الدّور الفعّال للسّينمائيّين التّونسيّين الهواة
الهادي خليل
توجد فترة هَامَّة من تاريخ تونس وما عاشته من أحداث سياسيّة واجتماعيّة خطيرة في عدد كبير من أفلام السّينمائيّين الهواة الوثائقيّة. إنّ الدّور الطّليعيّ الذي لَعبَتْهُ الجَامعة التُّونسيّة للسّينمائيين الهُوَاة، التي رأت النّور سنة 1962، كان ثمرة سياق سياسيّ واجتماعيّ متوتّر ونتاج حياة جمعياتيّة زاخرة ووليد الإيمان بقضايا ومثل طيلة عقدي الستّينات و السبعينات الذين تميّزا بقمع الاحتجاجات الطلاّبيّة و تفكيك الفصائل الماركسيّة اليساريّة و المساس الخطير باستقلاليّة المركزيّة النقابيّة.
قيمة الشّهادة وضرورتها
في بلاد كُِتَب تاريخها السيّاسيّ والاجتماعيّ كِتابة تمجيديّة أحاديّة الاتّجاه حيث يحتكر الحبيب بورقيبة القطاع السمعيّ البصري كلّه ويوظّفه لمآرب سلطويّة نرجسيّة.كان من المتوقّع أن تظهر صور مضادّة وروايات للاحداث التاريخيّة متحرّرة من قبضة الدّعاية الرسميّة.
إنّ القمع واستغلال النّفوذ والتّجاوزات بمختلف أشكالها تولّد غالبا ردود أفعال وتساعد على ظهور مواهب جديدة.لم تكن موجة النّضال التي ظهرت صلب الجامعة التونسيّة للسينمائيين الهواة، وفي قطاعات كثيرة أخرى من المجتمع، ثمرة قناعات إيديولوجيّة وسياسيّة فقط ولكنّها كانت وليدة سياق فكريّ ثقافيّ محفّـز أيضا.
إنّ هذه الحاجة الملحّة إلى الشّهادة على المجتمع التونسي من كلّ وجوهه و جوانبه قد تسارعت إلى حدّ أصبحت معه في السّنوات الثّمانين من القرن الماضي الطّابع المميّز لجامعة السينمائيين الهواة و أشكال تدخّلها في المُجتمع التّونسي.
لنستعرض أهمّ الأفلام الوثائقيّة التي أُنجزت في صُلب الجامعة التّونسيّة للسّينمائيّين الهُواة.
الالتزام الاجتماعي
في بداية سنة 1979، وقع إنجاز شريطين وثائقيّين مُهمّين في عمق شهاداتهما وهُمَا “أولاد العابد”، يدوم قرابة الرّبع ساعة، من إخراج رضا بن حليمة وحافظ المزغنّي اللّذان كانا ينتميان إلى “نادي تونس” للسّينمائيّين الهُواة. يتناول هذا الشّريط معاناة تلاميذ “أولاد العابد” اليوميّة في تنقلّهم من قريتهم الواقعة قرب مدينة النفيضة، في السّاحل التّونسي، إلى المدرسة. أمّا الشّريط الثاني بعنوان “تجارة الملابس القديمة”، فهو يدوم قرابة النّصف ساعة، من إخراج رضا بن حليمة بمساعدة كلّ من محمّد الرياحي ومحمّد عبد السّلام وبلقاسم الهمّامي والفقيد الهادي التركي من “نادي الحمّامات” ويوسف سلامة من “نادي قليبية”. في هذا الشّريط، تمّ استكشاف هذا المحضن الاجتماعيّ الزّاخر- أي تجارة الملابس القديمة – عن طريق تحقيق أجري في الملاّسين والحفصيّة، هذين الحيين الشعبيين المكتظّين بالسكّان في مدينة تونس العاصمة.
إنّه لَمِنْ حسن الطّالع أن تنطلق مرحلة الثمانينات من نشاط الجامعة التونسيّة للسينمائيين الهواة بشريط وثائقيّ لرضا بن حليمة بعنوان ” لحظة احتفال ” 1981 لتختتم بشريط متوسّط الطول بعنوان ” أحداث” 1989 من إخراج فوزي الشبلي و محمّد عبد السّلام و بلقاسم الهمّامي وسيف القديدي و مصطفى الطيّب . ويأتي هذا الفلم على سنوات عشر من تاريخ تونس المضطرب سياسيّا واجتماعيّا
في العمل الأوّل، صوّر بن حليمة الإضراب العام الذي أعلنه موظّفو الصيدليّة المركزيّة احتجاجا منهم على تجاوزات الإدارة المتنوّعة. أمّا شريط “أحداث” وهو إنجاز جماعي لنادي تونس للسّينمائيّين الهُواة، فهوَ يستعرض أهمّ الأزمات السّياسيّة والاجتماعيّة التي عاشتها تونس، ابتداء من الإضراب العام الذي أعلنته ونفّذته المنظّمة الشّغيلة في جانفي 1978 إلى أحداث ما سُمّي بـ”ثورة الخبز” في جانفي 1984.
ويعود هذا الهاجس، هاجس التأريخ وحفظ الذاكرة، ليظهر من جديد في الشّريط القصير الذي يستغرق خمس عشرة دقيقة ويحمل عنوان “معركة الجلاّز” وقد أنجزه سنة 1986 سالم بن يحيى المنتمي إلى نادي “إيزنشتاين” بتونس الشماليّة. يعود الفلم إلى وقائع المواجهة الدّامية التي جرت أحداثها يوم 7 نوفمبر 1911 بين المواطنين المدنيين التونسيين والسّلطات الفرنسيّة التي وضعت مشروع تهيئة يمسّ من حرمة مقبرة المسلمين المعروفة بـ”الجلاّز” في مدينة تونس. أخذ بن يحيى صوره الفوتوغرافيّة من مجلّة “تونس المصوّرة” التي كان يصدرها فرنسيون واهتمّ خاصّة بوطنيين تونسيين شبّان طواهم النّسيان بعد أن دفعوا حياتهم في معارك شوارع أو حكمت عليهم بالإعدام الإدارة العسكريّة الفرنسيّة.
الشّهادة السّياسيّة والنّقابيّة
تكاثرت الأفلام الوثائقية ذات النسغ النقابيّ والاجتماعيّ خلال النصف الأوّل من عقد الثمانينات. ولقد تميّزت هذه الفترة التاريخيّة بظاهرة الحملات الشّرسة الهمجيّة التي وجهّها نظام الحبيب بورقيبة ضدّ الاتحادات الجهويّة للشغل التي كانت تحاول إعادة بناء نفسها وإعادة رفع رأسها بعد الضربة التي تلقتها سنة 1978.
أخرج نادي سينما الهواة بحمّام الأنف، وهو من منتهجي سياسة الإنتاج الجماعي شريطا وثائقيّا بعنوان “الانطلاقة” يعيد رسم بدايات الحركة النقابيّة في تونس وتاريخها. ودعّم نادي “هاني جوهريّة” بصفاقس هذا الاحتفاء بالنّضال النقابيّ بعمل جماعيّ ظهر سنة 1985، وهو شريط مؤثّر يدوم قرابة نصف ساعة، ويحمل عنوان “عرق الأطفال الصّغار”. يتطرّق هذا الشّريط إلى الوضع الصّعب والمُهين لبعض من “أطفال الشّقاء”، مثل عُمَّال النّسيج وجامعي القاذورات والباعة المتجوّلين. يدين هذا الشّريط، عبر تَعليق صيغ بالعربيّة الفصحى، استغلال الأطفال وخاصّة أطفال فلسطين وكلّ الشّعوب المُضْطَهدة. وأخرج النّادي أيضا، سنة 1987، شريطا وثائقيّا يدوم قرابة العشرين دقيقة، عنوانه “نسمة الإصرار” وهو شريط يتحدّث عن إضراب لِنِساء عاملات في مصنع خياطة.
في هذه الأشرطة الوثائقيّة المُتنوّعة، هنالك تجربة قيّمة لا يمكن نسيانها بأيّة تعلّة كانت. إنّها تجربة الشهادات المتعلّقة بالمعارك التي خاضتها حركات تحرير وطنيّة فتيّة. وكان لرفيق ستالي من نادي حمّام الأنف دور هام في هذا المجال. فلقد أخرج، سنة 1983، شريطا يدوم سبعين دقيقة بعنوان “على طريق التحرير”، وفيه تناول المعارك التي يخوضها الشّعب الفلسطيني ضدّ المحتلّ الصهيونيّ. وفي ذات السنة، أعاد الكرّة بأن أخرج شريطا عنوانه “بدون هويّة”، عن جبهة “البوليزاريو”، وهي حركة فتيّة، تناضل من أجل تحرير الصحراء الغربيّة من الحضور العسكريّ المغربيّ.
إنّ هذه الاندفاعة المناضلة التي عرفتها الجامعة التونسيّة لسينما الهواة والتي تقطع بصفة جليّة مع السينما التونسيّة المحترفة التي ظلّت بمنأى عن مثل هذه الرّهانات , تثبت أنّ السينما الهاوية كانت ,بما توفّر لها من إمكانيات, حاضرة في كلّ المعارك و في كلّ الجبهات في تونس وخارجها.