تقديم كتاب ” الصورة وطغيان الاتصال”
كانت المعلومات، لوقت طويل، نادرة وباهظة الثمن وفي يومنا صارت غزيرة بسرعة مذهلة وقلّت كلفتها وأصبحت مضللة أكثر فأكثر. وليس التضليل سوى إلباس الكذب لبوس الصدق ويبين بيير بورديو “أن أكثر ما يخيف في الاتصال المعاصر، هو لا وعي الاتصال” ولا شك أن حصيلة “اللا وعي” لا ينتج إلا من التضليل، ومن سلطة الإعلام. من هنا تأتي أهمية كتاب ايناسو رامونه، الذي أصدرته دار غاليلي في باريس في العام 1999 تحت عنوان “طغيان الاتصال” وأصدرت ترجمته الهيئة العامة السورية للكتاب، في العام الماضي، تحت عنوان “الصورة وطغيان الاتصال”.
ونحاول هنا أن نعيد، تركيب “مونتاج” سياق الكتاب موضوعه، لنعرف القارئ بأهمية محتواه وعمق تحليله لقضايا الإعلام والاتصال، بصورة لا تعرض، بكثافة طبعاً، مواضيع فصوله، كما هو مألوف، إنما تعيد ترتيب سياقه، وفقاً لسياق آخر، يراعي ظهور وتطور وانتشار وسائل الاتصال المنفردة، التي توحدت مع الزمن وأصبحت تشكل،في يومنا، كما يصفها المؤلف، ديناصورات متعددة الجنسيات. ولعل المهم في هذا العرض، هو محاولة الحفاظ على أسلوب المؤلف، رغم اختلاف أسلوب عرض الكتاب.
في مقدمة المترجم نبيل الدبس، عن المؤلف والأسباب، التي دعته لترجمة الكتاب يكتب: “تعود معرفتي بالكاتب ايناسو رامونه إلى نهاية سبعينيات القرن الماضي، من خلال مقالاته التحليلية التي كانت تنشرها صحيفة لوموند ديبلوماتيك الشهرية حول سينما العالم الثالث، وخاصة حول سينما أمريكا اللاتينية، وهي دراسات تُوحي بأن كاتبها يمتلك مشروعاً متكاملاً ورؤيا شمولية متماسكة ومُتميزة، تلتزم بقضايا التحرر التي انتشرت في تلك البلدان. وقد تبوأ الكاتب، إدارة الصحيفة في فترة، امتدت بين عامي 1990 و2008 ولعب دوره البارز في ترسيخ تميّزها وجعلها المعقل الأخير للصحافة المستقلة في فرنسا. وعلى الرغم من أن الكتاب قديم نسبياً، إلا انه لم يفقد راهنيته وأهميته، خاصة وانه يتناول حقبة تاريخية مفصلّية، تبلورت فيها التوجهات الأساس في الإعلام، التي ما زلنا نعيش امتداداتها ونعاني من أثارها”.
يتألف الكتاب من فصول تسعة، والمُلفت في مواضيع فصوله، هو نوعية التحليل الصارم لأزمة الإعلام المعاصر، في زمن بدأت فيه الاحتكارات الرأسمالية متعددة الجنسيات، تسيطر على مجمل وسائل الاتصال، وبالتالي، على مجمل النشاط الإعلامي في معظم دول “العالم الحر”. ولا يأتي تحليل الكاتب، إلا من أهمية الاتصال الجماهيري ووظيفته الضرورية في مسيرة المجتمعات الديمقراطية، لأنه يرى إن لا ديمقراطية ممكنة دون وجود شبكة اتصال جيدة، حتى يستطيع الكائن الإنساني أن يعيش ككائن حر بفضل التواصل.
عرف تاريخ الإعلام المرئي والمسموع، في البداية، نموذج الجريدة السينمائية الإخبارية، التي كانت تُعرض في صالات السينما كل أسبوع وهي تُلخص، بالصوت والصورة، الأخبار المحلية والدولية، وكانت في مصداقيتها آنذاك تستند إلى صوت معلق يعقب على الصور في عتمة الصالة وصمتها، ويحدد معناها ويقول للمشاهدين ما يجب عليهم أن يفهموا، وكأنه يناجيهم، ويتحدث إليهم وكان عليهم تصديقه.
ثم عرف النموذج الثاني: نشرة الأخبار المتلفزة ذات النمط الهوليودي، الذي فرض نفسه في الولايات المتحدة في بداية السبعينات على قناة CBS، وأستند إلى عناصر مختلفة تماما، فالصوت الذي يتكلم هنا أصبح محدداً ومميزاً، صار له وجه واسم؛ إنه صوت مقدم النشرة المذيع وولتر كرونكايت Walter Cronkite؛ الذي يزور المشاهد كل مساء، ليحدثه وجهاً لوجه، وهو ينظر في عينيه لتنشأ بينه وبينه علاقة ثقة وتعارف، افتراضية، تعطي للخبر مصداقيته، وفقاً للفكرة القائلة بأن شخصاً مألوفاً ينظر إليك، وعيناه في عينيك، لا يمكن أن يكذب عليك.
هناك ثلاث سلطات تقليدية، كما سبق وعرفها مونتسيكيو، هي التشريعية والتنفيذية والقضائية أضيف إليها سلطة رابعة هي سلطة الصحافة، ووظيفتها أن تحكم وتحاكم عمل السلطات الثلاثة. لكن السؤال الذي يطرح اليوم هو: هل أن السلطات الثلاث ما زالت قائمة حقا؟ أصبح من الواضح اليوم أن السلطة الأولى هي سلطة الاقتصاد والسلطة الثانية هي سلطة الإعلام بينما حافظت السلطة التنفيذية/السياسية على مرتبة ثالثة.
أما في مجال الاتصال فهناك، كما نعرف ثلاثة أنظمة علامات: النص المكتوب والصوت المسموع والصورة المرئية. وكل عنصر من هذه العناصر ولّد نظاماً تقانياً متكاملاً ومتميزاً: النص كان أساسا للنشر، والمطبعة، والكتاب، والصحيفة، والتنضيد وتقانات الطباعة، والآلة الكاتبة، الخ… الصوت أعطى اللغة، الراديو، آلة التسجيل، الهاتف والاسطوانة… أما الصورة فقد أنتجت الرسم والحفر، القصص المرسومة، السينما، التلفاز، الفيديو، الخ…
ويتلخص الأثر الأساس للثورة الرقمية الحالية في أنها قاربت من جديد بين مختلف أنظمة العلامات لتلتقي في نظام وحيد: صار بإمكاننا الآن التعبير عن النص والصوت والصورة بالبيتات bits وهو ما يسمى بالملتيميديا: (الأقراص المدمجة)، ألعاب الفيديو، د.ف.د، انترنت… مما يعني أنه لم يعد هنالك أنظمة تقانية متعددة ومتنوعة لنقل النص والصوت والصورة، إنما صار لدينا حامل وحيد يقوم بنقل الإشارات الثلاث معا بسرعة الضوء. واستطاع هذا الاختراع الجديد أن يغير مهنة الصحافة تغييرا جذريا، إذ أنه ألغي التباينات، التي طالما وجدت، بين النظام النصي والنظام الصوتي والنظام الصُّوَري.
بدأ قيام الثورة الصناعية عندما حلت الآلة محل اليد والقوة البدنية، فإن ثورة التقانة الحالية تكتسب أهميتها الفائقة من حقيقة أن الآلة المعاصرة الرمز، أي الكمبيوتر أو الحاسب، تحل محل الدماغ، أو على الأقل محل عدد من وظائف الدماغ، تتحدد كل يوم أكثر فأكثر. سيّما وأن الثورة الرقمية تسمح بربط هذه الآلات الذكية فيما بينها، بحيث يمكن لكل آلات (حواسب) الدنيا أن تتناوب وتتبادل العمل، مما يخلق شبكة أو عقدة وصل كونية، يجري من خلالها تبادل كم هائل من المعلومات. وحقق الانترنت، بذلك، طموح ومصالح أباطرة صناعات المعلومات الجدد. وأنتج الإعلام خلال ثلاثين سنة، من بدء انتشاره، كمية من المعلومات تفوق ما أنتجته البشرية طوال الخمسة آلاف سنة الفائتة. وحتى لو افترضنا قارئاً يقرا كل يوم ألف كلمة في الدقيقة، على مدى ثمان ساعات في اليوم، فانه سيحتاج إلى شهر ونصف للانتهاء من قراءة المعلومات التي تنشر في يوم واحد!
لم يعد بإمكاننا اليوم، كما كانت الحال تقليدياً، أن نفصل بين وسائل الإعلام المختلفة: الصحافة المكتوبة، الإذاعة والتلفزة. هذه الوسائط باتت الآن مترابطة إحداها مع الأخرى في سلسلة واحدة، تعمل وفق آلية دائرية، تكرر فيها وسائل الإعلام وسائل الإعلام الأخرى وتقلدها.
![]() |