نواف الجناحي: مترفٌ يرفل بأقدار دامية !..
بشار إبراهيم
من الصعب اليوم، على من يريد قول شيء ما، بصدد السينما الإماراتية، خاصة، أو السينما الخليجية، عموماً، أن لا يتوقف عند التجربة السينمائية المميزة التي حفرها المخرج نواف الجناحي، بدأب وعناد وإصرار، وبموهبة تجلَّت حتى اليوم عن مجموعة من الأفلام القصيرة (هاجس 2002، على طريق 2003، أرواح 2004، مرايا الصمت 2006)، وفيلم روائي طويل أول (الدائرة 2009)، وفيلم روائي طويل ثان، قيد الإنجاز («ظلّ البحر»، الذي من المُنتظر أن نراه عام 2011).
وإذا كان القدر قد حباه بأن يكون نجلاً للفنان الراحل محمد الجناحي، على ما في هذا من ميزة كبرى لفتى خليجي، فإن القدر، مرة أخرى، لن يبخل على نواف الجناحي بحظوة أخرى، وذلك بميزة أن يكون ضمن الرعيل الأول للسينمائيين الإماراتيين الشباب، الذي انطلقوا مع مطلع العام 2000، من خلال «مسابقة أفلام من الإمارات»، ليشكلوا جميعاً، بقيادة رائدهم المبادر «مسعود أمر الله آل علي»، جوقة سينمائية، سوف تملأ الخليج العربي ضجيجاً سينمائياً، عما قليل، قبل أن تمتد بآفاقها إلى العالم العربي، الذي ادهشه هذا النبت السينمائي، الذي انكشف عن حقيقة أنه لم يكن نبتاً شيطانياً، ولا مجرد نوازع مؤقتة لثلة من شبان باحثين عن الشهرة، أو راغبين برؤية صورهم على الشاشة!.. بل تبيّن أنها مغامرة إبداعية لمّت شتاتهم من بعد تفرّق، واستطاعت حفر مسارها عميقاً ووطيداً، في دولة الإمارات بداية، ومن ثم عموم الخليج العربي، تالياً، ولا يحدها أفق!..
![]() |
المخرج الاماراتي نواف الجناحي |
وعلى الرغم من التشابهات التي وسمت البدايات، إلا أن الاختلاف والتنوع والتعدد والغنى والتمايز، سرعان ما بدأ يظهر ويتعمَّق، بين هذا السينمائي وذاك، اتكاء على طبيعة اختلاف البشر، وتفاوت المواهب، والمهارات، والإمكانيات، والثقافات، والمرجعيات، والذائقات البصرية.. كما بسبب من الاجتهاد، والدراسة، وصقل الموهبة، وتطوير التجربة.. هذه التي كان لها أن تختلف بين سينمائي وآخر، كلٌّ وفق ظروفه الفردية، وطبيعة اهتماماته..
سيبرز المخرج نواف الجناحي، منذ البدء، وسيتميز.. ومنذ أفلامه الأولى، بدا أنه يقدم طريقة أخرى في التفكير السينمائي، وفي الرؤية، والبناء!.. لن ينتقص هذا القول من تمايزات أخرى قدمها سينمائيون إمارتيون وخليجيون مبدعون. بل لعل من الحق القول إنه لو لم يكن نواف الجناحي وسط مجموعة قوية من المخرجين الشباب، ممن يقدمون طرقاً أخرى، متميزة أيضاً، في التفكير والرؤية والبناء.. لما استطاع، ربما، أن يقطع هذا الشوط الطويل، خلال سنوات معدودات، مؤثراً ومتأثراً، مفيداً ومستفيداً، من كل ممن حوله، ومتعاوناً مع غالبيتهم، كما سنرى في مجمل أفلامه.
وفي وقت يمكن للمرء أن يلتقط تأثيرات السينما العربية والعالمية، هنا وهناك، في أفلام نواف الجناحي، إلا أن الأهم في الأمر، هو أنه بقي يحافظ دائماً على انتمائه الإماراتي والخليجي، حتى وهو يخوض في التجريب تارة، وفي التأمل تارة أخرى، في أفلامه القصيرة، أو حتى عندما يبني قصة تشويق بوليسية مضمخة برؤية فلسفية، في فيلمه الروائي الطويل الأول!..
لم يُقيَّض لنا، حتى الآن، مشاهدة فيلم «هاجس»، الفيلم الأول الذي حققه نواف الجناحي عام 2002، ولكن أمكن لنا الوقوف على تجربته السينمائية التالية لهذا الفيلم، كاملةً، فضلاً عن اللقاءات المتعددة، العامة منها والشخصية، والحوارات والجلسات والأحاديث الطويلة، التي كانت تدفع بنا على الدوام للعودة، ومشاهدة أفلامه، مرة تلو أخرى، لعل يمكن لنا إعادة تنضيد الاستخلاصات والاستنتاجات التي تنبت لدن كل مشاهدة.
على طريق.. هل كان بالإمكان؟!..
![]() |
اثناء العمل على فيلم (على طريق) |
لا يمكن لمشاهد أن يمرّ عابراً بفيلم «على طريق»، المُنجز عام 2003، دون توقف متأن. هنا ثمة أربع دقائق، فقط، مقتطفة من عمر شاب في مقتبل العمر، ولكنها ستغدو عمره كله. تلك المسافة التي يقطعها هذا الشاب لا تختزل عمره، فقط، بل تختزل أعمارنا، نحن!.. «هل نبذل فعلاً ما بوسعنا؟».. يلخص المخرج نواف الجناحي فيلمه، بهذه الجملة، لنكتشف أن الفيلم يفيض عن دقائقه المعدودات، بفلسفة مضمرة؛ قاسية على بساطتها، صادمة على سلاستها، ضاجّة على سكونها.
ينهض الشاب (يؤديه نواف نفسه)، ويمضي على الطريق: يمشي، يركض، وعندما يتوقف لاهثاً، سنكتشف أنه توقف قبيل الوصول بقليل. هكذا تعمل «لو» عملها.. بل، هكذا، ربما، نقصّر عن الوصول إلى أهدافنا، ونعجز عن تحقيق أحلامنا، ونيل غاياتنا. هل هي أقدارنا، تلك التي تجعلنا نقف قبيل أمتار، أو لحظات، مما ينبغي، فنفلت ما يمكن أن يكون بين أيدينا، لو بذلنا المزيد القليل من الكثير الذي بذلنا؟..
يختار المخرج تصوير فيلمه باللونين الأبيض والأسود. أحداثه تدور في منطقة قفر. لا شيء سوى شارع لا نتبين نهايته، وشاب يبدو وحيداً، قلقاً، وربما غامضاً.. في مواجهة قدره. ترى: هل يكون ذاك الخط المستقيم المرسوم على الطريق، إلا معادل الصراط المستقيم الذي علينا أن نعبره، حتى النهاية، فننجو؟.. وهل تلك النظرة اللائبة التي يرسلها إلى السماء، قبيل النهاية الفاجعة، سوى مناجاة القوة الكلية في الكون، لعلها تساعدنا، فننجو؟.. وهل تلك النهاية التي ينهار الشاب قبيل الوصول إليها متعباً ولاهثاً، إلا سقوط البشرية جميعها في فخ التجربة، وخيبتها الفاجعة؟..
لا يفضّ الفيلم الغموض، ولا يفكك الأسرار.. ولكنه يؤشر إليها.. لن نعرف من هو هذا الفتى، وليس من أين أتى!.. ولكننا سنرى نهايته المثيرة للأسى، والحسرة، وستبقى في الحلق كلمة «لو»!..
الاشتغال على الفيلم بدا ماهراً. مقتصداً دون زيادة، أو ثرثرة. والكاميرا تعرف متى تبتعد، ومتى تقترب.. من فضاء بعيد، تنهض في أفقه أشجار نخيل وأعناب، تهبط الكاميرا إلى طريق قفر، مرسوم، ومخطط، ومحدد.. بدايته قلق وغموض، ونهايته عجز وخيبة.. والفتى تعمر ملامحه نبرات من الغموض والقلق والحيرة.. كأنما هو في امتحان يفيض عن مدى مدركاته، وإن كان لا يتجاوز قدراته.. أهذه هي علاقة الإنسان بقدره؟.. أهو القدر؟.. أم هي خيبة التجربة؟!..
أرواح
مولع نواف الجناحي بالنهايات الدامية، فإذا كان الجوهري في فيلمه «على طريق»، هي تلك العلاقة الملتبسة والغامضة مع النهاية؛ نهاية الطريق، التي ترتفع عندها الراية، راية الحلم، الهدف، الأمل، التحقق والجدوى والمصير.. فإنه يرصد فيلمه القصير التالي؛ «أرواح» المُنجز عام 2004، للنهايات أيضاً: كلمة وطلقة، وتأتي النهاية.. لا شيء أكثر من ذلك، ظاهرياً. ولكن ماذا لو غصنا عميقاً، وراء خشبة المسرح تلك، منصة الاعتراف، أو البوح، أو القول، التي تتحول إلى منصة إعدام؟.. ما لو بحثنا عن هويات تلك الشخصيات التي تتوالى الظهور أمامنا، لتنطق كلمة، أو اثنتين، فقط، فتتردى صريعة؟.. ما معنى هذه النهايات؟..
يفيض الأمر عن أن يكون مجرد امتحان، أو استجواب، ليغدو جملة من العلامات الدالة على ما هو متوارٍ خلف ما نرى. الشاب الأول، يقول: «السلام عليكم»، فتأتيه الطلقة، ويتردى، بقوة فاجعة. الفتاة التالية، تقول: «مرحبا»، لتلاقي المصير نفسه. الرجل الثالث ينطق بكلمة «هالو»، فتسنح له الفرصة للبقاء، والجلوس على الكرسي الوحيد، متفاجئاً ومتسائلاً.. ربما ريثما يأتي القرار بشأنه.. الأخيرة هي طفلة في مقتبل العمر، لا تنطق بشيء، وآن تجلس على الكرسي ذاته، يدهمنا إظلام تام، ويتردد في مسامعنا صوت الطلقة.
هل يحذرنا المخرج نواف الجناحي مما ينتظرنا؟.. أخائف هو علينا من محاولات، الاستجواب، أو الاستلاب، التي تترصدنا؟.. هل نحن بين قدرين، أحلاهما مرّ، ونهايتيهما موت، بالطلقة ذاتها؟.. هل نحن أمام النهاية الدامية ذاتها، مهما قلنا وفعلنا؟..
ربما يذهب البعض إلى حدّ اعتبار الفيلم تحذيراً من العولمة، وما تحمله من غزو واستلاب وطغيان، يطيح بالهوية والوجود والمستقبل.. وربما يتوقف آخرون عند حافة التحذير من الانخلاع الجاري عن اللغة العربية، التي هي تفصيل هام جداً من تفاصيل الهوية، والتنبيه من مخاطر ما سيجري، إثر ذاك.. وينبئنا بالتالي الخوف على المستقبل الذي تترصده هذه التهديدات القاتلة!..
ومع هذا، فإن الفيلم الذي بدا خطوة أخرى في مسيرة المخرج نواف الجناحي، بقي معلقاً، مفتوحاً على التأويلات جميعها. وإن بدا فيلم «على طريق» محكم البنية، مغلقها، فإن فيلم «أرواح» شاء أن يكون مفتوح البنية، يمكن أن تضيف إليها قدر ما تشاء من تنوع الشخصيات، أو أن تحذفها، إذ تقوم بنيته على تتابع مفتوح، لا نهائي!.. وربما لهذا السبب سيستمر صوت الطلقات يتردد في مسامعنا إلى ما لا نهاية. وسنرى لقطة ليست زائدة أبداً، ترينا المزيد من الأقدام المنتظرة، بخوف وقلق.. فما زال ثمة المزيد، ممن ينتظر مصيره!..
![]() |
من فيلم مرايا الصمت |
مرايا الصمت
مع فيلمه «مرايا الصمت»، المُنجز عام 2006، يمضي المخرج نواف الجناحي، نحو واحدة من الحالات السينمائية الصافية، التي ستأخذ مكانتها في السينما الإماراتية، أولاً، والسينما الخليجية، تالياً، بل والسينما العربية، أيضاً، بما أُتيح لهذا الفيلم من مشاهدات واسعة، ومشاركات متعددة، في مهرجانات متخصصة، ومستقلة، داخل الوطن العربي، وخارجه.. من جهة أولى. ومن جهة أخرى، بالطريقة التي شاء بها تناول موضوع، ليس جديداً على السينما أبداً؛ موضوع الوحدة والاغتراب والتيشؤ، في مجتمع صادٍّ لأفراده، دافعهم إلى القوقعة داخل الذات، منكفئين، متوحدين، مستوحشين.. بشكل جعل من الفيلم حالة سينمائية خاصة، و«سينما خالصة»، كما قال السينمائي المصري العتيق صبحي شفيق. (راجع موقع المخرج).
لا أدري، إلى أي مدىً يتحدث نواف الجناحي عن نفسه؛ عن تجربة شخصية، أو عن إحساس يغمره الآن، أو غمره، ذات وقت!.. ولكنه، في الأحوال كلها، يبدو متسقاً في انتقالاته وهواجسه ومغامرته السينمائية والفكرية، بدءاً من الخوض في شائك علاقة الإنسان بقدره، في «على الطريق»، إلى غموض علاقة الإنسان مع الآخر في «أرواح»، وصولاً إلى إشكالية علاقته مع مجتمعه هنا؛ في فيلم «مرايا الصمت»، الذي يمكن الانتهاء إلى أنه مرثية سينمائية بديعة للفرد المنقطع عن عالمه، والعالم المنكفئ على نفسه، المنقطع عن أفراده!..
«مرايا الصمت»: فيلم روائي قصير؛ (مدته 16 دقيقة)، يمزج السينما بالشعر، بالتشكيل، بالفوتوغرافيا، الممزوجة جميعها بالموسيقى والمؤثرات الصوتية، كما بالصمت، ليخلص إلى تلك الحالة السينمائية التي جعلت منه فيلماً يحظى بشهرة لدى المهتمين والمتابعين، وقدمت المخرج نواف الجناحي، في إطار أوسع، بصورة لائقة؛ مخرجاً يتمتع بحساسية سينمائية رائقة، وروح مرهفة، كما ظهر هو نفسه في الفيلم ممثلاً بأداء متوازن، لا نغالي إن قلنا إنه يذكرنا بكبار في السينما العربية والعالمية، على السواء.
يأخذ فيلم «مرايا الصمت»، مساراً فنياً خاصاً، ليتحدث عن شاب يعيش حالة صادمة من العزلة والغربة والوحدة، على الرغم من أنه فنان مسرحي ناجح!.. يستخدم الفيلم ثنائية النور والعتمة، الضوء والظل.. واللقطات ذات الدلالة، ليبني مقولته.. تناثرات مشهدية تمتلك منطقها الداخلي: عيون تتطلع بأمل ربما إلى شيء ما.. تنتظره، ولا يجيء.. هاتف، ولا من مجيب.. نداء، لا يصل إلى الآخر.. الشوارع خلت من مارّتها، ومحت أثر الخطوات عن أرصفتها.. عواء الهواء في فراغ الطرق.. مدماك آخر ينبني في جدار العزلة.. والفتى يبدو منقطعاً عمن حوله في مقهى مع فنجان وحيد.. إطلالة من بعيد على عالم حافل بالصخب والازدحام، دون أن يقدر على خدش صمته الداخلي.. نصل سكين لامع، لا ندري فيما يفكر.. هل بقطع قالب حلوى الميلاد، أم..؟.. كأس نبيذ أعزل..
ملامح شمعية، تتشقق عن ابتسامة متهالكة.. وفي العرض المسرحي، يعمد الفيلم إلى استخدام اللقطات الثابتة، كما البوسترات، أو الصور الفوتوغرافية المعبرة.. وعلى الرغم من التصفيق، والنجاح الجماهيري، ننتهي به جالساً على رصيف العزلة.
ربما يبدو، ومنذ البداية، ضرورة التنويه إلى أهمية التعاون، على مستوى الموسيقى والمؤثرات الصوتية، مع الماهر «طه العجمي»، الذي أضفى الشيء الكثير على الفيلم، خاصة وأن شريط الصوت أتى متناغماً ومنسجماً مع شريط الصورة (تصوير: خالد المحمود، وإضاءة: أحمد حسن أحمد)، ومعززاً له، خاصة وأن الفيلم يقوم على حالات بصرية خالصة، تتولى مهمة التعبير، مع افتقاد الكلام، وغياب الحوار، وبالاعتماد على التحكم بالإداء التعبيري (بأداء نواف نفسه)، وبالتالي، فما كان للفيلم أن ينجح لولا هذا التناغم والانسجام والتكامل بين المستويين الصوتي والبصري، معاً، وفي آن واحد.
«مرايا الصمت»، فيلم ذروة لمخرج إماراتي شاب، ولمخرج خليجي عربي، يطمح إلى ما أوسع وأبعد وأعمق من مجرد سرد حكاية، وقول قصة، وتقديم رؤية.. إنه حالة سينما صافية، ليس من المغالاة القول إنها تنهض إلى الرقيّ، على الأقل من خلال اتكائها على لغة الصورة وقولها ودلالاتها، وقدرتها على التعبير عن أبرع الحالات الإنسانية.