ملف الدراما العربية

 سؤال الارتقاء بذاتها وترقية المجتمعات والمدن

إبراهيم غرايبة – الأردن
 

تقدر الأعمال العربية الدرامية (المسلسلات) التلفزيونية التي بثت في شهر رمضان لهذا العام بحوالي مائتي عمل، نتحدث عن حوالى بليون دولار أنفقت على الدراما هذا العام، وعلى رغم ذلك فإنها أعمال يغلب عليها أنها لا ترقى إلى التعبير عن متطلبات المدن وحياتها وتشكلاتها، وهي الفلسفة الأساسية المفترضة للدراما والرواية في الحياة المعاصرة، وهذا هو السؤال الملح المفترض أن يشغل اليوم المهتمين بالثقافة العربية، لماذا ننفق كثيرا ولا نحصل على ما ننتظره من الأعمال الروائية والدرامية؟ كيف ترقي الدراما العربية إلى المستوى المأمول والمنتظر منها لتلبي تطلعات المشاهد العربي والمدن العربية إلى عمل جميل يضيف إلينا أشياء ومعاني جميلة تحسن حياتنا وتمنحها جمالا وقدرة على تطوير وتجديد مواردنا؟
كيف تحول شهر رمضان إلى موسم الإنتاج الدرامي في الوطن العربي؟، فالمسلسلات يجرى الإعداد لها على مدى العام لتبث في رمضان، ولم تعد تصدر مسلسلات جديدة في غير رمضان، وفي الوقت الذي تزدحم فيه الشاشات العربية بالمسلسلات الجديدة، فسوف يمضي المشاهد بقية العام بلا مسلسل جديد، وستكون فرصته في عملية الاجترار التي ستمارسها المحطات التلفزيونية ليشاهد مسلسلا لم يتح له مشاهدته في رمضان.
ويجب أن تكون المسلسلات الرمضانية بالطبع تتكون من ثلاثين حلقة على الأقل لتناسب طبيعة الموسم الرمضاني، فيغلب على المسلسلات طابع الإطالة المتعمدة وبطء قاسي في الإيقاع، ومبالغة في عرض المشاهد الفقيرة ابتداء، وتحشى المسلسلات بحوارات وأفكار ومشاهد بقصد ملء الفراغ، فتتحول مشاهدة المسلسل إلى عملية تعذيب.
وتسطح الشخصيات والمشاهد لأن الخيال والتعقيد يقع ابتداء في التكثيف والبلاغة التصويرية التي يستغنى عنها لأغراض الإطالة وتقليل التكاليف، ولأن العمل الروائي الذي يحتاج التعبير عنه إلى جهد درامي وإخراجي استثنائي ومكلف يصبح لا يصلح، فيستغنى عن الأعمال الروائية الناجحة والقوية والتي لقيت قبولا ونجاحا بصفتها عملا أدبيا ممتعا وناجحا، ليكون البديل الكتابة خصيصا للمسلسلات التي ستعد، فتختار أعمال لم تخضع للتنافس ولا جربت في سوق النشر والتوزيع والقراءة، بل وتكتب وتصاغ على النحو الذي يبسط عملية الأداء والتصوير والإخراج ويقلل تكاليفها إلى الحد الأدنى.
وبسبب ضغط العمل والوقت فإنها غالبا ما تكون قد أعدت على عجل اعتمادا على مظنة غباء المشاهد، أو قبوله بكل ما يعرض أمامه أو يفرض عليه، واستنادا إلى ذكريات تفرد التلفزيونات الرسمية وسيطرتها على الفضاء، مما جعل الدراما تعرف أقزاما ومجاهيل لا علاقة لهم بالأدب والفن سوى العلاقات الرسمية والشخصية، وتجاهلا لانفتاح الفضاء بلا حدود، والإتاحة اللا نهائية التي يمنحها الريموت كونترول للمشاهد.
هذه المقدمة لا تنفى أن الدراما العربية  تتضمن إيجابيات كثيرة وأنها بخير وعافية وتشهد زخما كبيرا يدل عليه العدد الكبير للمسلسلات، والقدر الكبير من الأفكار والصور واللمسات الإبداعية الجديدة والتطور في الإعداد والتصوير والإخراج، واستحضار التاريخ والتحديات والتحولات الكبيرة التي تجري على المجتمعات والدول، والأفراد أيضا، وتؤشر على رغبة وإرادة لدى القائمين على محطات التلفزيون والمؤسسات الإعلامية على إنتاج أعمال درامية جميلة.
ولكن الدراما العربية التي وظفت الوحدة اللغوية العربية جيدا، واستفادت من انتهاء احتكار الفضاء، بحاجة أن تجتاز قواعد التسويق الجديدة التي تفرض توقيت المسلسلات في رمضان وأن تكون ثلاثين حلقة بالتمام والكمال، وربما تحتاج إلى تحول استراتيجي باتجاه السينما  لتحتكم مباشرة إلى الجمهور، وتعتمد على التذاكر والوسائط الفردية للعرض، وتكسر قاعدة  الاعتماد الاستراتيجي على المحطات التلفزيونية في التمويل والتسويق، لأنها مهما كثرت لن تكون سوقا ينشئ تنافسا وعرضا وطلبا يطور الدراما ويجعلها تحت المراقبة والاختبار.
ربما يصلح “الإرهاب” مثالا أو حالة دراسية لملاحظة السلوك الإعلامي والتسويقي للدراما العربية ومحاكمة الفلسفة والرؤية المحركة لهذه الأعمال، فقد احتل الإرهاب مساحة واسعة من الدراما، وربما كان للمرة الأولى المحور والموضوع الأساسي الذي يدور حوله مسلسل طويل، ولكن الدراما العربية في معالجتها للإرهاب ومكافحة الإرهاب لم تخرج عن أساليب تسويق الشامبو  والعطور، فتقديم الإرهاب على هذا النحو المبسط وفي هذا السياق من التعامل الإعلامي والدرامي والاستخباري مع ظاهرة الأصولية والعنف يكاد يندرج في حراك الإعلام والسياسة ودوامة الاستدراج والتضليل التي تتحول إلى دائرة لا يعرف لها بداية ولا نهاية، فيغرق الناس في موجة من المعالجات والصور والأخبار والتحليلات والمقابلات والتحقيقات والمعلومات، والتي تكون في قدر من الضخامة والتكرار لا يعود أحد معها قادرا على الفرز والتحليل والتمييز بين المهم والأقل أهمية وعديم الأهمية.
وبالطبع فإن فهم العنف والتطرف واستيعابهما ومواجهتهما قضية بالغة الأهمية عالميا وإقليميا ووطنيا، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، تاريخيا وجغرافيا، وجيوسياسيا وجيوستراتيجيا، ولكن ما نشاهده ونقرأه ونسمعه مما تقوم به الصحافة العالمية المقروءة والمرئية والمسموعة ووكالات الاستخبارات.. لا يتجاوز التسلية والعبث و”الضحك على اللحى”.
وأقتبس هنا للتفكير والتأمل جزءا من دراسة للفيلسوف الفرنسي جان بودريار للإرهاب، فهو يقول: “نحن (الغرب) الذين أردنا هذه الأحداث وإن ارتكبها (هم)، وإذا لم ندرك ذلك يفقد الحدث كل بعده الرمزي، فيبدو حادثة محضة نفذها بضعة متعصبين يمكن القضاء عليهم وإزالتهم من الوجود، والحال أننا نعلم جيدا أن الأمر ليس كذلك”.

 

الفيلسوف جان بودريار

كامل المقال


إعلان