حول فيلم “التجلي الأخير لغيلان الدمشقي”
![]() |
أمير العمري |
أخيرا وجدت الوقت لكي أشاهد بتأن وتدقيق، الفيلم الروائي الأول للمخرج السوري الصديق هيثم حقي، وهو من أعلام الإخراج والإنتاج التليفزيوني في سورية، وقد أخرج عشرات المسلسلات والأفلام التليفزيونية خلال أكثر من ثلاثين سنة، إلا أن دراسته الأساسية وعشقه الأول هو للسينما، وليس لمسلسلات التليفزيون، ولكن الوضع السينمائي في سورية وظروفه المعروفة فرضت عليه الابتعاد، لسنوات طويلة، عن إخراج أفلام سينمائية.
غير أنني بعد أن شاهدت فيلمه السينمائي “التجلي الأخير لغيلان الدمشقي”، الذي أنتجه وكتب له السيناريو وأخرجه، أدركت أن هيثم يتمتع بحس سينمائي رفيع، يتبدى في اهتمامه بالعناصر التشكيلية في تكوين اللقطات، وإحكام الإيقاع داخل المشاهد المختلفة لفيلمه، والانتقالات المحكمة في الزمن، بين الماضي والحاضر، وتحريك الكاميرا برقة ورصانة ودون إفراط، والاقتصاد في الحوار، والتعامل الواثق مع الممثلين بحيث يستخرج منهم أفضل ما عندهم، وأكثره تعبيرا عما يريد تجسيده. كما أنه يهتم كثيرا بشريط الصوت، وأساسا، بالموسيقى التي تضفي جوا خاصا سحريا على الفيلم، خاصة وأن الفيلم يدور في المساحة الواقعة بين الوعي واللاوعي، أو أن هذا على الأقل، هو استقبالي الشخصي له، ولا أدري ما إذا كان هذا صحيحا تماما، لكني لا أميل إلى التعامل مع هذا الفيلم ومحاسبته على أساس واقعيته، أو قربه من الواقع، فهناك الكثير من السمات الكاريكاتورية التي يضفيها على الشخصية الرئيسية.
مفهوم الواقعية لا يحتاج مني إلى مزيد من الشرح، فليس المهم أن يتطابق الفيلم مع الواقع، بل الأهم أن يكون مستمدا من الواقع، بمادته الخام، يتفاعل معه، ويقدم “رؤية” خاصة هي رؤية المخرج له، وهو ما يحاول هيثم حقي تقديمه هنا.
إنه فنان سينمائي يعبر من خلال الشخصيات التي يجسدها، ومن خلال الصور وتعاقبها وطريقة توليفها معا، عن “إحساس ما” يلف الفيلم، دون أن تكون هناك تلك “الرسالة” المباشرة التي تلخص لنا ما يريد أن يقوله.
الشخصية الرئيسية في الفيلم هي شخصية “سامي” (يقوم بدوره فارس الحلو) الذي يبدو وقد تجاوز الخمسين من عمره، لكنه يقول إنه لا يزال في الخامسة والثلاثين، فلا نعرف ما إذا كان صادقا أم كاذبا: وفي الحالتين، الشخصية تعيش مازقا وجوديا دون شك.. مأزق يتعلق بالعجز عن التحقق الذاتي، والعجز عن التفاعل مع الواقع. إنه موظف في إحدى الإدارات الصحية، لكنه على ما يبدو، لا يقيم أي علاقة مع مكان عمله، بل يكتفي بمراقبة المترددين على عليه والتحليق في عالم الخيال طوال الوقت. وهو يقوم بتحضير رسالة دكتوراه عن المعتزلة، موضوعها هو غيلان الدمشقي، المسؤول عن بيت المال في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، وقصة خلافه الشهيرة مع هشام بن عبد الملك، وكيف رفض الامتثال لسلطة يراها خارجة عن جوهر الدين، أي العدل، وكيف يتصدى لها ويدفع حياته ثمنا لدفاعه عن العدل والحرية وتصديه لجبروت الخليفة الذي يحكم باسم الدين في حين يعيث هو ورجاله، في الأرض فسادا، يستولي على المال العام لنفسه. وتكون نتيجة الصراع إقامة حد الحرابة على غيلان الدمشقي: تقطيع أطرافه ثم لسانه، ثم صلبه حتى الموت، دون أن يتخلى عن مبادئه وإخلاصه لمبادئه.
![]() |
المخرج هيثم حقي |
هذه القصة الرمزية بالطبع، نراها مجزأة عبر لحظات مفصلية معينة خلال السياق الذي ينتقل بين الحاضر في دمشق المعاصرة، والماضي في عهد الخليفة الآموي. نرى في الحاضر سامي، نموذجا للإنسان الفارغ، الخاوي، الجبان، الذي لا يملك حرية اتخاذ أي قرار، والشيء الوحيد الذي يمارسه في حياته هو الأكل بنهم، ربما تعويضا عن رغباته الجنسية العارمة المكبوتة التي لا يستطيع أن يرويها بسبب عجزه عن إقامة أي علاقة حقيقية بالمرأة، والهرب إلى الخيال من جهة أخرى.
إنه من جهة، واقع في غرام جارته الشابة الحسناء “سناء” التي ترمز للبراءة والحلم بالمستقبل، لكنها ترتبط بعلاقة حب مع شاب مثلها من الباحثين عن الأمل ولو من خلال أغنيات تعبر عن التمرد والرغبة في الانعتاق والتحرر، ومن ناحية أخرى لا يفتأ سامي يتلصص على الجارة الأخرى العاهرة، يراقب كيف يستغلها قواد ومقامر (ربما يكون زوجها) ينكل بها ويقسو عليها لكي تعطيه كل ما تكسبه من مال، في حين تبدو هي مضطرة للانفاق على ولديها.. غير أن سالم لا يحرك ساكنا وهو يراها يوما بعد يوم، عرضة للضرب والتنكيل والإيذاء، ويكتفي بالتلصص من مكمنه في المنزل المجاور، يشتهيها لكنه عاجز حتى عن مخاطبتها.
إنه يشعر بالقهر بسبب عجزه المزدوج، وعن البوح بحبه لجارته الشابة، وعن تفريغ المكبوت الجنسي. وقد يكون “سامي” في هذا السياق هو نموذج للإنسان المتوسط، الذي تكون في واقع محدد، يقمع الإنسان ويلغي شخصيته، ويصادر حتى قدرته على الاختيار، ويترك له فقط حرية اختيار الطعام والشراب. لقد أصبح مسخا مجردا، يتحرك في دوائر طوال الوقت، كلامه قليل، لأنه لا يستطيع التعبير عن نفسه، فالعجز المطلق هو السمة المميزة له.
هذا الاحباط والعجز والضياع يجعله لا يستطيع الدخول في أي مناقشة: هو مثلا يستمع إلى جدال في المقهى بين مجموعة من الشباب حول ما يحدث في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين ودخولا القوات الأمريكية، لكنه لا يتدخل لأنه فاقد للرأي، يهرب من الواقع إلى الخيال، يتخيل نفسه في دور غريب تماما عليه هو دور غيلان الدمشقي بشجاعته وقوة شخصيته وبطولته الأسطورية.
وفي الفيلم دون شك، الكثير من الإشارات الرمزية حول السلطة التي تأتي (بالوراثة).. عندما نرى كيف يتم توريث عمر بن عبد العزيز، ويبايعه الدمشقي على أساس رد أموال المسلمين إلي المسلمين، وإصلاح حال العباد، أي أن المبايعة تكون هنا مشروطة. ولكن عندما يأتي خليفة فاسد، يكون هناك موقف آخر، هو موقف الرفض والمقاومة.
إلا أن المشكلة التي واجهتني وأنا أشاهد هذا الفيلم، تتمثل في اني أحسست غياب المنطق الدرامي في الربط بين شخصية سامي بتكوينها “الحشري”، إذا جاز التعبير، وبين ما يمكن أن تتمثله أو تدرسه أو تحلم به بديلا، أي شخصية غيلان الدمشقي، خاصة وأن شخصية سامي لا تواجه سلطة غاشمة مباشرة أو قضية تتعلق بالعدالة مثلا لكي ترتد إلى الحلم بشخصية غيلان وتمثلها، بل الأمر لا يخرج عن مجموعة متراكمة من الإحباطات العاطفية التي تجعل شخصية سامي تفقد حتى القدرة على الانفعال في حالة وفاة أقرب الناس إليها، أي الأم. إنها ولاشك، مشكلة قد تعود إلى بناء السيناريو نفسه وبناء الشخصية الرئيسية بملامحها المحددة. إن الانتقال في الخيال إلى صور وانماط مغايرة للحقيقة، كان يرى سامي مثلا نفسه خليفة المسلمين يسهر، يأكل ويشرب، ويغازل إحدى جارياته التي يراى فيها صورة جارته الشابة “سناء”، لكن أن يرتد كوال الفيلم، إلى الجانب الإيجاني الرافض في شخصية غيلان، فإن هذا يبدو بتكوينه الفكري المعقد، بعيدا عن تكوين شخصية سامي البسيطة الأقرب إلى البلاهة، والبعيدة بكل تأكيد عن الذكاء أو الفطنة والمعرفة. والدليل أنه لا يستطيع أن يكتب صفحة واحدة في رسالة الدكتوراه التي يعدها، بل يسرح بخياله بعيدا أثناء المحاضرة الوحيدة التي أتيح له حضورها للاستماع إلى أستاذ متخصص في تاريخ المعتزلة.
![]() |
الفنان فارس الحلو كنده علوش |
لكن لا بأس فربما يكون هذا أقصى ما يمكن تحقيقه في ظل الأوضاع الرقابية القائمة التي حالت رغم ذلك، بين الفيلم والجمهور وحظرت عرضه في سورية بعد أن وصلت الرسالة.
التحكم في الأداء التمثيلي واضح في الفيلم. ولاشك أن هيثم كان موفقا في اختيار فارس الحلو في الدور الرئيسي، وهو ما ذكرنا في الكثير من المشاهد بأداء الممثل البريطاني الرحل أوليفر ريد، بتعبيرات وجهه الموحية، وقوة صوته، وبروز شخصيته في دور غيلان الدمشقي، وضعفه وتهافته الذي يدعو حينا إلى الشفقة، وحينا آخر إلى القرف.
وقد أحببت أيضا تعبيرات وجه كنده علوش في دور سناء، وهي التي بدت كفراشة محلقة في سماء الفيلم، تمنحه عبقا خاصا وبراءة وجمالا، بضعفها الظاهري في دور سناء.. الجارة الحسناء التي تبدو قريبة، لكنها بعيدة جدا في الوقت نفسه.
لكن ربما يكون المشهد الذي يدور داخل ملهى ليلي قد أخل بالإيقاع العام للفيلم، وبدا نمطيا وبعيدا عن الأسلوب العام للفيلم أيضا.
في هذا المشهد نرى مجموعة من الراقصات، وكيف يتم استغلال السياح العرب (من الخليج تحديدا) الذين يتصرفون كالعادة، بنزق، يغمرون الراقصات بالأوراق النقدية، مع أغنية استعراضية مبتذلة، تتغزل من خلالها الفتيات في كرم ومروءة العرب من جميع البلدان، لكي ينهض أحدهم ويغمر الراقصة الأولى في الفرقة بالأوراق المالية التي تتناثر على الأرض. هذا المشهد كان ينبغي التخلص منه بالكامل في مرحلةالمونتاج لأنه لا يضيف جديدا إلى الفيلم، بل ويخرجه عن طابعه الرمزي البسيط.
لكن هذا لا يقلل مما بذل من جهد كبير في الفيلم، سواء من جانب المخرج، أم طاقم الممثلين جميعا، والتجربة تستحق، دون شك، أن تتكرر، ونحن في انتظار الفيلم القادم لهيثم حقي.. لعله لا يتأخر كثيرا هذه المرة!.