رُمُوز: المُخْرجة المصْرِيَّة سميحة الغنيمي

من فيلم ليلى

الهادي خليل

تَارِيخ السّينمَا المِصْرِيَّة الوَثَائِقِيَّة تَارِيخٌ حَافِلٌ بِالإِنْجَازَات الكُبْرَى، رَأَت النُّور فِي بِدَايَات القَرْن المَاضِي وَتَحْدِيدًا سَنَة 1923، قَبْلَ أَنْ تَنْطَلِقَ السِّينِمَا المِصْرِيَّة الرِّوَائِيّة سَنَة 1927، وَهوَ تَارِيخ عَرْض فِيلم “لَيْلَى”، أَوَّل فِيلم مِصْرِي. الْتَحَمَتْ مَسِيرَةُ السِّينِمَا الوَثَائِقِيَّة المِصْرِيَّة بِقَضَايَا الوَطَن وَمَعْرَكَة التَّحْرِير ضِدَّ المُحْتَلّ البرِيطَانِي وَالوِحْدَة العَرَبِيَّة بَعْدَ قِيَام ثَوْرَة يُوليُو عَام 1952 وَبِنَاء المُجْتَمَع وَتَشْيِيدِهِ. كَانَ صَلاح التُّهَامِي أَهَمّ رَمْزٍ لِعَصْر السِّينِمَا المِصْرِيَّة الوَثَائِقِيَّة الذَّهَبِي، فِي مَرْحَلَة التَّأْسِيس هَذِهِ، صُحْبَةَ سَعْد نَدِيم وَجِيلٌ مِعْطَاء مِنَ السِّينمَائِيِّين الوَثَائِقِيِّين الذِين تَخَرَّجُوا مِنْ مَعهد السِّينمَا التَّابع لأَكَادِيمِيَّة الفُنُون التِي أَنْشَأَتْهَا الثَّوْرَة.
 سَمِيحَة الغنيمِي هِيَ دُونَ شَكّ أَهَمّ مُخْرِجَة وَثَائِقِيَّة حَالِيًّا فِي بِلاَد النِّيل، هيَ حَلَقَة مُضِيئَة يَتَرَابَطُ مِنْ خِلاَلِهَا جِيلُ السَّابِقِين وَالمُؤَسِّسِين مَعَ جِيل المُخَضْرَمِين أَيْ جِيل الثَّمَانِينَات وَالتِّسْعِينَات الذِي مَشَى بِثَبَات وَدِرَايَة عَلَى خُطَى أَسْلاَفِهِ الأَمْجَاد. هِيَ غَزِيرَةُ الإِنْتَاج، مَنَحَتْ حَيَاتهَا كُلّهَا وَمَا زَالَتْ لِجِنْسٍ سِينِمَائِيٍّ تَعْتَبِرُهُ الذَّاكِرة الوَقَّادَة لِتَارِيخ الشُّعُوب وَالحَضَارَات، فَاهْتِمَامَاتُهَا مُتَعَدِّدَة وَمُتَنَوِّعَة، تَمْزِجُ بَيْنَ الثَّقَافِي وَالفَنِّي وَبَيْنَ المِعْمَارِي وَالتَّاريخِي، وَلَقَدْ خَصَّتْهَا، سَنَة 2003، النَّاقِدَة السّينمَائِيَّة المِصْرِيَّة المَعْرُوفَة مَاجدَة مُورِيس بِكِتَابٍ رَائِقٍ وَمُهِمٍّ بِعُنْوَان “سَمِيحَة الغنيمِي شَاعِرَة، السِّينِمَا التَّسْجِيلِيَّة” (إِصْدَارَات صُنْدُوق التَّنْمِيَة الثَّقَافِيَّة التَّابع لوزَارَة الثَّقَافة المصْرِيَّة)، اسْتَعْرَضَتْ فِيهِ أَهَمَّ المَحَطَّات الفِيلمِيَّة لِهَذِهِ المُخْرِجَة المُتَأَلِّقَة.
 كَانَتْ مُعْجَبَة كَثِيرًا بِالرِّوَائِي المِصْرِي نَجِيب مَحْفُوظ، الأَدِيب وَالإِنْسَان، وَكَانَتْ تَعْتَبِرُهُ هَرَمًا مِنْ أَهْرَام الأَدَب العَالَمِي وَالكَوْنِي. قَبْلَ إِنْجَازِهَا سَنَة 1989 لِفِيلم “حَارَة نَجِيب مَحْفُوظ”، كَانَتْ تَنْتَهِزُ كُلّ الفُرَص، سَوَاء فِي الإِذَاعَة أَوْ فِي بَعْض اللِّقَاءَات التَّلْفَزِيَّة أَوْ فِي المَنَابِر الثَّقَافِيَّة، لِتَتَحَدَّثَ عَنْ نَجِيب مَحْفُوظ، عَنْ رِوَايَاتِهِ التِي كَانَتْ تَحْفَظُهَا عَنْ ظَهْر قَلْب وَعَنْ حَيَاتِهِ البَسِيطَة فِي المَقَاهِي بَيْنَ النَّاس. أَنْجَزَتْ هَذَا الفِيلم بِكَثِيرٍ مِنَ الشَّاعِرِيَّة، نَتَبَيَّنُ مِنْ خِلاَلِهِ لَيْسَ فَقَطْ تَمَاهِي المُخْرِجَة مَعَ عَالَمٍ رِوَائِيٍّ يَرُوقُ لَهَا، بَلْ أَيْضًا قِرَاءَتهَا الشَّخْصِيَّة لِمَنَاخَات نَجِيب مَحْفُوظ السَّرْدِيَّة وَخَاصَّةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِرَسْمِ الشَّخْصِيَّات وَالأَمْكِنَة.

نجيب محفوظ

 أَمَّا القُطْب الثَّانِي الذِي كَانَتْ تَحُومُ حَوْلَهُ مُنْذُ زَمَان، فهوَ المُوسِيقَار النَّابِغَة محمّد عَبْد الوَهَّاب. يَتَنَاوَلُ فِيلم “عَاشِق الرُّوح” الذِي أَنْجَزَتْهُ سَنَة 1992 رَحِيلَ المُوسِيقَار مُحمّد عبد الوهَّاب الذِي بَصَمَ الذَّاكِرَة المُوسِيقِيَّة، بِوَصْفِهِ مُغَنِّيًا وَمُلَحِّنًا، فِي القَرْن المَاضِي. المُعْطَى البَارِز فِي هذَا الفِيلم هُوَ مَسْحَة الرُّومَانْسِيَّة الحَزِينَة التِي تَسِمُ كُلَّ أَجْزَائِهِ، وَكَأَنَّهُ عَمَلُ حِدَاد عَلَى رَمْزٍ مِنْ رُمُوز الإِبْدَاع العَالَمِي. هُوَ فِيلم أُنْمُوذَجِي بِكُلّ المَقَايِيس لأَنَّهُ يُبْرِزُ العَلاَقَة المَتِينَة بَيْنَ السِّينِمَا وَالمُوسِيقَى، بَيْنَ شَاعِرِيَّة المُخْرِجة وَشَاعِرِيَّة المُلَحِّن، وَكَأَنَّهُمَا يَتَنَاغَمَان وَيَلْتَحِمَان الْتِحَامًا حَمِيمًا. تَتَوَقَّفُ سَمِيحَة الغنيمي عَلَى بَعْض المُفْرَدَات الكَامِنَة فِي بَعْض الأَلْحَان، تُحَاوِلُ اسْتِجْلاَء مَوَاطن الإِبْدَاع فِيهَا مِنْ خِلاَلِ بِنَاءٍ درَامِيّ سَلِسٍ، يَتَمَيَّزُ بِالتَّجْوِيد الفَنِّي، نَتَبَيَّنُ مِنْ خِلاَلِهِ الوَشَائِج الوَطِيدَة التِي تَرْبِطُهَا المُخْرِجَة مَعَ هَذَا المُبْدع الكَبِير. “عَاشِق الرُّوح” هُوَ شَرِيطٌ يُذَكِّرُنَا بِأَشْرِطَة مُهِمَّة أُنْجِزَتْ عَنْ مَخْبَر الفَنَّان، أَكَانَ رَسَّامًا أَوْ نَحَّاتًا أَوْ مُوسِيقَارًا، وَهوَ يُبْدِعُ وَيُطَارِدُ نَسَمَات الإِلْهَام.

فاطمة رشدي                                                        محمد عبدالوهاب     

 كَمَا اهْتَمَّتْ المُخْرِجَة سَمِيحَة الغنيمِي بِالقُصُور التَّارِيخِيَّة المِصْرِيَّة، إِذْ صَوَّرَتْ سَنَة 1999 فِيلمًا بِعُنْوَان “مَتَاحف الأُسْرَة العَلَوِيَّة” أَعْقَبَتْهُ سَنَة 2001 بِفِيلمين هُمَا “قَصْر القُبَّة” وَ”قَصْر الطَّاهِرَة”. وَلَقْدْ تَمَكَّنَتْ بِفَضْلِ حِسِّهَا المُرْهَف وَحُبِّهَا لِعَمَلِهَا أَنْ تَحْتَفِظَ فِي هَذِهِ الأَفْلاَم بِمَلاَمِحِهَا كَفَنَّانَة “قَادِرَة عَلَى إِثَارَة الاهْتِمَام بِالمَكَان بِأُسْلُوبٍ يَجْمَعُ بَيْن الحَسَاسِيَّة فِي اخْتِيَارِ اللَّقْطَة وَالقُدْرَة عَلَى إِقَامَة جَدَل بَيْنَ أَجْزَاءِ العَمَل وَإِقَامَة عَلاَقَة بَيْنَ التَّارِيخ وَالجغْرَافيَا”، كَمَا تَقُول مَاجدَة مُورِيس. وَنَرَى بِكُلِّ وُضُوح فِي هَذِهِ السِّلْسِلَة مِنَ الأَفْلاَم انْبِهَارَ المُخْرِجَة بِرَوَائِع الطَّرْز المِعْمَارِيَّة وَالتُّحَف وَالمُقْتَنَيَات، مُسَلِّطَةً عَلَيْهَا بَعْض الأَضْوَاء التَّارِيخِيَّة التِي تَعُودُ بِنَا إِلَى كُلّ الأَحْدَاث، مِن اتِّفَاقِيَّات وَوَقَائِع وَمُؤَامَرَات التِي تَخُصّ هَذِهِ القُصُور وَهَذِهِ المَعَالِم الأَثَرِيَّة، وَالتِي أَثَّرَت عَلَى الحَيَاة فِي مصر لِوَقْتٍ طَوِيل.
 إِنَّ مَسِيرَة سَمِيحَة الغنيمِي كَمُخْرَجَة وَثَائِقِيَّة هِيَ عِبَارَة عَنْ مَرَاحِل مُتَفَرِّدَة وَثَرِيَّة، كُلّ مَرْحَلَة تَمَيَّزَتْ بِنُقْلَة نَوْعِيَّة وَبِإِصْرَارٍ دَؤُوب عَلَى التَّحَكُّمِ فِي البِنَاء الدّرَامِي وَهوَ فِي نَظَرِ المُخْرِجَة رَكِيزَة الرَّكَائِز فِي السِّينِمَا الوَثَائِقِيَّة. فَفِي السَّبْعِينَات، كَانَتْ تَتَلَمَّسُ، مِنْ خِلاَلِ إِنْجَازِهَا لِفِيلم “الخُيُول العَرَبِيَّة”، خُطوَاتِهَا الأُولَى عَلَى خَرِيطَة السِّينِمَا الوَثَائِقِيَّة. وَفِي الثَّمَانِينَات بَرْهَنْتْ، مِنْ خِلاَلِ تَصْوِيرِهَا لِـ”حَارَة نَجِيب مَحْفُوظ” وَ”عَاشِق الرُّوح”، أَنَّهَا فَنَّانَة مَوْهُوبَة. أَمَّا فِي التِّسْعِينَات، فَإِنَّهَا بَيَّنَتْ أَنَّ تَصْوِير الآثَار وَالمَتَاحِف هُوَ عَملٌ فَنِّي بِالأَسَاس يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنْ كُلّ نَزْعَة سِيَاحِيَّة وَفُولْكلُورِيَّة.


إعلان