رندة الشهال الصباغ
وُلِدَتْ المُخْرِجَة اللُّبْنَانِيَّة رَنْدَة الشهال الصَّبَّاغ بِطَرَابُلْس بِلُبْنَان سَنَة 1953 وَتُوُفِّيَتْ بِبَارِيس عَلَى إِثْرِ مَرَض عُضَال، سَنَة 2008.
عِنْدَ عَرْضِ وَمُنَاقَشَةِ شَرِيطِهَا الوَثَائِقِيّ المُتَمَيِّز “خُطْوَة خُطْوَة” عَنْ دَمَارَات الحَرْب اللُّبْنَانِيَّة وَمَآسِيهَا، خِلاَلَ “أَيَّام قَرْطَاج السِّينِمَائِيَّة” بِتُونس العَاصِمَة سَنَة 1978، قَالَت المُخْرِجَة اللُّبْنَانِيَّة رَنْدَة الشهال الصَّبَّاغ أَنَّهَا “تَبغُضُ الثَّرْثَرَة وَالكَلاَم الفَضْفَاض وَأَنَّ مَا يَهُمُّهَا فِي مُنَاقَشَة الأَفْلاَم هُوَ الآرَاء النَّيِّرَة التِي تَتَمَيَّزُ بِحِسٍّ ثَقَافِيٍّ وَفَنِّيّ فَائِق”. وَأَضَافَتْ بِنَبْرَة هَادِئَة وَرَصِينَة: “أَكْرَهُ الشِّعَارَات وَالبَيَانَات التِي تَتَّخِذُ مِنَ الأَفْلاَم تِعِلَّة قَصْدَ تَحْوِيل النِّقَاش إِلَى مَنَابِرَ خِطَابِيَّة”. كَانَ يُدِيرُ النِّقَاش المُفَكِّر وَالمُثَقّف المِصْرِيّ، المَرْحُوم لُطْفِي الخُولِي، وَلَمْ نَكُنْ نَعْرِفُ إِنْ كَانَ مَعَ رَأْيِ رَنْدَة الشهال أَوْ ضِدَّهُ.
كَانَتْ سَنَة 1978 أَوَّل مُصَافَحَة لِلْمُخْرِجَة رَنْدَة الشهال الصبَّاغ مَعَ الجُمْهُور التُّونسِي العَرِيض وَمَعَ ضُيُوف أَيَّام قَرْطَاج السِّينِمَائِيَّة العَرَب وَالأَجَانِب. مَا اسْتَرْعَى انْتِبَاهَنَا آنَذَاك، هُوَ رَصَانَتُهَا المُلْهِمَة وَتَوَاضُعِهَا المُفْرَط وَحُبّهَا الكَبِير لِلْفَنّ السِّينِمَائِي. بِتَأْكِيدِهَا عَلى رَفْضِهَا لِلْخِطَابَات وَالصَّوْلاَت وَالجَوْلاَت البَلاَغِيَّة. كَانَتْ رَنْدَة الشهال الصبَّاغ قَدْ لخَّصَتِ الرُّوح التِي تَسْكُنُ أَفْلاَمَهَا الوَثَائِقِيَّة الأُولَى وَهيَ جُنُوحُهَا لِلَحَظَات الصَّمْت فِي تَسَلْسُل الأَحْدَاث وَنَزْعَتُهَا إِلَى تَعْطِيل الحِوَارَات وَالشَّهَادَات، مُفَضِّلَةً عَلَيْهَا تَعَابِير الوَجْه وَالحَرَكَات وَإِيمَاءَات الجَسَد.
![]() |
رندة الشهال أيام الحرب الأهلية
“خُطْوَة خُطْوَة” فِيلمهَا الوَثَائِقِيّ الأَوَّل هُوَ مِنْ أَهَمّ الأَفْلاَم التِي صُوِّرَتْ عَنْ مَآسِي الحُرُوب الأَهْلِيَّة، خَاصَّةً عِنْدَمَا يَتَعَلَّقُ الأَمْر بِبَلَدٍ مِثْلَ لُبْنَان عُرفَ بِطِيبَةِ قَلْبِ أَهَالِيه وَبِجَمَالِهِ الطَّبِيعِي الأَخَّاذ وَبِالسَّمَاحَة وَالأُخُوَّة وَالانْسِجَام الذِي كَانَ يَسُودُ بَيْنَ مُخْتَلَف الطَّوَائِف وَالفَصَائِل. كَانَتْ لاَ تَثِقُ كَثِيرًا بِأَرْشِيف الصُّوَر التَّلْفزَِيونية أَو الفُوتُوغرَافيَّة التِي تَرْسُمُ بَعْض المَشَاهِد المُؤَثّرَة مِنَ الحَرْب الأَهْلِيَّة بِلُبْنَان، مُؤْمِنَةً بِأَنَّ السِّينِمَا الوَثَائِقِيَّة يَجِبُ أَنْ تَسْتَنْبِطَ نَسِيجِهَا الفِيلمِي، مَنْ سَرْدٍ وَشَخْصِيَّات وَأَمْكِنَة، بِمَنأى عَنْ هَذِهِ العُمْلَة السَّهْلَة المُتَوَفِّرَة بِغَزَارَة أَلاَ وَهيَ الأَرْشِيف. كَانَ المُخْرِج اللُّبْنَانِي جُورج شَمْعُون هُوَ المُتَخَصِّص الأَوَّل، آنَذَاك، فِي تَصْوِير مُجْرَيَات الحَرْب الأَهْلِيَّة بِلُبْنَان، لَكِنَّهُ كَانَ فِي جُلِّ أَفْلاَمِهِ يَنْحُو مَنْحَى الرِّيبُورْتَاج التّلْفزيوني، مُكْتَفِيًا بِتَصْوِير الوَقَائِع وَالأَحْدَاث المُتَلاَحِقَة دُونَ مُحَاوَلَةِ اسْتِنْطَاقِهَا وَإِعَادَةِ صِيَاغَتِهَا عَلَى ضَوْءِ مُتَطَلِّبَات الفَنّ التَّسْجِيلِي. لَمْ تُخْفِ رَنْدَة الشهال الصبَّاغ تَحَفُّظَاتِهَا حيَال أَفْلاَم جُورج شَمْعُون الوَثَائِقِيَّة التِي كَانَ يُسَيْطِرُ عَلَيْهَا اكْتِظَاظُ الحِوَارَات وَالشَّهَادَات.
يَتَمَيُّزُ “خُطْوَة خُطْوَة” بِكَثِيرٍ مِنَ التَّمَهُّل وَالتَّأَنِّي فِي التَّعَامُلِ مَعَ ضَحَايَا الحَرْب الأَهْلِيَّة اللُّبْنَانِيَّة. فِي كثِيرٍ مِنَ الرَّدَهَات الفِيلْمِيَّة، يَغِيبُ الحِوَار وَيُخَيِّمُ الصَّمْتُ عَلَى الوُجُوه وَكَأَنَّ الأَهَالِي لَمْ تعُدْ لَهُمْ أَيّة رَغْبَة فِي الحَدِيث خَاصَّةً أَنَّهُمْ أَدْرَكُوا أَنَّ الوَحْشِيَّة المَجْنُونَة قَدِ اسْتَبَدَّتْ بِبَلَدِهِمْ وَبِشَعْبِهِمْ وَأَنَّهُ لَمْ تعُدْ هُنَاك أَيَّةُ فَائِدَة فِي الحَدِيث. مَثَّلَ هَذَا الشَّرِيط نُقْلَة نَوْعِيَّة كُبْرَى فِي تَعَامُل السِّينِمَا الوَثَائِقِيَّة مَعَ الحُرُوب. بَعْدَ كُلّ الهَزَائِم التِي مُنِيَ بِهَا العَرَب، هَا أَنَّ لُبْنَان تَعِيشُ هَزِيمَة جَدِيدَة لَكِنَّهَا هَزِيمَة دَاخِلِيَّة نَسَجَ خُيُوطَهَا أَبْنَاؤُهَا. إِذَنْ مَا الفَائِدَة مِنَ الكَلاَم؟ أَلَيْسَ مِنَ المَفْرُوض أَنْ نَسْتَحِي وَأَنْ نَخْجُلَ مِنْ كُلّ هَذِهِ الشراسة المُدَمِّرَة وَالتِي جَسًَّدَتْهَا الحَرْب الأَهْلِيَّة بِلُبْنَان فِي أَبْشَعِ مَظَاهِرِهَا. هَذَا كُلّ مَا أَرَادَت أَنْ تَقُولَهُ رَنْدَة الشهال الصبَّاغ فِي فِيلم “خُطْوَة خُطْوَة”، بِتِلْكَ الشَّاعِرِيَّة الفَيَّاضَة التِي تَتَخَلَّلُهَا مِسْحَة مِنَ الاحْتِشَام وَمِنْ نَبْذٍ لِلشِّعَارَات.
كَانَتْ مُقِلَّة فِي إِنْتَاجِهَا، لَكِنّ كُلّ فِيلم أَنْجَزَتْهُ مَثَّلَ حَدَثًا فِي حَدِّ ذَاتِهِ وَأَثَارَ عَدِيد السِّجَالات وَالنِّقَاشَات خَاصَّةً فِي أَوْسَاط النُّقَّاد وَالمُهْتَمِّنَ بِالشَّأْنِ السِّينِمَائِي العَرَبِي وَخَاصَّة الوَثَائِقِي مِنْهُ. فَفِي سَنَة 1995، صَوَّرَتْ فِيلمًا طَرِيفًا مُلْهِمًا بِعُنْوَان “حُرُوبُنَا الطَّائِشَة” (« Nos Guerres imprudentes ») تَكَلَّمَتْ فِيهِ مُجَدَّدًا بِمَرَارَة كَبِيرَة عَنْ مُخَلَّفَات الحَرْب اللُّبْنَانِيَّة الأَهْلِيَّة المَأْسَاوِيَّة. كَانَ سِلاَحُهَا الفَتَّاك فِي هَذَا الفِيلم، مِثْلَ الفِيلم السَّابق “خُطْوَة خُطْوَة”، السُّخْرِيَة السَّوْدَاء اللاَّذِعَة، وَكَأَنَّ اليَأْسَ اسْتَبَدَّ بِالنُّفُوس.
![]() |
من فيلم “حروبنا الطائشة”
عِنْدَمَا انْتَقَلَتْ رَنْدَة الشهال الصبَّاغ إِلَى السِّينِمَا الرِّوَائِيَّة، وَهي المُتَوَثِّبَة دَوْمًا إِلَى رِهَانَات وَمُغَامَرات جَدِيدَة، بَقِيَتْ وَفِيَّة إَِلى عَوَالم أَفْلاَمِهَا الوَثَائِقِيَّة: نَفْس الرَّغْبَة فِي إِبْطَال الكَلاَم، الاِسْتِمَاع إِلَى كُلّ الأَطْرَاف المُتَنَازْعَة دُونَ تَغْلِيب طَرَفٍ عَنِ الآخَر، الاهْتِمَام الكَبِير بِالشَّبَاب الذِي لَمْ يَعِشْ وَيْلاَت الحَرْب لَكِنَّهُ تَأَثَّرَ كَثِيرًا بِمَا عَانَتْهُ عَوَائِلِهِ. أَنْجَزَتْ، فِي هَذَا المضْمَار، فِيلمًا رِوَائِيًّا فِي جِنْسِهِ، لَكِنَّهُ وَثَائِقِيًّا فِي رُوحِهِ وَتَمَشِّيهِ، بِعُنْوَان “مُتَحَضِّرَات” (« Civilisées »)، بَيَّنَتْ فِيه الدَّوْر الفَعَّال الذِي لَعِبَتْهُ المَرْأَة فِي الحَرْب الأَهْلِيَّة اللُّبْنَانِيَّة. هَذَا الفِيلم هُوَ دُرَّة مِنْ دُرَرِ السِّينِمَا الوَثَائِقِيَّة العَرَبِيَّة، وَالشَّيْء المُؤْسِفُ أَنَّهُ لَمْ يَحْظَ بِالاهْتِمَام الذِي كَانَ يَسْتَحِقُّهُ.
![]() |
فيلم “متحضّرات”