رُمُوز السينما الوثائقية: روبار فلاهرتي

إنّ المُخرج الأَمْرِيكي، مِنْ أَصل إِيرلَنْدِي، روبار فلاهرتي (Robert Flaherty) الذي وُلِدَ سَنة 1884 وَتُوُفِّيَ سنة 1951، هُوَ دُون مُنَازع أَهمّ مُخْرج عَرَفَتْهُ السّينما الوَثائقِيَّة، تَأَثَّرَتْ به أَجْيَال مِنَ السّينمائيّين الوَثَائِقِيِّين الكِبَار مِثْلَ الهُولَنْدِي جُورِيس إِيفانْس (Joris Ivens) والفِرَنْسِي جَاكْ إِيفْ كُوسْتُو (Jacques-Yves Cousteau) والسّوِيسرِي رِشَارْ دَنْدُو (Richard Dindo) وَغَيْرِهم.

روبار فلاهرتي

اتَّسَمَت تَحْقِيقاتُهُ الفِيلمِيَّة التِي رَكَّزَهَا على الغَوْصِ فِي عَادَات وَتَقَالِيد سُكّان المنَاطق النَّائِيَة والمَجْهُولَة التِي لَمْ تَطَلْهَا التّكنُولُوجيَا وَأَنْمَاط الحَيَاة الحَدِيثَة، بِمِسْحَةٍ “رُوسُّويَّة”، نِسْبَةً إِلَى فَيْلَسُوف عَصْر الأَنْوَار الفِرَنْسِيّ “جَان جَاكْ رُوسُّو” (Jean-Jacques Rousseau) وَنَظَرِيَّاتُهُ الشَّهِيرة المُتعلِّقَة بِالإِنْسَان البِدَائِي الذِي بَقِيَ يَعِيشُ فِي تَفَاعُل وَانْسِجَام وَتَكَامُل مَعَ الطَّبِيعَة.
 هُنَالِك شُعوب وَمَجْمُوعَات بشرية أَغْرَت رُوبَار فلاهرتي وَأَبْهَرَتْهُ بِحُكْمِ مُحَافَظَتِهَا عَلَى سُلُوكٍ مَعِيشِيّ مُتَوَاشِجٍ مَعَ تقاليد أَصِيلَة مَوْرُوثَة أَبا عَن جدّ، فَهِيَ قَطْعًا الشُّعُوب التِي تَعِيش فِي الأَصْقَاع الثّلجيّة النَّائِيَة.
وقد أَحْدَثَ فِيلمه الشّهِير “نَانُوكْ” (Nanouk) الذِي صَوَّرَهُ بَيْنَ سَنَوات 1919–1922، رَجَّةً كُبْرَى لأَنّهُ فتَحَ أَعْيُن العَالم عَلَى شُعُوب مَنْسِيَّة كَان يَعْتَقِدُ الكَثِير من الناس أنّها من صُنع الخَيَال وَأن لا وُجُود لَها في الواقع.

فيلم نانوك

يَرْوِي فلاهرتِي، فِي هذا الفِيلم، حَيَاة “نَانُوك” العَائِلِيَّة وَكُلّ الصّعُوبَات التِي يُواجِهُهَا لكسب القُوت وَالمُحَافَظَة على أُسُس العَائِلَة. فِيلمُهُ خَالٍ مِنَ الفُولْكلُورِيَّة السِّيَاحِيَّة التِي كَانَت سَائِدَة فِي أَغْلَب الرُّوبورتَاجَات السَّاذِجَة التِي أُنْجِزَتْ عَنْ هَذِهِ الشُّعُوب الغَابِرَة، مُتَّخِذًا مَنْحى حَمِيمِيًّا وذَاتِيًّا فِي قَطِيعَة كُلِّيَّة مَعَ النَّظْرَة الاستعلائية التِي تَدَّعِي التَّقَيُّد بِـ”المَوْضُوعِيَّة” وَبنوَامِيس “التّحْقِيق العِلْمِي”.
 كَان رُوبار فلاهِرْتِي مُغامرًا حَقًّا، مَفْتُونًا بِالعوالم الخَفِيَّة، تَحْدُوهُ النَّزعَة التَّجْرِيبِيَّة والبَحْث عنْ حضَاراتٍ تَعَوَّد على اكتشافها إما خلف العَواصف الثّلجِيَّة أَوْ في أعماق البِحَار. فَفِي سَنَة 1926، صَوَّرَ رَائِعَة أُخْرَى من روائع السّينما الوَثَائِقيّة بِعُنوَان “مُوانا” (Moana)، وهيَ حصِيلَةُ ثَلاث سَنَوات قَضَّاهَا المُخْرج الأَمْرِيكِي فِي جُزُر “سَامُوا” (Samoa) فِي بُحار الجَنُوب.

من فيلم “موانا”

عِنْدَمَا يُسْأَلُ عَنْ سِرّ العَلاَقَة العَاطِفِيَّة الوَطِيدَة بَيْنَهُ وَبَين شُخُوصِهِ وَعَنِ “الحِيَل” التِي يَلْجَأُ إِلَيْهَا لِتَرْوِيضِهَا وَحَثِّهَا عَلَى الجهر التِّلْقَائِي بِكَثِير مِنَ الحقَائِق، يُجِيب�� دُون تردُّد: “إِنَّنِي أَتَعَاملُ مَعَ النَّاس بِوَصْفِهم بَشَرًا لاَ حَشَرَات”.
 نُعِتَ فلاهرتِي بِـ”رُوبنسن كريزوي” (Robinson Crusoé) السِّينما الوَثََائِقِيّة، وَهي عِبَارَةٌ مَدْحِيَّة وَتَنْوِيهِيَّة بِتَمَشِّيهِ المُتَشَبِّث بِمَا سُمِّيَ بِـ”غَيْرِيَّة التُّخُوم” (L’altérité des limites) لَكِنّها أَيْضًا عبارة تَنِمُّ لَدَى البَعْض عَنْ نَوْعٍ مِنَ التّحَفُّظ حيَال نَظْرَته الفردَوْسِيَّة لِلشُّعُوب البِدَائِيَّة الضَّارِبَة فِي القِدم.
 كَانَ فلاهرتي مُقِلاًّ فِي كَلامِهِ، هُيَامُه الوَحيد هُو إِنجَاز الأَفْلام والتِّرْحَال وتجَنُّب الخِطَابَات وَالتّفْسِيرات عن مَغَازِي أَفْلاَمه. كَانَ يُؤْمنُ أَنَّهُ لم يُزَوِّق الوَاقع وَلم يُحَرِّفْهُ وَأَنَّ تُهْمَة “المِثَالِيَّة” وَ”الفِردَوْسِيَّة” وَ”الغرائِبِيَّة” التِي أُلْصِقَتْ بِهِ، نَاتِجَة عَنْ جَهْل النَّاس بحَيَاةِ هَذِهِ الشُّعُوب وَبتَضَارِيس بِيئَتِهِم وَأَنْمَاطِ عَيْشِهِمْ، لِذَا اعْتَبَرَ، بِتَوَاضُعٍ صَادِق، أَنَّ مُهِمَّة أَفْلاَمِهِ الأَسَاسِيَّة هِيَ مُحَاوَلَة تَقْلِيص الهُوَّة بَيْنَ الشُّعُوب “المُتَحَضِّرَة” وَالشُّعُوب التِي بَقِيَتْ خَارِج سِيَاق مَا سُمِّيَ بِـ”التّقدّم”.
 مِثْلَمَا تَوَغَّلَ رُوبَار فلاهرتي فِي البِحَار والثُّلُوج بِنظْرَة المُحَقِّق الإِتْنُولُوجِي، فَإِنَّهُ تَوَغَّلَ أَيْضًا فِي عَوَالِم المُدُن الأَمْرِيكِيَّة الكُبْرَى مِثْل مُقَاطَعَة “مَانْهَاتِنِ” بِنيويورك، كَمَا يُبَيِّنُهُ فِيلم “جَزِيرة الـ24 دُولار” (L’Ile aux 24 dollars)، الذِي يَنْتَقِدُ فيه المُخْرج ضَخَامَة بِنَاءَات نَاطِحَات السَّحَاب وَغَطْرَسَتِهَا. فِي هَذَا الفِيلم، كَان فلاهرتي وَفِيًّا لنفس التّمَشِّي أَلاَ وهوَ إِنْجَاز وَثِيقَةٍ مَرْئِيَّة عَنْ مَا هُوَ طَرِيف وَمُتََفَرِّد فِي رُدُود فِعْل بَعْض الشَّخْصِيَّات تِجَاهَ بِيئَتِهِمْ.

فلاهرتي أثناء تصوير “جزيرة 24دولار”

تَجَنَّبَ فلاهرتي تَجَنُّبًا كُلِّيًّا، فِي نَقْدِهِ لِلْحضَارَة الأَمْرِيكِيَّة، البَيَانَات السِّيَاسِيَّة وَالإِيديُولُوجِيَّة إِلَى حَدّ أَنَّهُ نُعِتَ بِالفَنَّان غَيْر المُلْتَزِم الذِي لاَ يَأْخُذُ بِعَيْن الاعْتِبَار العَوَامِل الاِجْتِمَاعِيَّة والاقْتِصَادِيَّة التِي تَتَحَكَّمُ فِي مَصِير البَشَر. هَذَا الرَّأْي فِيه كَثِير مِنَ التَّجَنِّي وَسُوء التَّقْدِير بِمَا أَنَّ الالْتِزَام الوَحِيد الذِي كَانَ يُؤْمِنُ بِهِ رُوبَار فلاهرتي هُوَ “الالْتِزَام الشِّعْرِي” (l’engagement poétique)، أَيْ تلك النَّظْرَة السَّخِيَّة المُنْفَتِحَة عَلَى بَهَاء العَالم وَعَلى مَبَاهِجِهِ وَعَلى مُبَاغَتَاتِهِ المُسْتَحَبَّة.


إعلان