رُمُوز: المخرج السّويسري “ريشار دندو”
بقلم الهادي خليل
ولد المخرج الوثائقي “ريشار دندو” (Richard Dindo) سنة 1944. أبرزت اعماله الأولى اهتمامات ثابتة ما انفكّ يجذّرها من فيلم إلى آخر: أوّلا الفنّ في أبعاده الخفيّة، كما يبيّنه شريط “رسّامون انطباعيّون بسويسرا الشّرقيّة” الذي صوّره سنة 1972 وشريط “شارلوط، حياة أو مسرح” (1992)، ثمّ السّياسة وتأثيراتها في المجتمع بعيدا عن المسالك الرّسميّة، وذلك من خلال فيلمين شهيرين سَاهَمَا بقسط كبير في التّعريف به عالميّا وهما “سويسريّون في حرب إسبانا” الذي يعود تاريخ إنجازه إلى سنة 1973 و”إعدام أرنست س، خائن الوطن” الذي رأى النّور عام 1975.
“ريشار دندو” مخرج غير مُهَادِن في مُعَايَنَته للواقع السّوسري الذي يستحضر مقاطع مهمّة من ذاكرته المهمّشة والمسكوت عنها، مُعْتَبِرا أنّه يكفي جزئيّة وحيدة لزَعْزَعَة أسس نظام مَا. هو يبدع في النَّبْش في أحداث ووقائع طُمِست لأنّها اعْتبرت وصنّفت في خانة “الحيثيّات اليوميّة” و”الحكايات العاديّة”، كما يبرهن على ذلك شريطه “داني، ميشي، روناتو وماكس” الذي يختزل طريقة عمله في القيام بتحقيقات وفي فتح ملفّات وقع طيّ صفحاتها بسرعة من قبل السّلط الأمنيّة. في الجزء الأوّل من هذا الفيلم، يحاول المخرج، من خلال أقوال شهود عيان، تفسير أسباب موت “داني وميشي” الغامض اللّذان لقيا حتفهما أثناء مُلاَحَقَة ليليّة. يتعرّض الجزء الثّاني والجزء الثّالث، إلى موت “روناتو” الذي أطلق عليه النّار وهو في مقود سيّارة مسروقة وموت “ماكس” وهو ناشط شابّ في “تيّار” الفوضويّين اليساريّين، ضُربَ ضربا مبرحا وشنيعا من قبل مجهولين لم يُعثر عليهم.
اتّسمت علاقات “ريشار دندو” ببلده سويسرا بالتّوتّر والسّجالات الصّداميّة. عاش طويلا في باريس، العاصمة الفرنسيّة، حيث تابع بشغف كبير، بوصفه مجرّد ملاحظ “ثورة الطلاّب” سنة 1968 واحتلال “الجامعات” و”المسارح” من طرف شباب ثائر كان يحلم بمجتمع آخر وبحياة أخرى. هو سينمائي ذاكرة المهزومين الذين تمرّدوا وأصرّوا على إعلاء كلمة “لا” وعلى مجابهة كلّ أنواع الطّغيان. سيبقى بالتّأكيد شريطه عن رمز من رموز الثّورة الأمريكيّة اللاّتينيّة وهو “شي غيفارا” أفضل عمل يعكس حرص المخرج على إحياء ذكرى الأموات المنشقّين عن النّظام السّائد وعلى البحث الدّقيق والجاد في كلّ ظروف ملاحقتهم ومحاصرتهم وقتلهم. في هذا الصّدد، يقول “دندو”: “هناك بعض الأموات الذي لا يستحقّون أن ننساهم بسرعة. كانوا يَحْلُمون بالثّورة وَبِمُثُلٍ جديدة وبِطُوبَاوِيَّة قِوَامُهَا سعادة البشر. لست مخرج ملتزم لكنّني مخرج يهتمّ كثيرا بالتزام الآخرين الذين حملوا السّلاح وناضلوا ميدانيّا وحاولوا أن يعطوا معنى لوجودهم حتّى وإن كانوا يُدركون أنّ الموت هو مصيرهم المحتوم”.’
![]() |
ملصق فيلم كافكا |
لقي هذا الفيلم الذي يحمل عنوان “أرنستو شِي غيفارا، يوميّات بوليفيا” صدًى كبيرا في جلّ أنحاء العالم واعتبر فيلما أنموذجيّا في كيفيّة التّحقيق في ملابسات هزيمة “مثقّف” اعتنق العمل الثّوري المسلّح، بعيدا عن كلّ الأساطير والخرافات التي حامت حول شخصيّة “غيفارا”. ولقد أنسى هذا النّجاح الجماهيري الملحوظ الإخفاق غير المنتظر لشريطه عن متمرّد آخر هو الشّاعر الفرنسي “أرتير رامبو” (Arthur Rimbaud)، صاحب الرّوائع الشّعريّة الخالدة مثل “الإشراقات” و”موسم في الجحيم”. هذا الفيلم الموسوم بعنوان “أرتير رامْبو، سيرة حياة” والذي أنجزه سنة 1991، هو فيلم منبوذ في فرنسا، إذ لم يَحْظَ إلى اليوم بعرض عموميّ. وعن أسباب “تجاهل” هذا العمل من قبل الوزّعين الفرنسيّين، يقول المخرج السويسري: “بما أنّني ركّزت شريطي أساسا على سيرة حياة الشّاعر الفرنسي، ربّما أكون حطّمت أسطورته والهالة الميثولوجيّة التي تحيط به. بالنّسبة إليّ وكما يبيّنه من فيلم إلى آخر، أعتبر أنّ الذّاكرة هي نقيض الأسطورة التي تتراءى لي بمثابة تعبيرة الذّاكرة المحرّفة والمغشوشة. لكن هذا “الفشل” لن يغيّر شيئا في كلّ ما أنا مدين به لفرنسا وللفرنسيّين. كلّ ما تعلّمته وقرأته واطّلعت عليه هو بفضل فرنسا. إنّني مخرج وثائقي سعيد ومحظوظ.”
![]() |
دندو وملصق لافيلمه حول رامبو رائد الحداثة الشعرية |
تتواصل هذه الحفريّات في ذاكرة الموتى بإنجاز “دندو” سنة 1999 لشريط عنوانه “جان جيني في شاتيلا” وهو مقتبس من نصّين للرّوائي والمسرحي والشّاعر الفرنسي “جيني”، وهما “أربع ساعات في شاتيلا” الذي صدر في أواخر سنة 1982 بمجلّة “دراسات فلسسطينيّة” و”أسير عاشق” وهو كتاب دَسِمٌ عن ذكرياته مع الفلسطينيّين، نشر بعد شهرين من وفاته سنة 1986، بدار “غاليمار” الباريسيّة. في هذا الشّريط المؤثّر الذي اكتشفه الجمهور العريض سنة 2000 على هامش أيّام قرطاج السّينمائيّة بتونس، يقتفي “دندو” خطى مؤلّف المسرحيّة الشّهيرة “الزّنوج” بكلّ من مخيّمي “صبرا” و”شاتيلا” بلبنان أثناء زيارة الكاتب هناك غداة المجزرة الجماعيّة التي راح ضحيّتها ما يفوق ثلاث آلاف فلسطيني، مستجوبا كلّ من عَرَفَه وعَاشَرَه.