“عطلة نهاية الأسبوع” فيلمٌ تسجيليٌّ “أعمى” لروتمان
تكشفُ مشاهدةٌ جديدةٌ لأفلام السينمائيّ الألمانيّ والتر روتمان( 28 ديسمبر 1887-15 يوليو 1941) عن اتجاهيّن مُتوازييّن يطبعا أسلوبه، وتجمعهما موسيقيةٌ بصرية، أكان ذلك في رباعيّته التجريدية(1)Lichtspiel: Opus التي أنجزها خلال الفترة من عام 1921 وحتى 1925، أو التصويرية المُعتمدة على لقطاتٍ تسجيلية حوّلها المُونتاج إلى سيمفونياتٍ بصرية.
![]() |
والتر روتمان
في دراستي عن السينما الدادائية، لم أعثر في أدبيّاتها على “والتر روتمان” مع أنه بدأ مشواره السينمائيّ في نفس فترة ظهورها بداية العشرينيّات، وانطلق من رغبة منح الحركة لعناصر غير مُتحركة، وهي نفس المفاهيم الجمالية التي انشغل بها أيضاَ (Marcel Duchamp، Man Ray، Francis Picabia، Hans Richter، Viking Eggeling، و Fernand Léger،….).
رُبما لم يُتوّج دادائياً بسبب خلافه الفكريّ مع روّادها المُناهضين للحرب العالمية الأولى، حيث يشيرُ الباحثان الفرنسيّان ” Henri BEHAR”، و” Catherine VASSEUR” بأنّ مُشاهدة، وقراءة أعمال الحركة الدادائية اليوم بمثابة معجزة على الرغم من الاضطهاد الذي عانته من طرف النظام النازيّ (كانت الوحيدة التي أشار إليها هتلر بشكلٍ صريح في كتابه “كفاحي”)(2)، فقد تجسّدت النزعات النازية لـ”والتر روتمان” بانضمامه إلى صفوفها عام 1933، وعلى مشارف الحرب العالمية الثانية شارك في أعمالٍ اشتراكية/وطنية ـ وُفق المفهوم النازيّ ـ مثل فيلم “آلهة الملعب”(Olympia) لمُخرجته “Leni Riefenstahl”، وانتهت حياته مُتأثراً بجراحه عندما كان يُصوّر فيلماً دعائياً على الجبهة الروسية(3).
كانت أفلامه الأولى تجارب أولية مهدّت للسينما التجريدية، بينما يمكنُ اعتبار فيلميه “برلين، سيمفونية مدينة كبيرة” (Berlin: Die Sinfonie der Großstadt) عام 1927، و”لحن العالم” (Melodie der Welt) عام 1929 من الأفلام العظيمة في تاريخ السينما التسجيلية.
![]() |
برلين، سيمفونية مدينة كبيرة
يعكسُ الأول نظرةً شعريةً بلاغية بدون التخلي عن البناء الزمنيّ التراتبيّ للوقائع اليومية في مدينة برلين منذ الفجر، وحتى ساعات الليل الأخيرة من خلال لقطاتٍ مُنتقاة بعناية، ومُتوالية في دقةٍ إيقاعية مُتناهية (استغرق تصوير الفيلم عاماً كاملاً كما يُصرّح المخرج بنفسه)، ويُجسّد الثاني رؤيةً موسيقية بصرية عن العالم في توافقاته، وتناقضاته.
وما بين التجريديّ، والتصويريّ هناك “عطلة نهاية الأسبوع” (Wochenende) المُنجز عام 1930، فيلمٌ نادرٌ في تاريخ السينما التسجيلية، والسينما بشكلٍ عام، تنحو تجريبيّته إلى حدّ إقصاء الصورة تماماً، والاكتفاء بشريط الصوت فقط، 11 دقيقة، و30 ثانية يُبحلق المتفرج خلالها في شاشةٍ سوداء، ويسمعُ تتابع، وتداخل أصواتٍ عديدة.
وعلى الرغم من نهاية الحركة الدادائية، كما أعلنت المجلة البلجيكية “Ça Ira! ” عام 1921(4)، يمكن اعتباره تجربة فيلميّة صوتية تتموقع بامتيازٍ في صلب طبيعتها، وتوجهاتها الجمالية المُغايرة.
وكما كلّ الأعمال المُجددة التي أحدثت تبايناتٍ فكرية بمُناسبة عروضها الأولى، أتخيّل بأنه حصد بدوره ردود أفعالٍ مُناهضة، ولكنني، أتوقعُ بأن يُثير زوبعةً نقاشيّة فيما لو تجرأ مهرجانٌ عربيّ بعرض الفيلم حالياً لجمهورٍ عاديٍّ، أو نخبويٍّ مُشبعاً بالسينما السائدة بكلّ أنواعها الروائية، التسجيلية، والتحريكية، وأتصوّر أيضاً بأن يخلق جدلاً لن يكون في صالح الفيلم أبداً بعد طغيان الصورة السينمائية، والتلفزيونية على حياتنا اليومية. سوف تنطلقُ التساؤلات المُحتملة من مفاهيم تقليدية حول طبيعة السينما، وارتباطها بفعل “المُشاهدة”:
فهل نعتبر “عطلة نهاية الأسبوع” فيلماً سينمائياً، أم شريطاً إذاعياً ؟
مُنذ اكتشافها، ارتبطت السينما بالصورة المُتحركة، وقدرتها السحرية على إيهام، وإبهار المُتفرج، وتزامنت محاولات تسجيل الصوت، والصورة على دعامةٍ مادية، وفي الوقت الذي بدأت من الصورة، وانتظرت ربع قرنٍ تقريباً كي تستثمر الصوت (الحوار المُتزامن)، جاء العمّ “والتر ورتمان”، وتجرأ على زعزعة تلك الحقيقة، ومنح البناء الصوتيّ أهميته الجمالية، وأنجز فيلماً بدون صور.
من وجهة نظري، وانطلاقاً من حرية التجريب إلى أقصى حدوده، أعتبرُ “عطلة نهاية الأسبوع” تجربةٌ فيلميّة عاقلة لا يمكن حذفها من فيلموغرافيا “والتر روتمان”، وإدراجها في قائمة أعماله الفنية الأخرى، ومنها الرسم(5).
وبينما تُسجل الكاميرا الصور المُتتابعة، فإنها، في الآن ذاته، تكشفُ عن قدراتها في القبض على الزمان، والمكان، ولن تستحضر معانيهما بدون تطويعهما وُفق سياقاتٍ تسجيلية، أو حكائية، وهي إحدى الخصائص الجوهرية للسينما بالمُقارنة مع الفنون الأخرى الثابتة كلياً (يُمكن اعتبار المسرح فنٌا متحركا مجازياً، والفكرة قابلةٌ للنقاش).
من جهة أخرى، لا تكتسب الصورة السينمائية معنى بمُفردها، أو حتى مُجتمعة، ولا تكفي صورة واحدة لإحداث الحركة، وعند عرضها على الشاشة، سوف تظهر، وتختفي قبل أن تُدركها العين، ولخلق هذا الوهم، يجب أن تُسجل الكاميرا، وتعرض وُفق سرعةٍ قياسية (24 صورة في الثانية).
يتشكلُ الفيلم إذاً من التلاعب بالزمان مونتاجياً، مُتخطياً اللقطات القصيرة المُنفردة للأخوين لوميير، أو خدع “جورج ميلييس”.
![]() |
روتمان أثناء تصوير أحد أفلامه
في “عطلة نهاية الأسبوع” تخلى “والتر روتمان” طوعاً عن المكان المرئيّ عن طريق الصورة، واحتفظ بالزمان المُسجل من خلال الصوت الذي تمّت إضافته إلى الجانب المُخصص له في الشريط الحساس بهدف عرضه في صالةٍ أمام جمهور ينظرُ إلى شاشةٍ كبيرة يختفي المكان في عتمتها، لم يتبقى منه غير الصوت.
ومنذ تلك اللحظة، أصبح “عطلة نهاية الأسبوع”، شئنا، أم أبينا، فيلماً بدون صور…
لقد تمّ إقصاء الصورة عمداً لصالح أصواتٍ تسمحُ لكلّ متفرج بأن يصنعَ فيلمه الخاصّ، ويتخيّلَ ما يشاء من الصور المُتوافقة، أو المُتعارضة، وهي تجربةٌ طريفةٌ بحدّ ذاتها تقودنا إلى معرفة فوارق الصور المُتخيلة بين متفرج، وآخر.
لقد أنجز “روتمان” فيلمه بدون كاميرا(وهي مُمارسةٌ شائعةٌ في السينما التجريبية)، ولهذا، لن أعتبر عدستها عمياء، ولكن، كان “عطلة نهاية الأسبوع” بالأحرى أول فيلم أعمى في تاريخ السينما.
وعن هذه التجربة المُونتاجية الصوتية يتحدث “روتمان” :
“من خلال تجاربي، أردتُ اكتشاف قواعد نظامٍ أكثر تفوقاً حول العلاقة بين العناصر الصوتية، وتنظيمها لتشكيل وحدةٍ تحققت في الفيلم الصامت مع عناصر بصرية.
“في الليل”(In der Nacht) (6) محاولةٌ لتجسيد كونشرتو بيانو لـ”شومان” في سلسلةٍ من الصور، بينما كان الصوت في “عطلة نهاية الأسبوع” هدفاً بحدّ ذاته، حيث يتحولُ إلى مصدر إلهام، يُثير الخيال، ويشكلُ نقطة انطلاق سلسلةٍ من الصور”(7).
وفي هذه الحالة بالذات، لماذا لا يُعرض الفيلم (أو أيّ فيلم أعمى آخر)(8) على جمهور من فاقدي البصر بدون معرفتهم المُسبقة بأنه لا يحتوي على صور، ومن ثمّ إجراء دراسةٍ عن الفيلم الذي تخيّله كلّ واحدٍ منهم انطلاقاً من شريط الصوت فقط ؟ .
إن فكرة استخدام “والتر روتمان” الجانب الصوتي من الشريط السينمائي الحساس، تُؤكد نيّته بعرض الفيلم في صالةٍ سينمائية تقليدية، وقد حدث ذلك فعلاً في برلين عام 1930، وأيضاً بمُناسبة “المؤتمر الثاني للفيلم المُستقلّ في بروكسل”، وتمّ بثه إذاعياً في نفس العام، وفي عام 1994 تمّ تسجيله على اسطوانات CD صغيرة كي يتأكد، بالمُقابل، بأنه فيلمٌ صوتيّ سماعيّ.
وكما حال “برلين، سيمفونية مدينة كبيرة” في توثيقه التعبيريّ ليومٍ من حياة مدينة، يلجأ “روتمان” إلى عزل بعض العناصر الصوتية (الضجيج) من الحياة اليومية، ويُنجز عملاً صوتياً مُنظماً، مُتماسكاً، ومُتحرراً من أسبابه المادية، ويتحول الفيلم إلى تسجيلٍ صوتي لعطلة نهاية الأسبوع من حياة عامل، وذلك بتتابع مونتاج من الأصوات تُجسّد أجواء العمل (مُحاكاة محادثات تلفونية، تلاوة طفلٍ في مدرسة لنصّ، قراءة رئيس شركة لرسالة، يُصاحبها مؤثرات صوتية ميكانيكية)، ومن ثمّ أصوات تستحضرُ مزيداً من الاسترخاء(صفير، جوقات غناء، أطفالٌ سعداء، حيوانات، دقات أجراس للإشارة إلى الوقت، مواء قطة، فتح زجاجة،…).
في كتابه “المُوسيقى التجريبيّة” يقدمُ الموسيقيّ، والناقد الفرنسيّ ” Philippe Robert” فيلم “عطلة نهاية الأسبوع” توقعاً ملحوظاً لما سوف يُسمّى لاحقاً بـ “الموسيقى الملموسة”، وتمهيداً بالريادة لبعض الأفكار التي سوف يقوم بها الباحث الفرنسيّ ” Pierre Schaeffer” عشرين عاماً فيما بعد(9).
هوامش:
(1) ـ يمزجُ العنوان الألمانيّ بين “لعبة إضاءة” و”قطعة موسيقية”.
Lichtspiel: Opus I في عام 1921.
Lichtspiel: Opus II في عام 1923.
Lichtspiel: Opus III في عام 1924.
Lichtspiel: Opus IV في عام 1925.
(2) ـ http://www.universalis.fr/encyclopedie/dada/
(3) ـ “موسوعة ويكيبيديا” باللغة الفرنسية.
(4) ـ http://www.le-dadaisme.com/histoire-dadaisme.html
(5) ـ أدرجت “موسوعة ويكيبيديا” فيلم “عطلة نهاية الأسبوع” في قائمة أعمال المخرج “والتر روتمان”، بينما لم أعثر عليه في موقع “IMDb”.
(6) ـ “في الليل”(In der Nacht) فيلمٌ تسجيليّ/تجريبيّ من إنتاج ألمانيا عام 1931، 7 دقائق، أبيض وأسود.
(7) ـ من الكتيّب المُصاحب للاسطوانات المُدمجة الصادرة عن “متحف الفيلم” في ميونيخ، وهي في الأصل فقرةٌ من حواراتٍ نُشرت في قصاصاتٍ صحفية غير مُحددة التاريخ (1927-1937) مأخوذة من الأرشيف الشخصي لـ”والتر روتمان”.
(8) ـ في عام 2007 أنجز المُخرج الفرنسيّ من أصلٍ جزائريّ “سُفيان عادل” فيلماً روائياً بعنوان “الشريط” (La Cassette) بمدةٍ زمنية 20 دقيقة، و6 ثواني بدون صورة مُعتمداً فقط على حواراتٍ عائلية، وفي مُكالمةٍ هاتفية معه، تبيّن لي بأنه لم يشاهد فيلم “عطلة نهاية الأسبوع”، ولا يعرف شيئاً عن مخرجه “والتر روتمان”.
(9) ـ فيليب روبير، الموسيقى التجريبية ـ مُقتطفاتٌ عابرة من تسجيلاتٍ دلالية، دار نشر “الكلمة، والآخر”، مارسيليا، 2007، صفحة (29-31).