«جنغا 48»: شجاعة الوقوف أمام المرآة!..
بشار إبراهيم
لعل من أسوأ عاداتنا، على المستوى الفكري على الأقل، أننا نتكئ على اعتقاد بأن الأجيال الناشئة فاقدة للثقافة، خالية من شوق التساؤل، وحب المعرفة.. بل إن الكثيرين من أجيال متقدمة في العمر، تنظر بعين الأسى، إن لم نقل بعين السخط، إلى الأجيال اللاحقة، على اعتبار أن جيل اليوم لا همَّ له سوى السطحي من الاهتمامات، والمرذول من الانشغالات، والتافه من المتابعات!..
يعتزّ أفراد ممن ينتمون إلى الأجيال المتقدمة في العمر، أنهم من أجيال خاضت التجارب، وامتلكت الخبرات، وعاشت العصور الذهبية للفكر والثقافة والسياسة والنضال.. أيام كان ثمة أحزاب وقوى وفصائل، واتجاهات سياسية وفكرية وأيديولوجية.. أيام صعود الثورات، والمد الفكري الأيديولوجي، وأيام التوعدات ضد الامبريالية والاستعمار والصهيونية والرجعية، وتبشيرها بمصيرها المحتوم، بالتحطم على صخرة النضال الثوري!..
ولعل من أسوأ نظراتنا، تلك التي نصوبها تجاه عالم الطفولة، فلا نرى في أفيائه إلا البراءة التي تغدو صنو السذاجة، وعدم المقدرة على رؤية العالم، وبالتالي افتقاد ميزة امتلاك الدوافع للتعرف عليه، وتفسيره، وفهمه، والبحث فيه جوانب المحيرة.
لن تأبه المخرجة الفلسطينية علا طبري لهذا كله، بل إنها ستمضي، هذه المرة، مدعومة بموقف مضيء من قبل «قناة الجزيرة أطفال»، آخذة من عالم الطفولة مفتاحاً باهراً، وضوءاً كاشفاً، يمكن له أن يضع أعقد التفاصيل على مشرحة السؤال، والبحث والتقصي، ويقدم للكبار قبل الصغار رؤية نادرة، قوامها المكاشفة والتساؤل، مهما بلغ به الحرج، أو الجرأة، واستدعى الاعتراف!..
![]() |
المخرجة علا طبري |
وإذا كان للمخرجة علا طبري، مشروعها السينمائي الذي بدأته منذ عقد من الزمن، متكئة على تداخل وتكامل الذاتي والموضوعي؛ الشخصي والإبداعي، لديها، لتنتج لنا سياقاً خاصاً في السينما الفلسطينية، يمكن أن تكون هي أحد أبرز علاماته، بحضورها ونكهنها الخاصة.. فإن «قناة الجزيرة أطفال»، ستضيف نقطة مضيئة تُحسب لها، بإقدامها على إنتاج عمل وثائقي، يغوص عميقاً في الواقع الفلسطيني، بتناقضاته الحادة جداً.
وبالنظر إلى المشروع البصري التي تشتغل عليه المخرجة علا طبري، فإننا يمكن في النهاية أن نصل إلى نتيجة حاسمة، مفادها أن هذا العمل، ما هو إلا خطوة أخرى على الطريق ذاتها، وبالاتجاه نفسه، ذاك الذي كانت قد بدأته بفيلمها الوثائقي الطويل «خلقنا وعلقنا»، عام 2002، وهاهي تستكمله الآن، ومع بعض الشخصيات ذاتها، التي رأينا ظهورات لها هناك، ونستمر معها هنا، وقد تطورت ونضجت مع الأيام، وباتت أكثر قدرة على حمل الفيلم كله، والنهوض به، حاملاً درامياً، وضوءاً معرفياً، ومستكشفاً متسائلاً..
هنا، ومع فيلم «جنغا 48»؛ الفيلم الوثائقي الطويل (مدته 77 دقيقة)، بإنتاج الجزيرة للأطفال عام 2008، سنعود لرحلة المخرجة علا طبري السينمائية في البحث والتقصي، وهاجس المعرفة: كيف، لماذا؟.. في موضوع محدد تماماً، يتعلق بواقع العرب الفلسطينيين الباقين على أراضيهم المحتلة عام 1948، أولئك العرب الفلسطينيين الذين نجوا من قبضة الشتات والمنفى، والوقوع في ذل المخيمات، ليتواجهوا مع قدر البقاء بين أيدي الدولة، التي قامت على أنقاض دولتهم، وهويتهم، ووجودهم وحضورهم الوطني والقومي التاريخي..
لا تريد المخرجة طبري تكرار ما ذهبتْ إليه في فيلمها الأول «خلقنا وعلقنا». بل من الواضح أنها تريد الذهاب إلى التكامل معه، ربما في مسعى لاستكمال جوانب أخرى، من الصورة البانورامية، على تعقيداتها. هنا سنجد أن الموضوع الرئيس إنما هو محاولات الأسرلة، التي تقوم بها الحكومة الإسرائيلية، بمؤسساتها، على الصعد كافة، تجاه العرب الفلسطينيين.
![]() |
من الفيلم |
كالعادة، ستنطلق المخرجة علا طبري من بيتها الباريسي البعيد.. هناك حيث تبدأ مستعينة بأدوات الاتصال الحديثة: (اللابتوب.. الأنسر ماشين.. شبكة الانترنت.. الدردشة الإلكترونية)، للتواصل مع فلسطينها.. فتتلقى الأخبار، والنكات، وتتابع صور ومشاهد من تاريخنا القريب.. لنرى معها جنود الاحتلال الإسرائيلي.. مظاهرات المدنيين الفلسطينيين.. وليقودنا إلى مانشيت يؤكد أن هذه مشاهد من «يوم الأرض» عام 1976.
هذه المرة، ستركب المخرجة علا طبري، طائرة، إلى حيت تستقبلها عبارة «أهلاً وسهلاً بكم في إسرائيل». لن تمخر عباب الأزرق الافتراضي، كما رأينا في فيلمها «خلقنا وعلقنا»، ولن تقفز مونتاجياً لتطلَّ على فضاءات الناصرة!.. إنها بتؤدة، تنتقل عبر الأجواء الفسيحة، سابحة عبر الغيوم وفوقها، إلى المكان الذي بات يضيق بأبنائه، حيث ثمة من يضيّقون العيش عليهم، حتى حدود الاختناق.
أن تعود إلى فلسطين، فتستقبلك يافطة تقول لك «أهلاً وسهلاً بكم في إسرائيل»، هي فاتحة المأساة، وذروة الكارثة، ومكمن الجرح!.. لم تعد فلسطين فلسطيناً، ولم يعد الفلسطينيون كذلك!.. ثمة من يعدُّ العدة لتدمير ما تبقى، وهدم ما كان، والقضاء على ما هو آت؛ على المستقبل الذي ينتظره الناس، على شيء من أمل.
منذ اللحظات الأولى، يؤشر الفيلم إلى مظاهر الأسرلة، وبعض نتائجها.. ولعل لهذا ليس عبثاً أن تمرّ على أسماعنا أصوات إذاعة عربية، أنشأها اثنان من شباب فلسطينيين.. تلك الإذاعة التي تأتي على هيئة طراز (دي جي إزرايل)!..
تعود المخرجة علا طبري إلى أصل الحكاية؛ حكاية المحاولات الدؤوبة لأسرلة العرب الفلسطينيين، ليس بقصد ضمهم إلى المجتمع الإسرائيلي، مواطنيين على القدم ذاته من المساواة في الواجبات والحقوق.. بل فقط بهدف خلعهم من انتماءاتهم الثقافية، والاجتماعية، وصولاً إلى خلخلة الانتماء الوطني والقومي، وقطع الصلة مع مقومات الهوية الفلسطينية، ومعطياتها الغنية على المستويات القومية والدينية.
ستتخد المخرجة من قرار وزارة المعارف الإسرائيلية الشروع بتعليم العرب أشياء عن «يوم الأرض» ذريعة لرحلة الكشف والاستقصاء.. ولن تقوم هي بذاتها بالأمر، بل ستعتمد على فتاتين يافعتين، سبق أن رأيناهما طفلتين، قبل خمس سنوات، في فيلم «خلقنا وعلقنا».
كبرت الصبيتان، ونضجتا، وباتتا قادرتين، وهما في مقتبل الصبا، على القيام بمهمة، تحتاج لوعي ودأب وجرأة وثقافة وقوة شخصية.. ستقوم المخرجة بمرافقة هاتين الفتاتين، وستمضي معهما، حيثما تمضيان. تغيب عنهما أحياناً، وتحضر في أحايين أخرى. ولكنها لن تلعب أكثر من دور الدليل، أو المشرف، أو المراقب.
البطولة المطلقة، هي لتينك الفتاتين (ورد وعدن ضاهر)، اللتين تبدوان على قدر مشجع، ومثير للدهشة والأمل، في أن أجيالاً فلسطينية تنشأ رغم أنف الاحتلال، والدولة ذات الستين عاماً، والسلاح النووي، والانتصارات المتكررة على العرب، وذات المؤسسة الحكومية المدججة بكل محاولات التدجين والطمس والمحو والتذويب.. والأسرلة.
ستحمل الفتاتان كتاباً نموذجياً في فضح اللعبة الإسرائيلية. كتاب على هيئة قصة قصيرة تتوجه إلى الأطفال الفلسطينيين، في مرحلة الدراسة الأولى؛ كتاب يحكي قصة الأطفال الفلسطينيين الفرحين بقدوم «عيد الاستقلال»، فيفرح الأطفال للحلوى والهدايا، ويلبون دعوة «رئيس الدولة» لزيارته في بيته في القدس.. ويحملون أعلام الدولة، ويذهبون، فما يكون من رئيس الدولة إلا الترحيب بهم، وتنتهي القصة على النحو التالي: «هيفاء ونور وبادرة ومعين يحملون علم البلاد.. قال الرئيس: الحمد لله!.. أولاد لطفاء، من جميع الأرجاء».
![]() |
وإذا كان هذا بعض من نصيب الأطفال، في مرحلة الدراسة الأولى، فإن وزارة المعارف الإسرائيلية قررت في العام 2006، البدء بمشروع تعليم الطلاب العرب أشياء عن يوم الأرض.. ومن الطبيعي أن نكتشف، مع الفيلم، أن الموضوع إنما هو في النهاية إفراغ «يوم الأرض» من جوهره الحقيقي، ومن معناه، ومن سياقه، مقدماته ونتائجه، ومن ارتباطه بالقضية الفلسطينية، ونضال الفلسطينيين للتمسك بأراضيهم.. تماماً، إلى درجة تحويله إلى مجرد «عيد غرس الأشجار»!..
من معرفة بواقع الحال العربي الفلسطيني، على أرض فلسطين التاريخية.. ومن ألم ما يقدمه الواقع من تفاصيل، أيضاً.. تنطلق الفتاتان في بحث طويل، جريء، وشجاع.. إنهما تدركان أن كثيراً من أبناء «جيل اليوم»، لا يعرف شيئاً عن «يوم الأرض».. ولا عن موضوع «شهاب الدين»!.. ولكنهما تدركان أن ذلك، إنما هو نتاج سياسة تعليمية إسرائيلية، مقصودة، بخبث، تبدأ منذ الصغر، وترافق مراحل التعليم، للوصول إلى هذه النتيجة؛ قطيعة فلسطينيين 48 مع تاريخهم وهويتهم وانتماءاتهم..
ومن أجل فض هذا الاشتباك، وفك ملابساته، وتوضيحه، وفهمه، ستقوم الفتاتان بمقابلة العديد من الشخصيات الفلسطينية، وعلى جانبي الموقف تماماً، بتناقضهما الحاد والعميق الكارثة!.. هكذا سيحضر محمد بركة ورائد صلاح وأخرون، من الناحية المتمسكة بفلسطينيتها وعروبيتها.. فيما يحضر كمال عطيلة، وآخرون، ممن يعتبرون إسرائيل دولتهم، وممثلتهم!..
ليس ثمة أكثر بؤساً وفجيعة من أن تشاهد رجلاً عربياً فلسطينياً عاقلاً، لا يتوانى عن القول إنه من دولة إسرائيل، وإنها تمثله، وهو ينتمي إليها، وإنها دولة ديمقراطية.. إلا أن تشاهد طفلاً عربياً فلسطينياً يقول إنه مستعد للدخول في الجيش الإسرائيلي، وقتل الفلسطينيين!.. وليس أقل من هذا وذاك بؤساً فجيعة، أن ننتبه إلى حقيقة أنه لا العرب ولا الفلسطينيين يهتمون بهذا السياق المدمر، الذي تمارسه الحكومة الإسرائيلية.. وأن العرب والفلسطينيين، على السواء، لا يدركون أنه أكثر خطورة من السلاح النووي الإسرائيلي ذاته.
يغتني فيلم «جينغا 48»، بالكثير من التفاصيل، ويقدم العديد من الأطروحات السياسية الوطنية والتربوية والثقافية والقانونية الحقوقية.. ويقدم صوراً متنوعة لنماذج من الفلسطينيين الباقين على أرض فلسطين المحتلة عام 1948، ويعتمد على الوثائق الأرشيفية والصحفية، والمقابلات والزيارات واللقاءات والحوارات، والحالات، المعبرة كل عن تجربتها..
سيقول محمد بركة، بوضوح: «نحن لا نستطيع توريث الأرض.. لقد صادروا الأرض.. لكن يمكننا توريث الذاكرة»!.. وسيبدو تماماً أن الذاكرة الفلسطينية هي المستهدفة أولاً، ولهذا فهو يستذكر المشروع الإسرائيلي الذي تمَّ طرحه عام 1951، والذي تضمن اقتراح تعليم اللغة العربية، بأحرف عامية، على أن تكتب بالعبرية!.. وذلك لقطع الصلة بين الفلسطينيين الباقيين على أراضيهم عام 1948، من جهة أولى، مع العالم العربي، من جهة أخرى..
صادروا الأراضي.. ويريدون مصادرة الفكر والثقافة والمخيلة.. ويعملون على تزييف مفهوم الهوية، بين هوية مهنية، وهوية شخصية، سابقة ومتفوقة على الهوية الوطنية والقومية.
وما بين ثنائية مصادرة الأراضي، من جهة، ومصادرة الهوية والثقافة والانتماء، من جهة أخرى، يتحرك الفيلم بمهارة ليكتشف في لقاء مع أحد الناشطين الفلسطينيين في «لجنة الدفاع عن الأراضي»، أنه جرت محاولات من أجل مصادرة قرابة 40% من الأراضي العربية الفلسطينية، بحجة «الخريطة الهيكيلية».. هذه التي يراها ليست إلا أسلوباً آخر، وحيلة ماكرة، لمصادرة المزيد من الأراضي العربية الفلسطينية..
يغوص الفيلم، الذي تصدق إحدى بطلتيه عندما تسميه «بحث عن يوم الأرض، والهوية، والعرب الموجودين داخل هاي الدولة»، في الكثير من التفاصيل، ويقدم بجرأة نادرة جوانب خفية ومؤلمة من نتاجات عملية الأسرلة المستمرة بأشكال وعناوين مختلفة..
ولن ننسى مرور الفيلم الطريف، على انتشار رياضة «الكابويرا»، في أوساط الشباب الفلسطينيين، موضحاً أن هذا الطراز من فن القتال، وهو برازيلي أفريقي الأصل، إنما نشأ وانتشر باعتباره فن المستعبدين والفقراء.. وطريقتهم في الحلم بالحرية، وربما الهروب إليها.
«جنغا 48» الفيلم الوثائقي الطويل، للمخرجة علا طبري، المُنتج للأطفال أصلاً، في إطار «قناة الجزيرة أطفال».. ليس من المغالاة في شيء القول إنه فيلم لنا جميعاً.. الكبار قبل الصغار.. وفي الشتات قبل الداخل.. نشاهده، مرة تلو أخرى.. نتعلم منه الكثير.. نتملاه ونتأمله.. لعلنا نكتشف ذواتنا.. والتخريب الذي يصيبنا.. والعطب الذي يطالنا..
ولعلنا نتشبث بالأمل، الذي يعلنه الفيلم، على لسان أحد الفلسطينيين، عندما يقول: «يمكن ليوم الأرض أن يرجع بأشكال مختلفة».. بإيمان أن «هذا الجيل سيناضل من أجل حقوقه».. ولعلنا نعمل جميعاً من أجل هذا الأمل، بشجاعة الوقوف أمام المرآة.