رُمُوز السّينما الوثائقيّة العالميّة

المُخْرج الهُولَنْدِي “جُورِيس إِيفَانس” (Joris Evens)

كُلّ سِينمَائِيّ وثائقِيّ، مَهْمَا كَانت جِنسِيَّته وَمهما كَانت تَوجُّهاته وَانتمَاءَاته، مَدِينٌ بِطريقة أو بأخرى إِلى المُخرج الهُولندي جوريس إيفانس (Joris Evens) الذِي يُعْتَبَرُ من أهمّ أقْطَاب السّينما الوثَائِقِيَّة على غرار الأمريكي روبار فلاهرتي (Robert Flaherty) وَمُوَاطِنِهِ الهُولندي يوهان فَان دار كوكن (Johan Van Der Keuken). يُمَثِّلُ جُوريس إِيفانس الذِي وُلِدَ سَنة 1898 وَتُوُفِّيَ سَنة 1989 المَثَل النَّاصِع لِلسِّينما الوَثَائِقِيَّة التِي وفَّقَت بامتيَاز بَيْنَ الالتزَام الإِيديُولُوجِيّ وَالسِّيَاسِيّ وَالالتزَام الشِّعْرِي وَالجَمَالِي، إِذْ أَبْرَزَ دَوْر الصُّورَة الفَعَّال فِي التَّعْرِيف بِقَضَايَا الشُّعُوب أَيْنَمَا وُجِدَتْ وَفِي مُنَاصَرَتِهَا.
 تَكَوَّنَ جوريس إِيفَانس سِيَاسِيًّا وَتَمَرَّسَ عَلَى النِّزَاعَات الفِكْرِيَّة وَالسِّيَاسِيَّة أَثْنَاءَ زِيَارَتِهِ إِلَى الاتّحَاد السُّوفيَاتِي سَنَة 1930، وَهُنَاك اخْتَلَطَ بِكَثِيرٍ مِنَ المُنَظِّرِين وَالمُخْرِجِين المَسْرَحِيِّين وَالسِّينِمَائِيِّين الذِينَ كَانُوا فِي خِدْمَةِ رِسَالَةٍ وَاحِدَة وَهيَ تَصْوِير الوَاقِع كَمَا هُوَ. وَعِنْدَ عَوْدَتِهِ إِلَى هَذَا البلد سَنة 1931، أَنْجَزَ أَفْلاَمًا وَثَائِقِيَّة قَصِيرَة تَتَمَحْوَرُ جُلُّهَا حَوْلَ الحَرَكَة الصِّنَاعِيَّة النّاشئة التِي كَانَ يَعِيشُهَا الاتِّحَاد السُّوفيَاتِي، مُرَكِّزًا أَسَاسًا عَلَى تَصْوِير أَفْرَان المَعَامل الضَّخْمَة. مُنْذُ ذَلِكَ الحِين، اعْتَبَر جُوريس إِيفَانس نَفْسَهُ “رَجُلاً يَحْمِلُ الكَامِيرًا”، حَسب عِبَارَتِهِ، وَظِيفَته الأَسَاسِيَّة التِّجْوَال فِي كُلّ أَنْحَاء العَالم حسب الصُّدَف وَالضَّرُورِيَّات، لِنَقْلِ مَخَاض الوَاقع وَتَقَلُّبَاته الحَثِيثَة وَخَاصَّةً الصِّدَامِيَّة وَالمَأْسَاوِيَّة مِنْهَا.

ملصق فيلم يوميات سفر

 جُورِيس إِيفَانس هُوَ رَحَّالة السِّينمَا الوَثائقيّة العَالَمِيَّة. كَانَ مَوْجُودًا فِي إِسْبانيَا حِين انْدَلَعَتِ المُوَاجَهة الدَّامِيَة بَيْنَ الجُمهُورِيَّة الإِسْبَانِيَّة الفَتِيَّة وَجَيْش وَمِيلِيشيَات الجنرَال “فرانكُو” المَدْعُومَة مِنْ قِبَل الفَاشِيِّين وَالنَّازِيِّين. وَلَقَدْ أَفْرَزَتْ تَجْرِبَته هُنَاك رَائِعَة مِنْ رَوَائِع السِّينما الوَثَائِقِيَّة عنوَانها “أَرْض إِسْبَانيَا” (Terre d’Espagne) أَنْجَزَهُ سَنَة 1938. هوَ فِيلم متفَاعِل وَمُتَضَامِنٌ مَعَ فيلم آخر تَنَاوَلَ نَفْس الوَقَائِع أَلاَ وَهوَ “الأَمَل” (L’Espoir) للأَدِيب وَالمُخْرج الفِرَنْسِي “آندري مَالرُو” (André Malraux) الذِي كَانَ مِنْ كِبَار المُنَاصِرِين لِلْجُمْهُورِيِّين الإِسْبَان. ثُمَّ انْتَقَلَ بعد ذلك إِلَى الصِّين، وَهي من البُلْدَان المُحَبَّذَة لَدَيْه، حيثُ صَوَّرَ فِيلمًا بِعُنْوَان “الأَرْبَعُمائة مِلْيُون” (Les Quatre cents millions) وَيُعَدُّ هَذَا الفِيلم الوَثَائِقِيّ الذِي أَنْجَزَهُ سَنَة 1939 مِنْ الأَفْلاَم الطَّلاَئِعِيَّة الأُولَى التِي وَقَفَتْ إِلَى جَانب الثَّوْرَة المَاوِيَّة نِسْبَةً إِلَى “مَاو تسي تُونغ” (MaoTsé-tung)، الزَّعِيم الصِّينِي الشَّهِير. كَمَا اهْتَمَّ أَيْضًا بِمَا يَحْدُث فِي الوِلاَيَات المُتَّحِدَة الأَمْرِيكِيَّة، حَيْثُ صَوَّرَ، سَنَة 1940، فِيلمًا مَوْسُومًا بِعُنْوَان “السُّلْطَة وَالأَرْض” (Le Pouvoir et la terre)، حَاوَلَ مِنْ خِلاَلِهِ فَهْمَ تَنَاقُضَات المُجْتَمَع الأمرِيكِي وَرَصْدَ البَوَادِر الأُولَى لِرَغْبَة الوِلاَيَات المُتَّحِدَة الأمريكيّة فِي الاسْتِحْوَاذ على العالم. سَنَة 1946، حَطَّ جُوريس إِيفَانس الرِّحَال بِأَنْدُونِيسْيَا أَيْنَ صَوَّرَ فِيلمًا يَحْمِلُ عُنْوَان “أَندُونسيَا تُنَادِيك” (L’Indonésie t’appelle).
 وَبَعْد اسْتِرَاحة شِعْرِيَّة فِي العاصمة الفرنْسِيَّة بَارِيس حَيْثُ أنْجَزَ سَنَة 1957 فِيلمًا رَائِقًا بَرْهَنَ فِيه أنَّهُ مِنْ كِبَار “شُعَرَاء المُدُن”، عنوَانه “نهر السَّان التَقَى بِبَارِس” (La Seine a rencontré Paris)، عَادَ جُورِيس إِيفان مُجَدَّدًا إِلَى الصِّين لِيُخْرِجَ مَجْمُوعَة مِنَ الأَفْلام نَسْتَشِفُّ مِنْ خِلاَلِهَا نَظْرَته المُعْجَبَة وَالنَّاقِدَة فِي الآن للِنِّظَام الشُّيُوعِي القَائِم آنذاك. كَانَ يَبْحَثُ، وَهوَ المُغْرَمُ بِتَصْوِير الشُّعُوب وَالمَجْمُوعَات، عَنْ بَلَدٍ يُجَسِّدُ تَجْسِيدًا مَلْمُوسًا حُلْم السَّعَادَة وَالعَدَالَة وَالحُرِّيَّة. قَادَتْهُ قَدَمَاه، سَنَة 1961، إِلَى كُوبَا “فِيدَال كَاسترُو” (Fidel Castro) حَيْثُ صَوَّرَ فِيلمًا بِعُنْوَان “يَوْمِيَّات سَفَر” (Carnet de voyage). كَان هَاجِس جُلّ رَحَلاته البَحْثُ عَنْ أَنْظِمَةٍ سِيَاسِيَّة ثَوْرِيَّة تُنْصِفُ النَّاس، تَصُونُهُمْ مَادِّيًّا وَاجْتِمَاعِيًّا وَتُمَكِّنُهُمْ مِنَ التَّعْبِير عَنْ تَطَلُّعَاتهم وَأَحْلاَمهم بِكُلِّ حُرِّيَّة. كَانَ يَبْغُضُ التَّبَعِيَّة الإِيديُولُوجِيَّة وَالسِّيَاسِيَّة، مُتَصَدِّيًا لِقَمْعِ الحُرِّيَّات وَلِلَجْمِ الأَفْوَاه.

من احد افلامه

 تَتَمَيَّزُ جلّ أفْلاَم جُورِيس إِيفَانس بِتَرْكِيزِهَا تَرْكِيزًا مُكَثَّفًا عَلَى أَرْبَعَةِ عَنَاصِر هِيَ الأَرْض وَالمَاء وَالهَوَاء والنَّار. كَانَتْ مُمَارَسَتُهُ السِّينمَائِيَّة مُتَشَبِّثَة بِنَصَاعَة الصُّورَة وَجَدَلِيَّة المُونتَاج الحَامِي وَالسَّخن وَمَادِّيَّة الوَقَائِع التِي كَانَ يَنْقُلُهَا أَيْنمَا حَلّ. عِنْدَمَا سُئِلَ المُنَظِّر الفِرَنْسِيّ قَاسْتون بَاشْلاَر (Gaston Bachelard) الذِي اهْتَمَّ كَثِيرًا، من وُجْهَة فرُويدِيَّة، بِالعَنَاصِر المَادِّيَّة مثل النَّار وَالمَاء وَبِرُمُوزِهَا المُتَعَدِّدَة، عَنِ المُفَكِّر أو الفَنَّان الذِي يُدِينُ لَهُ فِي بُحُوثِهِ وَفِي مُقَارَبَاتِهِ التَّحْلِيلِيَّة، أَجَابَ دُونَ تَرَدُّد إِجَابَةً بَاغَتَتْ كُلّ النَّاس: “هُوَ المُخْرج وَالشَّاعر جُورِيس إِيفَانس. نَحْنُ قَرِينَان، مُنْصَهِرَان فِي نَفْس الشَّوَاغل وَالاهْتِمَامَات”.


إعلان