“العيش في زرْزيس”الفيلم الفائز بجائزة تطوان الكبرى

المغرب: أحمد بوغابة

شارك الفيلم الوثائقي التونسي “زرْزيس” للمخرج محمد الزرن في المسابقة الرسمية لمهرجان تطوان للسينما المتوسطية (شمال المغرب) ضمن الفقرة الخاصة بالأفلام الوثائقية ليحصل منه على الجائزة الكبرى التي تحمل إسم المدينة التي تم الإعلان عنها يوم 3 أبريل الجاري.
فبما ذا يتميز هذا الفيلم الذي تفوق في إقناع لجنة التحكيم المُشكلة من أسماء لها وزنها الإبداعي في الحقل السينمائي خاصة الجنس الوثائقي.
إن قوته تكمن أساسا في حميميته بل أكثر من ذلك في ذاتيته المُفرطة إلى حد يتبادر إلى ذهن المُشاهد أن المخرج “ينسى” الكاميرا أمام “شخصياته” لكي تتحدث على هواها دون قيد أو شرط رغم الإحساس بافتعال أحاديث أحيانا لكن ذلك يتماشى مع المنظومة العامة لهيكلة بنائه الفيلمي بفضل المونطاج الذي سخره المخرج ليُؤرخ لشخصيات الفيلم أكثر من اهتمامه بفضاء المدينة نفسها التي لم تظهر في الفيلم إلا كخلفية بحكم الواقع وهذا التهميش المقصود للمدينة – ربما – هو انعكاس للتهميش الذي تعيشه أصلا كما جاء على لسان عدد من المتدخلين في الفيلم.
يفتتح الفيلم بالشروق والاستعداد للعرس ليختمه بالغروب وأخبار عن بعض شخصياته التي قضت نحبها (سيمون التاجر اليهودي) أو التي نجحت في تحقيق رغبة دفينة منذ سنوات (عودة الفنان الهادي إلى باريس ونجاح عمليته الجراحية). فبين هذين الزمنين الطبيعيين (الشروق والغروب) نعيش في المدينة أحداثا متتالية ومسترسلة عبر عدد من الشخصيات المركزية التي تلتقي في ما بينها أو تتقاطع مصائرها وسيرُها في الأمكنة الأساسية لفضاء المدينة
وعليه، فنحن أمام تأْريخ للإنسان القاطن لذلك المكان المُغلق في دائرة أُناسه والمفتوح على العالم الخارجي بأحلام الشباب ومظاهر السياحة.
غلب على الفيلم الجانب الواقعي وهو ما يسمح لنا بضم الفيلم إلى شبكة أفلام الواقع التي شهدنا منها الكثير أهمها للمخرج الفرنسي جان روش الذي صور الحياة الإفريقية كما هي معروضة في الطبيعة البشرية.
اشتغل المخرج محمد الزرن على الازدواجية في تركيب فيلمه، وبالتالي فهو يعكس ازدواجية لواقع مجتمعه التونسي متخذا مدينة غير عصرية مائة في المائة فهي تترنح بين الأصالة والمعاصرة، بين التقليد والاجتهاد، بين حب الأرض والرغبة في الهجرة، بين الطموح واليأس. باختصار، بين الداخل والخارج في ذات الإنسان سواء الجانب النفسي أو المادي الملموس.
عناصر سينمائية كثيرة يبسطها المخرج أمامنا، مؤكدا لنا نظرية القاعدة والاستثناء، وأن هذا التجاذب التي تحيى به جميع الشخصيات المُصورة هو الواقع نفسه.
وتبدأ هذه الازدواجية من عنوان الفيلم بحيث يحمل عنوانين مختلفين إذ بالعربية هو إسم المدينة نفسها “زرْزيس” التي يُقال بأنها تحوير لإسمها الحقيقي “جرجيس” بينما بالفرنسية والإنجليزية vivre içi/being here(العيش هنا) بأحرف مُكسرة (استحالة العيش العادي بها أو بعيش مُكسر). الخلل في العنوان هو الخلل في الحياة بهذه المنطقة بحيث كل شيء يحيى انكسارا داخله كانكسار العنوان نفسه.

الطاهر الزرن يتسلم الجائزة متوسطا احمد محفوظ(يمين) واسامة فوزي

لم يخلُ ملصق الفيلم من هذه الازدواجية كخط أُفقي وعمودي في ذات الوقت إذ وضع عليه شخصيتين لذكر وأنثى، دون غيرهما، شكلا بجسمهما بابا أو نافذة تطل على البحر من الشاطئ في انسجام تام لإيقاع جسدهما وبذلك غيب المدينة وملامحها بشكل مُطلق لأنها هي أصلا مهمشة اللهم وجود بعض السياح العجزة بفضل وجود البحر الذي تمتعت به السائحة الألمانية الهاربة من عنف الرجل الغربي (مواطنها) بينما الرجل الشاب العربي/التونسي شهما ومتفهما وحنونا وهي غير الصورة التي يحملها الغرب عن الرجل العربي. لكن هذه العلاقة غير سليمة لأنها جمعت بين شاب في مقتبل العمر مع إمرة مُتقدمة في السن عليه حتى لا يخرجنا المخرج من إطاره الذي وضع فيه فيلمه أي الازدواجية التي أشرنا إليها أعلاه. فهذه المرأة الأوروبية جاءت للبحث عن رجل يلبي رغباتها بينما الشاب ارتبط بها لكي تساعده في الهجرة لتتأكد لنا الازدواجية النفسية في الرغبة الدفينة المُتناقضة بين الشخصيتين. فنجد من يريد أن يرحل ويهاجر من أبناء الوطن بينما الأجانب يريدون “العيش هنا” (ولو بانكسار).
نلتقي في الفيلم مع شخصيتين أخريتين يجمعهما التناقض أيضا، ويتعلق الأمر هذه المرة بإمرأة تونسية تزوجت من أجنبي ذي الجنسية السويسرية والذي تخلى عن دينه ووطنه حيث اعتنق الإسلام واستقر في هذه المدينة النائية التي يهربها أبناؤها ليعطينا هذا المشهد صرخة التناقض في الهجرة والهجرة المضادة في إطار ما تعرفه الشعوب من حراك في مختلف الاتجاهات والذي يعتبره البعض نتيجة العولمة التي فرضت أنماط جديدة من الحياة والتي تحدث عنها كثيرا، في الفيلم، المُعلم الطاهر.
 شخصية الطاهر كاريكاتورية في الفيلم لأنها تتحدث في كل شيء ولها موقف متطرف فيها منتقدا الجميع وكأن المُعلم هو العالم الذي له أجوبة على إشكاليات الكون. هذه الشخصية كانت مُفتعلة ومفتعلة كثيرا لأسباب النقاش بدون هدف، لذا فهي تعيش فوضوية فكرية وسطحية في مفاهيمها وتحاول أن تُظهر تفوقها المعرفي الطفولي على شخصيات أقل منه معرفة بحقول العلم (زوجته – تلامذته – بعض الباعة- إلى آخره). لكن الأهم في شخصية المعلم أنها تعيش الاغتراب بين قولها وفعلها وواقعها وبذلك لا تخرج عن الخط التحريري للفيلم.
لنبق في هذا الخط الذي بناه المخرج محمد الزرن بتعقب شخصياته التي اختارها كنماذج صارخة ومُمثلة لمجتمعه والتي تشكو من العجز في تخطي الحواجز، من بينها أيضا شخصية الفنان الهادي الذي يحمل في جسده آثار دفينة بسبب طرده من فرنسا بعد أن أسس لذاته مكانة فنية هناك ليجد نفسه عاجزا على تحقيقها في بلده بل في مدينة الأصلية فضاع بين التيه فيها والحانات ونقاشاتها العقيمة وكذا إعاقته التي كرست العجز المعنوي بالجسدي وضيق السوق الفني ليكون النموذج الذي يعيش جسديا في الجنوب التونسي بينما “عقله” يتجول به في فرنسا بنسطولجيا غابرة، فهو “هنا” و”هناك” منقسم بين الروح والجسد.
هذه الشخصيات تلتقي وتفترق في المدينة بفضل فضاءين أساسيين في الفيلم، واحد متحرك والثاني ثابت، فالمتحرك هو الطاكسي الذي يقوده البشير بحيث نتعرف على هندسة المدينة وشوارعها ومنازلها بتحرك سيارته وفي آن واحد تلعب دور الوسيط في معرفة الأحوال الاجتماعية للسكان خلال حديثه مع ركابه الذين هم الشخصيات الأساسية المذكورة في الفيلم ليتأكد لنا التفكير المسبق لهذه اللقاءات من جهة (وهو بناء روائي) ومن جهة أخرى السماح لها بالحديث بحرية (دائما في إطار ازدواجية الفيلم بالتقاطع الدرامي للبعدين الأفقي والعمودي) حيث نجدها أيضا في الفضاء الثابت وهو دكان سيمون اليهودي الذي تشبث بهويته الوطنية وثقافته اللغوية التونسية مع احتفاظه بهويته الدينية منذ سنين بحيث هو مواطن عادي كمختلف المواطنين، وله مكانته في المدينة باعتباره نقطة إلتقاء للجميع ملبيا طلب الزبناء المختلفة والمتعددة. فسيمون هو داخل دكانه الذي يلجه الجميع ويستمر فيه النقاش – إلى حد ما أو شبيها به – الذي كان دائرا في الطاكسي. حديث حر يطلب فيه البعض النصيحة أو يدلي برأيه في حدث المدينة أو في حلم من الأحلام المُؤجلة أو الممكنة أو المثالية.
إذا كان الفضاء المتحرك (الطاكسي) يحملنا إلى أمكنة لكي نكتشف موقعها وما سيروج فيها من أحداث (الاحتفال بالعرس مثلا) فإن فضاء الدكان نشاهد من داخله تحرك المجتمع في علاقته ببعضه كأفراد وجماعات سواء في انسجام أو تعاطف.
لهذه الأسباب المعروضة في الفيلم، فضلنا أن نُعنونه ب “العيش في زرْزيس” التي دخلناها بفضل كاميرا محمد الزرن لنتجول فيها صحبة شخصياته الرجالية والنسائية ونقاسمهم همومهم التي تتشابه على امتداد الخريطة من ماء المحيط إلى ماء الخليج.
لقد استحق هذا الفيلم عن جدارة الجائزة الكبرى لمدينة تطوان بالمغرب لأنه يحمل رؤية سينمائية لواقع يصعب التقاطه خاصة وأنه أفلح في استنطاق جل شخصياته بعفوية واستنطق دواخلها إلى حد تعاطفنا معها لأننا لا ندري هل هي وهمية أو واقعية أو مشروعة، ليبقى السؤال دائما مطروحا حول إشكالات تعيشها أقطار الجنوب، ومع ذلك تستمر الحياة…                


إعلان