حول كتاب “زهرة القندول الثانية”: سينما مي وجان
![]() |
أمير العمري |
سعدت كثيرا بصدور كتاب “زهرة القندول الثانية: سينما مي وجان” (دار كنعان، 2009)، أولا لأن الكتب التي تنشر في اللغة العربية عن السينما التسجيلية أو الوثائقية، كتب نادرة حقا، خاصة المؤلف منها وليس المترجم. وثانيا: لأن مؤلف هذا الكتاب البديع، مخرج وناقد سينمائي هو فجر يعقوب الذي يصف نفسه بأنه “فلسطيني يعيش في سورية”، بل والأهم عندي في هذا السياق، أنه أيضا شاعر، وهو ما ينعكس على لغة وأسلوب الكتابة، والاهتمام الكبير بالصياغة الدقيقة الموحية التي يضع فيها الشاعر- المخرج- الكاتب، من ذاته، من افكاره الخاصة، ومن تأملاته شخصية في عالمه، بل ويجعل من تجربة المخرجين مي المصري وجان شمعون، تجربة ممتدة لتجربته، يتداخل الإثنان معا، ويتماهيان، للتعبير عن “رؤية” سينمائية نضجت على نار التجربة الأليمة: في فلسطين، وفي لبنان حيث لا تغيب فلسطين.
الكتاب يتناول بالتحليل تجربة مي المصري وجان شمعون، وهما الثنائي الجميل الذي كون وحدة سينمائية توجت بالارتباط الحياتي كزوجين، مي الفلسطينية المهمومة بمأساة شعبها، وجان، اللبناني الذي تمرد على عشيرته وطبقته واختار الانحياز الكامل للبسطاء والمقهورين، اختار مبكرا الانتماء إلى الجنوب اللبناني، والتعبير عن مقاومته وصموده ورصد ملامح هذا الصمود منذ أن اكتشفنا فيلمه البديع “زهرة القندول” عام 1985.
فجر يقدم كتابه بعنوان مثير للاهتمام “تتوقف مي المصري عندما تبدأ الأرض بالاستطالة”. هنا يدخلنا ببلاغة، ومباشرة، إلى قلب ما يميز الأفلام التي تخرجها مي المصري بالتعاون مع جان شمعون (منتج أفلامها حاليا).. صاحبة أطفال جبل النار، أطفال شاتيلا، أحلام المنفى، امرأة في زمن التحدي، يرى هو أنها تأخذ منحى آخر في مسارها بفيلمها التالي “أيام بيروت- الكذب والحقيقة والفيديو”، الذي “يشكل الإبحار فيه سباحة تشكيلية من نوع آخر تخفف من القسوة الرمزية لواقع مفتوح على الأبواب الروائية المحتملة التي تنشدها مي المصري بين الفيلم والفيلم”.
![]() |
المخرج والناقد فجر يعقوب |
وهو يتشكك في كون الأفلام التي تقدمها لنا مي المصري “لم تكن روائية بالكامل، إذ تكون اللعبة هنا واضحة ونقية لأبطال يؤدون البطولة ويستهدون بالنجوم لمرة واحدة وإلى الأبد”.
يتماهى فجر يعقوب أكثر مع فيلم “أحلام المنفى” ويأخذ في التساؤل المشبع بالتأمل الفلسفي حول العلاقة بين الفيلم والحقيقة، بين التاريخ والصورة السينمائية، ويعتبر هذه الإحالة التي لا مفر منها، من الفيلم إلى التاريخ الفلسطيني ووقائعه المأساوية ونتائجها القائمة اليوم، انتقالا في الذهن والخيال، بين نصف الفيلم، ونصفه الآخر.
وعلى مستوى آخر، فالعلاقة بين الصور ترتد بالذاكرة إلى الانتقال إلى أماكن أخرى ذات علاقة أصيلة بالمكان الأول: “البيت في شاتيلا، كما ظهر في الصورة، هو نهاية فيلم وبدايته، أو هو بداية نصف فيلم، لأن النصف الآخر الذي لا تطاوله بالقفز عليه عبر الصورة ذاتها، أي بالقفز عبر الزمن المركب، هو بيت منار في مخيم الدهيشة.
الصورة مثلا في فيلم “بيروت جبل النار” تدفع كاتبنا المتأمل في حزن نبيل، إلى الكتابة عن المشهد الذي يبدأ به الفيلم حينما نشاهد طفلا “يهدم جدارا مهدما بمطرقة، وهو جدار قد أناحته القذائف والطلقات والأمنيات بالقتل الحلال ليشبه لوحة طالعة من نصف فيلم، إنه يبدو في المنتصف تماما. ندرك أن هذا الهدم المنظم المتفوق على جبروت الصورة (كما بدت في الفيلم) ما هي إلا نصف الفيلم الذي يكمل نصفه الثاني والذي تقضي بقية عمرك وانت تبحث عنه”.
العلاقة بين طفلتين في “أحلام المنفى” التي تصورها مي المصري ببراعة، عبر ثلاث سنوات من الاحباط والشوق والصداقة الموجعة، والتي تحولت خلالها مي كما يقول لنا المؤلف، إلى “ساعي بريد بين أطفال المخيمين بهدف جمعهم عند الاسلاك الشائكة والمبهجة لهواة النوع، وهواة جمع الفراشات الملونة وغرزها في الكتب”.
وهو يصف ما جسدته مي المصري بأنه مثل “زلزال بصري” خصوصا وأننا نشاهد بعد تحرر الجنوب اللبناني وأثناء اللقاء بين الاطفال من المخيمين، ووسط الاندفاع والاحتفال والفرح والزخم الانساني باللحظة، “يسقط شهيد غير منتظر من جموع شاتيلا”.. “حادثة مخيفة، تنضج حياة الأطفال المجتمعين عند السياج باتجاه النكبة، فيصبح حوارهم الطفولي، حوارا مع العصر وهو يزيد من تدفق أحلامهم المراهقة المصطبغة بلون الورد، وكانهم يصرخون: العشق او الموت..”.
![]() |
مي المصري جان شمعون وصورة لمي |
يعمق المؤلف مادته بحوارات مع مي المصري وجان شمعون الذي يخصص القسم الثاني من كتابه لتناول تجربته في الفيلم الوثائقي.
وهو يرى أن من المستحيل الفصل بين عمل الاثنين “طالما أن الاثنين يتبنيان في صلب هذه الأعمال فكرة أن “السينما عمل جماعي”، وبالتالي من الصعب الحكم على صيغة مفرد في سياق عمل اكتوته الفكرة والنبرة، وكل تلك التفصيلات التي تعني بانشاء فيلم على صيغة عمل جماعة وجماعي.. إلخ”.
إلا أن فجر يعقوب يستدرك لكي يطرح أيضا ما قد يميز التجربتين عن بعضهما البعض، أو بالأحرى الرؤيتين أو الفهمين الخاصين للسينما التسجيلية داخل التجربة الواحدة الممتدة، فعلى حين تتبنى مي المصري، كما يرى، منهج فلاهرتي، ينحو جان شمعون أكثر ناحية جريرسون.
الأولى تهتم بمعايشة الناس داخل “مغارة فلاهرتي” واستخراج الشرارة الملهمة من داخل تلك المغارة، والثاني “يجاور خيمة جريرسون في حديثه عن صدق المعايشة، بدل الإيغال في فبركة الأفكار المسبقة التي لا تستند إلى الناس بعلاقة من أي نوع”.
وكان لابد والأمر كذلك، أن تنفصل مي المصري – سينمائيا- عن جان شمعون، تخرج أفلامها وحدها، بعد أن عثرت على أسلوبها الخاص الذي صقلته من خبرة عملها في المونتاج في أفلام جان شمعون، وأن يتجه شمعون أيضا إلى تحقيق طموحاته الخاصة في الفيلم التسجيلي والروائي، أو الفيلم الذي لا يعرف حدودا فيما بين النوعين.
أخيرا.. ربما لا يكون بوسعي، داخل الحدود المحدودة لهذا المقال، أن أعرض كل ما يحتويه هذا الكتاب، فهو حافل على صغر حجمه (155 صفحة)، بمادة مثيرة، شديدة الأهمية، لما تتضمنه من اعترافات واكتشافات وتسليط للأضواء على نواح غير مطروقة من قبل في حياة وتجربة مي المصري وجان شمعون، بل وأيضا، في إبحاره المتعمق في الجوانب الفنية الدقيقة للتجربة من رؤية سينمائي عارف ببواطن الأمور، معايش للتجربة، في السينما وفي الحياة.
لقد أردت أساسا هنا، أن الفت الأنظار إلى أهمية هذا الكتاب بالنسبة للباحثين في السينما عموما، وفي السينما الوثائقية بشكل خاص، وأن أرد على أولئك الذين يتقولون بأن ثقافتنا العربية لا تعرف “النقد العلمي” أو المتابعة النقدية الصحيحة كما يفعل الغربيون، بأن هذا الكتاب وغيره يعد أكبر صفعة لهؤلاء “المنتحرين في ثقافة الآخر”.. إما عجزا، أو عن سوء قصد ونية!.