«المنام» لمحمد ملص: الفلسطينيون.. يحلمون أيضا..

أنجز المخرج السوري محمد ملص فيلمه «المنام» عام 1987، وهو فيلم وثائقي هام بفكرته وتنفيذه، أي على المستويين المضموني والفني، إذ يبحث المخرج محمد ملص بفنية صافية عن تلك الأحلام التي تغزو الفلسطينيين في نومهم؛ فمن خلال أحلام الليل عندهم، نكتشف أو نستقرئ أحلام النهار، في فيلم متماسك مؤثّر، يُحسن توظيف الكلمة، والصورة، والموسيقى، والأغنية، والقصيدة، والنصوص القرآنية الكريمة.. في سياقه.
هنا نجد، عبر (45 دقيقة) من التسجيلية المتدفقة، أحاديث الفلسطينيين؛ الناس، البسطاء، العاديين، في عمق القاع الشعبي، اللاجئين في المخيمات، وبيوتاتها الصغيرة والفقيرة، وفي القواعد الفدائية ومكامنها، ومقابر الشهداء.. كما نجد الشاعر محمود درويش عبر قصيدته الرائعة «أحمد العربي» ومارسيل خليفة، بموسيقاه وأغنيته الشهيرة «الذكريات تجيء لا تؤذي».. ونستمع لتراتيل قرآنية، تقص من حكاية النبي، «يوسف» عليه السلام.. فيكون هذا العمل مميزاً بفكرته، جميلاً بتنفيذه، غني بتفاصيله وتأثيثاته..

المخرج محمد ملص

من خارج النسقية الروائية المكتوبة، أو المحكية الشفوية الفلسطينية (الطافحة بتحليلات أو يقينيات أو تأكيدات أو حتميات) يجيء فيلم المخرج محمد ملص «المنام»، لا ليضيف شيئاً على السردية الفلسطينية، المتبناة، ولا ليحاكمها، أو يمتحن علاقتها بالتاريخ الذي يصنعه الكثيرون، سواء كالفلسطينيين بدمهم، أو غيرهم برصاصهم، أو حتى بأموالهم!.. بل إنه ينتهج روايته في سياق مفارق ومواز، حُلمي (من حلم)، وربما مستجدى برغبات ومطامح وتوق، يتكون في عقلية حاضرة، ولا يتجاوز الراهن، بل يتأمل فيه، ليقفز إلى المأمول، وليداخل في تلك الرواية ما بين الممكن الواقعي الحياتي، والمرصود المأمول المشتهى.. ثمة ما يشي بتجاوز تفاصيل الواقع الثقيل، إن لم يكن بتغييره، فبحلم تغييره.. على الأقل.
فيلم «المنام» هو محاولة خاصة، في السينما الفلسطينية، لتبيان ملامح صورة الفلسطيني، حتى ولو بمعزل عن صورة نقيضها الصهيوني، أو بالمقارنة بها!.. نقول إن فيلم «المنام» هو محاولة لنرى سينمائياً صورة الفلسطيني، في الوقت ذاته الذي كانت جعجعة الثورة أعلى من طحنها، وغبارها يخلو من سنابك خيلها، حتى وإن كان البعض يعجن من ذاك الطحن (غير الموجود)، ويرى لمع تلك السنابك (غير الموجودة).. ويعد بالنصر رغم كل ذلك!..
في هذا الفيلم، تأتينا فتاة فلسطينية؛ شابة لاجئة نجت من أصابع الموت والقتل في مخيم تل الزعتر، ومع ذلك جاءها في منامها من يقول لها «إننا انتصرنا».. فهو الوعد الذي عاشت عليه، ولم تملّ من سماعه، ولكن كأن في الأمر (نقصد وعد هؤلاء بالنصر) شيئاً ما، فليس بلا معنى، أو بلا دلالة، أن يحضر استغرابها الذي تقدمه بجملة واحدة: «بهالسرعة هاي؟..»!.. وفي الوقت ذاته تبدي استعدادها (ربما توقها) لأن تتعلم الصلاة، لعلها الحلّ، كأنها بذلك تشير إلى تهاوي وانطفاء كل التنظيرات والأيديولوجيات، التي لازالت روائحها تعبق بين ركام مخيم تل الزعتر!..

في سوق صبرا وشاتيلا بريشة تمام الأكحل

وفي الفيلم أيضاً، نرى شخصية أخرى، إنها الفتاة التي عملت في الثورة، وها هي الآن، بعد شوط من انكسار الحلم، وتأخر تنفيذ الوعد، وابتعاد تحققه، تحضّر نفسها للهجرة، سواء أكانت الهجرة الطوعية، هذه المرة، إلى أيّ دولة في الخليج، أو أي دولة في أي منفى كان!.. وهناك الأم العجوز التي تحمل بندقية (من حديد)، صنعها ابنها الذي مضى شهيداً، ولم يبق من ذاكرته، ربما، سوى هذه القطعة الحديدية التي «بتقوّص»!..
ونرى الشاب الفلسطيني (نضال خليل)، الذي تتطابق صورته مع صورة «جيفارا»، المعلقة على الجدار، كما يتقصد المخرج محمد ملص، من خلال اختياره لزاوية التصوير.. إنه شاب يمكث في سرير العجز والإعاقة، جراء الإصابة في مواجهة ما، أو عدوان ما.. بينما يرى الطفل الواقف بين أكياس رمل (في دشمة) ذاته أكبر من أن يكون طفلاً، فنراه يحلم كيف ينقذ طفلاً من براثن قصف العدو!.. ونرى الكهل الراقد في سريره يتمتم، كأنما يسلم الروح، أكثر مما يسلم إرادته: «هاي عيشتنا».. ويتركنا نتساءل: أي عيشة تلك؟..
كل ما في صورة الفلسطيني مترعة بأحلام أكبر من الواقع الذي يعيشه، وفي واقع أقل من التضحيات التي يقدمها، والفيلم الذي صُوِّر عام 1981، في مخيمات فلسطينية في لبنان، التي كانت تعشش فيها قوى الثورة الفلسطينية المسلحة، والمدججة بالشعارات، لم يشأ أن يخضع أو ينقاد، كعشرات الأفلام المنجزة في تلك الفترة، لخطاب وأيديولوجيا وشعارات تلك اللحظات الموحية بانتصارات عارمة، والتي سرعان ما تهاوت تحت أقدام الاجتياح الصهيوني، بعد أقل من عام من بدء وقت التصوير، وتحولت جثثاً لرجال ونساء وأطفال، تحت ركام مخيمي شاتيلا وصبرا..
ليس أمراً عابراً أن يدخل المخرج محمد ملص في إطار السينما الفلسطينية، حتى وإن كان حينها لم ينجز أياً من أفلامه الروائية الطويلة (أحلام المدينة 1983، الليل 1991) التي نقلته إلى الصفوف الأولى من المخرجين العرب المتميزين، بل لعل نجاحه المتميز في فيلمه الروائي الطويل (أحلام المدينة)، فوزه بجائزة قرطاج الذهبية، في الفترة ما بين بدئه تصوير فيلم «المنام» عام 1981، وإتمامه عام 1987، وعلو كعبه، كان أحد العوامل التي ساهمت في انتشال هذا الفيلم من غياهب النسيان، التي كان من الطبيعي أن تتهدده، على الأقل نظراً للظروف الذاتية والموضوعية، التي شهدتها سنوات الثمانينيات، خاصة ما بين اجتياح لبنان، وحصار بيروت عام 1982، وما تلاه من ويلات خروج الثورة، وتشتتها في المنافي من تونس إلى اليمن، وكارثة مجازر صبرا وشاتيلا، والانشقاق المؤلم الذي أصاب الساحة الفلسطينية، على المستويين السياسي والعسكري.

استنقاذ فيلم «المنام»، أضاف إلى المكتبة السينمائية الفلسطينية، فيلماً يمكن له أن يكون نموذجاً للفيلم السينمائي الوثائقي الذي يدخل عميقاً في صورة الفلسطيني، وثناياها، وينفذ إلى جوهر الأشياء، ودواخل اللاجئ الفلسطيني في شتات المخيمات في لبنان. ويبقى فيلم «المنام»، حتى بعد مرور قرابة ثلاثين سنة طازجاً، كما أنه الفيلم النموذج من ناحية اجتماع مجموعة متميزة من الخبرات العربية، لنتحصل في النهاية على فيلم لائق، إذ علينا الانتباه إلى أنه وفضلاً عن الإخراج لمحمد ملص، فقد توفر في الفيلم جهد المخرج العراقي قيس الزبيدي، والمونتيرة السورية انطواني عازارية، والخبير السينمائي عدنان سلوم، في حين تولى المخرج السوري عمر أميرلاي إدارة الإنتاج، وكان التصوير للقديرين الفلسطيني حازم بياعة، والسوري حنا ورد، والصوت للسوريين حسان سالم وأحمد قاوون، بما يوحي أن ثمة ورشة عمل عربية متنوعة محترفة خبيرة قديرة، اشتغلت في هذا الفيلم بقيادة المخرج محمد ملص، الذي لم ينس توجيه الشكر إلى كثيرين، تعاونوا بشكل أو آخر، حتى ولو على مستوى النقاش والحوار والرأي، من طراز الصحافي طلال سلمان، والسينمائي المصري يسري نصر الله، قبل أن يشرع هو أيضاً، ومن جهته، بإنجاز سينماه المختلفة.
كان زمن ومضى، عندما كانت «دائرة الإعلام والثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية»، تنتبه إلى أهمية سينما من هذا الطراز، وتتمكن من جمع هذه النخبة السينمائية، وتوفر لها فرصة العمل السينمائي الوثائقي في الموضوع الفلسطيني!.. ولعل فيلم «المنام» كان الشهقة السينمائية الأخيرة لدائرة الإعلام والثقافة، ذهبت بعده إلى اختتام مسيرتها المرصعة بأسماء لأفلام كبيرة، حققها كل من المخرج قيس الزبيدي، والمخرج عمر أميرلاي، والفنان التشكيلي إسماعيل شموط، والمخرجة مونيكا ماورر، والمخرجة جوسلين صعب، والمخرج حكمت داوود، والمخرج محمد توفيق، والمخرجة ليالي بدر، والمخرج سمير نمر، والمخرج قاسم حول، والمخرج محمد السوالمة، والمخرج يحيى بركات، والمخرج محمود خليل، والمخرجة عرب لطفي.. تلك المسيرة السينمائية التي أوصلت الكثير من الأفلام إلى أوسع مدى ممكن حينها، داخل الوطن العربي، وخارجه.
فيلم «المنام»، الوثيقة السينمائية الهامة، فيلم كبير، يستحق الاستعادة في كل وقت، وكل حين، ويستدعي التوقف أمامه، والتأمل فيه، والتبصر في قولاته، لعل نرى السياقات التي ذهبت إليها الأحوال الفلسطينية، فيما تلا من أيام وأحداث، بالشكل الذي يبين لنا، كيف كانت أحلام الفلسطينيين ذات وقت، وإلى أين مضت.. بخيباتها وانكساراتها.. مقدمة لبحث إجابة السؤال: لماذا؟!.. وكيف؟!..


إعلان