رُمُوز السّينما الوثائقيّة: اللّبنانيّة جوسلين صعب
كيفَ يَتَصَرّف المُخْرج السّينمَائِي أمام العَلاَقَة القائمة بَيْنَ الفَوْضَى وَاللاَّفَوْضَى، النَّظَام وَاللاَّنِظَام؟ هَذَا الرِّهَان مَطْرُوح بِحِدَّة خَاصَّة بِالنّسبَة إلى السّينمَا الوَثَائِقِيَّة. فَخِلاَل تَصْوِير فِيلم، يُمْكِنُ أَنْ تَطْرَأَ بَعْض المُفَاجَآت غَيْر المُتَوَقّعَة وَأَنْ تَبْرُزَ بَعْض العَرَاقِيل وَالصُّعُوبَات غَيْر المُنْتَظَرَة. إنَّ جُلّ أَفْلاَم المُخْرِجَة الوَثَائِقِيّة اللُّبْنَانِيَّة جُوسلِين صَعْب، وَهي مِنْ مَوَالِيد 1948 بِبَيْرُوت، تَحْمِلُ بَصَمَات هَذَا الصِّرَاع بَيْنَ مَا هُوَ مُسَطَّر وَمُبَرْمَج وَمَا هُوَ مُبَاغِت وفجائي خِلاَلَ فِعْل الإِخْرَاج.
دَرَسَتْ جُوسْلِين صَعْب العُلُوم الاقْتِصَادِيَّة بِبَارِيس قَبْلَ أَنْ تُصْبِحَ صُحُفِيَّة لاَمِعَة وَمُهَابَة. انْطِلاَقًا مِنْ سَنَة 1975، قَامَتْ بِتَغْطِيَة الحَرْب الأَهْلِيّة التِي انْدَلَعَتْ فِي لُبْنَان آنَذَاك. أَنْجَزَتْ مَجْمُوعَة مِنَ الأَفْلاَم الوَثَائِقِيَّة قَبْلَ أَنْ تَنْتَقِلَ سَنَة 1985 إِلَى الجِنْس السِّينِمَائِي الرِّوَائِي. هِيَ مِن أَبْرَز رُمُوز السِّينِمَا الوَثَائِقِيَّة العَرَبِيَّة، صُحْبَةَ مُوَاطِنَتِهَا، المَرْحُومَة رَنْدَة شَهال (Randa Chahal)، صَاحِبَة رَائِعَة “خُطْوَة خُطْوَة” الذِي أَنْجَزَتْهُ فِي مُنْتَصَف السَّبْعِينَات عَن رَحَى الحَرْب الأَهْلِيَّة بِلُبْنَان.
![]() |
الراحلة رندة الشهال
امْتَزَجَتْ مَسِيرَةُ جُوسْلِين صَعْب كَمُخْرِجَة وَثَائِقِيَّة بِدَمَارَات الحَرْب التِي كَانَ يَتَخَبَّطُ فِيهَا بَلَدُهَا. صَوَّرَتْ، سَنَة 1975، فِيلمًا بِعُنْوَان “بَيْرُوت لَمْ تَعُدْ كَمَا كَانَتْ”، كَشَفَتْ فِيهِ مِنْ خِلاَل شَهَادَات مُتَفَرِّقَة عَنْ أَسْبَاب انْدِلاَعِ الحَرْب وَالتَّنَاحُر العَقَائِدِي وَالدِّيِنِي بَيْنَ مُخْتَلف شَرَائِح المُجْتَمَع اللُّبْنَانِي. تتَخَلَّلُ هَذَا الفِيلم نَبْرَة مِنَ الحُزْن جَرَّاءَ هَوْل الحَرْب. كَانَتْ مُتَأَثرَة جِدًّا بِتَيَّار الوَاقِعِيَّة الإِيطَالِيَّة الجَدِيدَة (Le Néo-réalisme italien) الذِي بَرَزَ قَبْلَ وَبَعْدَ الحَرْب العَالَمِيَّة الثَّانِيَة فِي إِيطَاليَا المُدَمَّرَة وَالمَهْزُومَة. كُلُّنَا يَعْرِف الدَّوْر البَارِز لِلأَطْفَال فِي جُلّ أَفْلاَم الوَاقِعِيَّة الإِيطَالِيَّة الجَدِيدَة مِثْل “سَارق الدَّرَّاجَة” (le Voleur de bicyclette) وَ”مَاسِحُو الأَحْذِيَة” (Sciusia) لِلْمُخْرج فِيتُوريو دي سيكا (Vittorio De Sica). هُمْ أَطْفَال مُشَرَّدُون تَحَمَّلُوا مَتَاعِبَ الحَيَاة وَمَسْؤُولِيَّات جَسِيمَة رَغْمَ صِغَرِ سِنِّهم.
فِي الفِيلم الذِي صَوّرَتْهُ جُوسلِين صَعب، سَنَة 1976، بِعُنْوَان “أَطْفَال الحَرْب”، نَتَبَيَّنُ تَأْثِير مَدْرَسَة الوَاقِعِيَّة الجَدِيدَة فِي كَيْفِيَّة تَصْوِير الوَاقع وَالالْتِصَاق الوَثِيق بِمَآسِيه اليَوْمِيَّة. أَبْطَالُ هَذَا الفِيلم أَطْفَالٌ أَبْرِيَاء فَقَدُوا سَنَدَهُمْ وَأَصْبَحُوا ضَائِعِين فِي الشَّوَارِع دُونَ مَأْوَى، مُصِرِّينَ عَلَى كَسْبِ قُوتِهِمْ مَهْمَا كَانَتِ السُّبُل. كُلَّمَا سُئِلَتْ جُوسْلِين صَعْب عَنْ أَسْبَاب مَدَى اهْتِمَامِهَا بِأَطْفَالِ الحُرُوب، تُجِيبُ وَهيَ تَذْكُرُ فِيلمًا خَلَّدَتْهُ الذَّاكِرَة السِّينِمَائِيَّة وَهوَ “الهَائِمُون” (Los Olvidados) لِلْمُخْرِج الإِسْبَانِي الفِرَنْسِي لوِي بِينُوِيل (Luis Buñuel) الذِي صَوَّرَهُ فِي نِهَايَة الخَمْسِينَات بِالمِكْسِيك عَنْ الأَطْفَال اليَتَامَى الذِينَ دَمَّرَهُم وَاقِع التَّشَرُّد فِي الشَّوَارِع.
إِنَّ أَغْلَب الأَفْلاَم التِي أَخْرَجَتْهَا جُوسلِين صَعْب عَنِ الحَرْب الأَهْلِيَّة بِلُبْنَان هِيَ أَفْلاَم مُهِمَّة بِالتَّأْكِيد، مَثَّلَتْ شَهَادَة حَيَّة عَنْ بَلَدٍ يُمَزَّقُ مِنْ قِبَلِ أَبْنَائِهِ. لَكِن فِي رِحْلَتِهَا مَعَ السِّينِمَا الوَثَائِقِيَّة هُنَالِكَ فِيلمَان هَامَّان سَيَبْقَيَان مَنَارَتَيْن بَارِزَتَيْن فِي السِّينِمَا الوَثَائِقِيَّة كَكُلّ وَهُمَا “القَاهِرَة مَدِينَة الأَمْوَات” الذِي صَوَّرَتْهُ سَنَة 1978 و”السُّلُطَات وَالصِّرَاعَات بِإِيرَان: زَحْف الطُّوبَاوِيَّة” (1980). بِقَدْر مَا كَنَتْ أَفْلاَمهَا السَّابِقَة أَفْلاَمًا تِلْقَائِيَّة مُرَكَّزَة عَلَى المَضْمُون أَكْثَرَ مِنْهُ عَلَى الشَّكْل، فإِنَّ هَذَيْن الفِيلمَيْن يَعْكِسَان تَطَوُّرًا مَلْحُوظًا عَلَى مُسْتَوَى كِتَابَتِهَا الفِيلْمِيَّة، وَكَأَنَّهُ كَانَ لزاما عَلَيْهَا أَنْ تُغَادِرَ لُبْنَان وَتَبْتَعِدَ قَلِيلاً عَنْ وَاقع الحَرْب الذِي حَبَسَ أَفْلاَمَهَا فِي خَانَةٍ وَاحِدَة وَأَنْ تَكْتَشِفَ وَاقِعًا عَرَبِيًّا آخَر.
![]() |
صورة الحرب اللبنانية في أفلام صعب
بِقَطْعِ النَّظَر عَنِ القَضِيَّة الشَّائِكَة التِي تَطَرَّقَتْ إِلَيْهَا فِي فِيلْمِهَا “القَاهِرَة مَدِينَةُ الأَمْوَات” وَهيَ تَكَاثُر القُبُور السَّكَنِيَّة فِي ضَوَاحِي العَاصِمَة المِصْرِيَّة، فَإِنَّ هَذَا الفيلم يَتَمَيَّزُ، فِي صُلْبِ عَمَلِيَّة التَّصْوِير ذَاتِهَا، بِعِنَادِ مُخْرِجَةٍ تَرْفُضُ أَنْ يَقَعَ لَجْم الكَامِيرَا التِي تَحْمِلُهَا مِنْ قِبَل السُّلَطات المِصْرِيَّة. جَعَلَتْ كُلّ المُضَايَقَات التِي تَعَرَّضَتْ لَهَا مَدَارَ مَوْضُوع هَذَا الفِيلم الرَّئِيسِي. لِمَاذَا تُصَادَرُ الحُرِّيَّات؟ لِمَاذَا تَخَافُ السُّلْطَة مِنَ الصُّورَة الفَاضِحَة؟ لِمَاذَا تُعَامَلُ مُخْرِجَةٌ عَرَبِيَّة فِي بَلَدٍ عَرَبِيّ بِتِلْكَ القَسْوَة مِنْ قِبَل السُّلَطة وَكَأَنَّهَا مُخْرِجَة إِسْرَائِيلِيَّة؟ كُلّ هَذِهِ التَّسَاؤُلاَت نَرَاهَا مُجَسَّدَة فِي صَيْرُورَة الفِيلم، سَوَاءً فِي فَتَرَاتِ طَلاَقَتِهِ أَوْ فِي فَتَرَاتِ عَرْقَلَتِهِ. فِي هَذَا الجَانِب بِالذَّات، تَكْمُنُ حَدَاثَة جُوسْلِين صَعْب بِوَصْفِهَا مُخْرِجَة وَثَائِقِيَّة، وَنَعْنِي بِالحَدَاثَة تِلْكَ القُدْرَة الفَائِقَة فِي مُسَاءَلَة العَلاَقَة بَيْنَ الفَنّ وَالسُّلَطَة الحَاكِمَة خِلاَلَ عَمَلِيَّة التَّصْوِير نَفْسهَا.
سَيَبْقَى فِيلمهاَ الوَثَائِقِيّ عَنْ إِيرَان أَهمّ فِيلم أَنْجَزَتْهُ طوَال مَسِيرَتهَا. صَوِّرت فِيه نَخْوَة انْتِصَار الثَّوْرَة الإِسْلاَمِيَّة الخُمَيْنِيَّة وَهيَ فِي بِدَايَة طَرِيقِهَا بَعْدَ إِجْبَار الشَّاه عَلَى التَّخَلِّي عَنِ الحُكْم وَمُغَادَرَة البِلاَد. نَرَى فِي الفيلم رُمُوزَ هَذِهِ الثَّوْرَة الهَائِجَة مِثْل “علي الخَلْخَالِي” رَئِيس المَحَاكِم الإِسْلاَمِيَّة، نَاهِيًا وَمُسْتَنْكِرًا كُلّ صَوْتٍ لاَ يَتَجَاوَبُ مَعَ الثَّوْرَة. كَمَا نَرَى أَيْضًا مَشَاهِدَ القَمْع ضِدَّ النِّسْوَة غَيْر المُتَحَجِّبَات وَضِدَّ المُثَقَّفِين اليَسَارِيّين. مَا صَوَّرَتْهُ إِذَنْ جُوسْلِين صَعب فِي هَذَا الفِيلم الرَّائِع هُوَ قَفَا وَاجِهَة الثَّوْرَة الإِيرَانِيَّة. مَا هُوَ دَوْر الصُّورَة الوَثَائِقِيَّة المُلْتَزِمَة فِي نِهَايَة الأَمْر؟ أَلَيْسَ فَضْحُ خِدَاع السُّلْطَة وَكَسْر شَوْكَتِهَا؟