يتأثر كثيرا في كتابة رواياته، في مرحلة ما من مسيرته الأدبية في الستينيات على وجه التحديد، بالسيناريو السينمائي، خاصة وأنه مارس كتابة السيناريو منذ منتصف الخمسينيات حينما ارتبط مع المخرج الكبير الراحل صلاح أبو سيف من بداياته الأولى في أواخر الأربعينيات، حتى المرحلة الأهم في حياة أبو سيف التي تميزت بأفلامه الواقعية في الخمسينيات والستينيات.
![]() |
المخرج مجدي احمد علي |
المخرج مجدي أحمد علي (صاحب يادنيا ياغرامي، البطل، أسرار البنات، خلطة فوزية) يعود إلى الأدب للمرة الأولى في مسيرته، في فيلمه “عصافير النيل” (2009)، وتحديدا إلى رواية ابراهيم أصلان الذي سبق أن قدم للسينما رواية “مالك الحزين” التي استمد منها داود عبد السيد فيلمه “الكيت كات”. وكان مجدي يأمل من وراء ذلك، أن يقدم رؤيته السينمائية للرواية التي لاشك أنها تتلاقى مع رؤية المخرج والمؤلف، في الكثير من المواقف والشخصيات والأحداث، بل وفي الفلسفة العامة للعمل، ودلالاته الفكرية.
تشابهات وتقابلات
للوهلة الأولى يمكن القول إن هناك علاقة ما بين فيلم “عصافير النيل”، والفيلم السابق لمجدي أحمد علي “خلطة فوزية”، وربما يكون ممكنا رصد ملامح هذه العلاقة في النقاط التالية:
1- يدور الفيلمان حول شخصية فردية، ريفية أو شبه ريفية، تعيش على هامش المجتمع، في الأحياء العشوائية القريبة من نهر النيل بكل ما يجسده النيل من انسيابية وتدفق، كما لو كان في سرمديته وامتداده الذي يبدو موغلا في أعماق التاريخ، شاهدا أيضا على ما يقع فوق ضفتيه من أحداث. الشخصية الأساسية في الفيلم الأول هي “فوزية”، وفي الفيلم الثاني “عبد الرحيم”، وكلاهما يعاني من الإحساس بنوع من انعدام الأمان، الشعور بالرهبة من المدينة، والرغبة في إقامة علاقة جسدية مع الآخر، لعلها يمكن أن توفر نوعا من “الأمان” والدفء المفقود. ولاشك أيضا أن هذا الشعور، بكل ما يعتريه من اندفاع، بل وتهور أحيانا، يمكن أن يقود الشخصية إلى الصدام مع الواقع.
2- الحضور القوي للموت في مجاورته للحياة في كلا الفيلمين. ولكن على الرغم من قسوة الموت، ورغم الإحساس الشجي بالحزن الذي يغلف دواخل الشخصيات في الفيلمين، إلا أن الرغبة في الاحتفال بالحياة، هي رغبة دائمة ممتدة، تحمل في داخلها القدرة على التجدد لبطلي الفيلمين، كما تحمل للمشاهدين الأمل، على الرغم من الموت الكامن بكل ما يخلفه من أثر كئيب في النفس البشرية. هنا تتجلى قدرة مجدي أحمد علي كمخرج، في التعبير عن ذلك التناقض بين الحياة بكل عنفوانها، والموت في سكونه كنهاية للجسد، وهو تناقض يبدو “بسيطا” على المستوى الظاهري، إلا أنه شديد التعقيد على المستوى الأعمق.
![]() |
من الفيلم |
3- الحبيب الأكثر تأثيرا يظل في الفيلمين هو الأقرب إلى الشخصية الرئيسية، لكنه بعيد عنها بعد أن فقدته: في “خلطة فوزية” يتمثل في شخصية السباك (عزت أبو عوف) أحد أزواجها السابقين قبل أن تنفصل بالطلاق عنه، لكنه لم يعد موجودا بعد وفاته المفاجئة، ويظل يتراءى لها شبحه طوال الوقت، فقد كان الأقرب إلى عقلها وربما أيضا إلى قلبها، رغم خياناته الصغيرة لها. وفي “عصافير النيل” تظل شخصية “بسيمة” هي الشخصية الآسرة، التي لا تفارق خيال البطل، فهي المرأة الأولى التي التقاها في القاهرة وتعرف عليها وأنس لها، ثم هجرته بسبب تردده في حسم موقفه تجاهها: هل يشترك مع أهل الحارة في اعتبارها امرأة “منحرفة” بالمعايير الأخلاقية السائدة، أم يستمع إلى نداء قلبه الذي يقول له إنها المراة النظيفة الجميلة التي يمكنها أن تعيش له فقط؟
4- التقلب بين الرجال بحثا عن الشريك الكامل المكتمل الذي يمكنه أن يستوعب طاقة وحيوية وعنفوان البطلة في “خلطة فوزية”، أو بحث البطل الدائم عن المتعة الأبدية مع المرأة، وهو ما يجعله ينتقل من واحدة إلى أخرى في “عصافير النيل”، مما يعكس أيضا فكرة النهم إلى الاستمتاع بالحياة، والتي تتجسد عن طريق الجنس، الجنس بغرض الارتواء، والاشباع النفسي، والتعويض عن الإحساس الدائم بالخسارة عند البطل في “عصافير النيل”، ولعل هذا يتجسد كأفضل ما يكون، في المشهد الذي يصور ما بعد مضاجعته عاهرة داخل مصعد، عندما يضبطه الجيران متلبسا في أحضان تلك المرأة، سكرانا، يغط في النوم، بل ويرفض أيضا أن ينهض ليمضي في حالة سبيله، وهو الفعل- الفضائحي الذي يكلفه وظيفته.
ورغم هذه التقابلات إلا أن هناك أيضا فروقا جوهرية بين الفيلمين ذات علاقة بالفرق بين المرأة والرجل في مجتمعاتنا المحافظة بطبيعتها في النظر إلى المراة التي لا يمكنها التعبير ببساطة عن مشاعرها أو الظهور بالمظهر الذي تحبه.
في “عصافير النيل” مثلا هناك مشهد نرى فيه أحد المتشددين الأصوليين يعترض سبيل “بسيمة” في الشارع وينهرها عن تناول الطعام علانية في الطريق العام، بدعوى أن هذا “حرام”!
ولاشك أن في الفيلم الكثير من المشاهد البديعة التي تتميز بالحس الرفيع، والشفافية الجميلة الموحية، مثل مشهد اللقاء في بداية الفيلم، بين بسيمة وعبد الرحيم، ثم مشهد اصطياد العصفور بسنارة صيد السمك وما يوحي به، ثم مشهد عبد الرحيم بعد إعفائه من العمل كساعي بريد عقب فضيحة “المصعد” وهو يعود إلى قريته التي جاء منها للقاهرة، وهناك يجلس في ظل شجرة، ويناجي نفسه بينما الأفق يبدو متسعا أمامه، وهو من المشاهد التي تتيح للمتفرج مساحة للتأمل والتفكير والمتعة.
ولاشك أن أداء فتحي عبد الوهاب في الدور الرئيسي هنا، أداء واثق ومتماسك، لا يهبط أبدا إلى مستوى محاكاة الريفيين بطريقة مفتعلة على غرار ما نشاهد في الكثير من الأفلام والمسلسلات التليفزيونية، بل يقبض بقوة على الأداء حتى أنه يساعد الممثلين والممثلات الذين يقفون أمامه في الفيلم، على الارتفاع إلى مستواه ومجاراته في إبداعه مما جعل التمثيل من أفضل النواحي الفنية في الفيلم.
ولاشك أيضا في أن المخرج نجح في الكثير من المشاهد، من التعبير عن التناقض بين الريف والمدينة، عن فكرة تجاور الموت والحياة، وفكرة البحث الدائم عن الحب ولو من خلال الجنس، وفكرة الجنس كرغبة تعكس القلق وانعدام الثقة في المحيط، وربما أيضا تجسدا لتلك الفكرة الشائعة عند الريفيين عن “نساء المدينة” الشهيات اللاتي يقدمن أنفسهن بسهولة.
ومن أكثر العلاقات في الفيلم تجسيدا لهذا التناقض بين الشاب الريفي ونساء المدينة، ربما على نحو يذكرنا – ولو من بعيد – بفيلم “شباب امرأة”، تلك العلاقة بين “أشجان”.. الأرملة الأربعينية، والشاب الريفي عبد الرحيم، المندفع الذي لا يهدأ له بال في بحثه القلق عن السكينة.
“أشجان” تعرف كيف تغويه بعد أن تدرك أنه النموذج المؤهل للوقوع في يدها بسهولة، لكنها تستدرجه وتوقع به لمصلحتها هي وطبقا لشروطها. إنها نموذج لامرأة المدينة، التي تعرف كيف تتحكم في الشاب الريفي المتدفق العاطفة، وتدفعه للسير إلى الوجهة التي تريدها، فتجعله يتزوجها رغم أن لديها ثلاثة أبناء، ثم هي التي تقرر فيما بعد، أن تنهي زواجها منه بالطلاق، عندما تجد أن زواجهما يتعارض مع مصالحها المادية المباشرة، فربما تفقد بسببه، منحة تقاعد زوجها الراحل. وكأنما هي صاحبة الكلمة والقرار. وهو ما يدفعه إلى العودة إليها بعد وقوع الطلاق، لكي يغتصبها في مشهد مصنوع جيدا، يريد أن يقول لنا إنه كريفي خشن، لا يقبل ان تلتقطه امرأة على هذا النحو، ثم تلقي به إلى الخارج وقتما تشاء هكذا، وكأنه يريد أن يحقق معها لحظة النشوة التي انقطعت، بالمفهوم الحسي المباشر، كما أنها، بسبب قوة شخصيتها، تظل في خياله المرأة الأكثر إثارة من الناحية الجسدية الصرف، وهو ما يؤكده لنا الراوي من خلال التعليق الصوتي من خارج الصورة.
ولعل هذه المشاهد بين أشجان وعبد الرحيم، من أكثر مشاهد الفيلم إحكاما وتعبيرا وسيطرة من ناحية الإخراج: تقطيع المشهد بحيث يستخلص منه أكبر شحنة تأثير درامية ممكنة، التحكم في الإيقاع: إيقاع الممثلين، وحركة الكاميرا، والسيطرة على الأداء، واختيار زوايا التصوير، واستخدام الموسيقى بحذر، واستخدام تقنية “الفوتومونتاج” في المشهد الذي يدور في الحمام فيما بعد، وإن كان شريط الصوت المصاحب يفسده، وهو ما سأتطرق إليه بعد قليل.
![]() |
مشهد من الفيلم |
أما “بسيمة” المطلقة الشابة التي كانت تجاورهم في السكن (عبد الرحيم يقيم مع شقيقته نرجس وزوجها البهي افندي، موظف البريد) فهي تظل مثل الفاكهة المحرمة، رغم أنه نالها أيضا من البداية، لكنها حرمته من نفسها، بعد أن تردد في الثقة بها. وظل يعتبرها رمزا للجمال، والرقة، والأنوثة، والدفء الذي كان يحتاج إليه بشدة.
لكن الاثنين يلتقيان مجددا في المستشفى بعد أن تكون الشجرة قد ذبلت، أي بعد أن يصيب المرض العضال عبد الرحيم، وتكون بسيمة بالفعل قد سكنت المستشفى بعد اصابتها بالسرطان.
يموت زوج شقيقة عبد الرحيم، أي “البهي”، وتموت “نرجس” نفسها بعد ذلك، ولكن تظل الأم: أم عبد الرحيم ونرجس، التي تقيم في “البلد” أي القرية، تحلم بالأرض التي ربما تكون قد ضاعت بالفعل إلى الأبد، وتتذكر أشخاصا رحلوا عن عالمنا، لكنها لاتزال، بعد أن اصبحت طاعنة في السن، تتشبث بالحياة، في الوقت الذي تعد فيه لاستقبال الموت. وعندما يصطحبها عبد الرحيم للعيش في المدينة، لا يمكنها أن تتحمل، بل نراها في المشهد الأخير من الفيلم تغادر المدينة عائدة إلى القرية غالبا، لكي تموت هناك.