حبر الجراحين : الإنسان بنيان الله
فجر يعقوب
بدت الحلقة الخاصة ب ( حبر الجراحين ) ، أبو القاسم الزهراوي – 936 م – 1013 م – والتي بثت أخيرا في سلسلة ( علماء مسلمون ) بإنتاج من الجزيرة الوثائقية مخصصة لشهر رمضان المبارك على درجة عالية من التماسك الدرامي النافع ، وهي كذلك لجمعها بين مشاهد تمثيلية منفذة بحرفية تتيح لنا تخيل بعض أهم اللحظات الخاصة بحياة هذا العالم الجليل ، وبين أحاديث الضيوف العارفة بعلمه وأحواله من دون أن تخلق شعورا بالملل والرتابة ، وهذا أمر يسجل لمخرج هذه الحلقة شريف المغازي الذي بدا متمكنا من أدواته ، ولمن لعب دور الزهراوي في المشاهد المتخيلة وقد جاء مقنعا تماما .
ولد أبو القاسم الزهراوي في الزهراء القريبة من قرطبة في الأندلس ، وهو ينتهي في نسبه إلى الأنصاري. وكان طوال حياته زاهدا عبقريا يحمل مشعلا بيد طولى لاتستجدي عطاء مخلوق في مصنف جامع يحوي أسرار مهنة الطب جاء بعنوان ( كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف ) ، وذلك لكثرة تصرفه بين يدي الطبيب بغية ايجاد جميع الصفات التي يبحث عنها في شؤون مهنته ، وهو تصريف تمّ بحسب الزهراوي عبر ” كل ماجربته واستحسنته من عمري منذ ستين سنة “.
يمكن القول إن ولادة ونشأة الزهراوي في الزهراء جاءت وقت كان في قرطبة حينها أكثر من خمسين مستشفى وسبعين مكتبة ، وهو ما يعبر عنه الدكتور يحيى الخراط بقوله :” إن الطب في الأندلس ازدهر مع ازدهار المجتمع الأندلسي “. بكلام آخر يعبر عنه الدكتور عادل عمران بقوله :” إن طليطلة كانت مركزا هاما لنقل وترجمة الكتب اللاتينية “. بهذا المعنى ، فإن الزهراوي كان عالما موسوعيا يؤلف في علاج الأسنان واستئصال الأورام ، وبعبارة أخرى كان علمه الأشد هو الجراحة “. يجيء كلام أستاذ الجراحة في جامعة القاهرة الدكتور نبيل الطباخ ليضيء نقطة على غاية الأهمية ، فالزهراوي كان ” يصف الأورام ويقول إن بعضها يمكن أن يشفى من خلال الجراحة والاستئصال إذا كان مطرح القطع غير مصاب ، أي ما يعرف بالحواف السليمة وقت لم يكن هناك ميكروسكوبات ، وهذا يعتبر في الحقيقة بمثابة إعجاز علمي معمول به في يومنا هذا ، بعكس ما إذا كان الورم منتشرا وبالتالي لايمكن علاجه “. ويحسب للزهراوي في هذا المجال استخدام أدوات خاصة لكيّ بعض الأورام في أمكنتها ، وكل أداة بحسب طبيعة الورم ، وقد أخذ عليه البعض اسرافه في استخدام الكيّ في علاج أمراض كثيرة مثل مانخوليا والناسور ” وهو كان صاحب نظرية ” بعد وقوع الكيّ لايمكن استخدام الأدوية “. ولكن هذا لايعتبر مأخذا عليه ، ذلك إن علم الزهراوي جمع كل شيء ، فتشريح جسم الإنسان ، ثم وصف الأمراض التي تصيب عضوا فيه ، ثم إتيانه بالأدوية ، ووصفه للصيدليات ، وتحضير الأقراص الدوائية ، واستعمالها من خلال صنع قوالب من الخشب ، ووضع ميزة لكل واحد منها ليتم الاستخدام من دون حدوث خلط أو اختلاطات كان أساس علمه ف” لكل نبات عمر اذا حفظ بشكل صحيح وبعد مدة لايمكن استعماله “. والزهراوي أول من أشار إلى الأدوية البسيطة والمركبة وهو من أوصى بعدم استخدامها بعد انقضاء فترة محددة.
لم يؤلف الزهراوي سوى كتاب واحد مؤلف من ثلاثين مقالة في علم الجراحة ، وأشهر مقالاته تلك التي تحمل الرقم 30 . وقد اختلف الذين أرخّوا لعلمه حول ما إذا كان قد ألّف كتابا واحدا بالفعل ، أم أن هناك كتبا أخرى ، ولكن الكتاب فيه مقالات خصصت للمصطلحات الطبية ومقالات خصصت للأدوية بلغات عدة مختلفة . أما التصنيف الأكثر تطورا في عصره ، فكان ذلك التصنيف الخاص بأدوات الجراحة ، فلكل أداة أشكال وأحجام مختلفة . ولا يغيب عن أذهان المتكلمين إن الغرب أولى اهتماما كبيرا بالمقالة الثلاثون ، لأن العصر الذي كتب فيه الزهراوي كتابه لم يكن هناك كتاب واحد عن الجراحة . وتجيء إعادة تمثيل مشاهد ذلك الشاب الذي رشق بسهم في بطنه لتقدم ذروة المشاهد الدرامية الخاصة بهذه الحلقة ، فبعد إدخاله لغرفة الجراحة الخاصة بالزهراوي سوف يكتشف المشاهد أن تصور ( حبر الجراحين ) لهذه الغرفة لا يختلف كثيرا عن التصور الحالي في عصرنا هذا والمتميزة بالتكنولوجيات المعقدة . فالأدوات المستخدمة حينها في الجراحة كانت من اختراعه هو ، ولم يتم العثور في كل الكتب التي عنت بالجراحة قبل الزهراوي لأي رسم لمبضع أو مشرط . وهو أول من وصف مئات العمليات والأدوات الجراحية التي استعملها . كان عالما تطبيقيا وليس نظريا فقط ، وهذه ميزة هامة يقول عنها البروفيسور الفرنسي غوستاف لوبو في كتابه ( حضارة العرب ) إن علم الجراحة مدين للعرب ، ” وليس هناك أفضل من التدليل على علم الزهراوي في هذا المجال “. وماإن ترجم كتابه إلى اللاتينية ومنها إلى لغات أخرى كثيرة حتى عرف العالم أن هناك فنونا كثيرة لعلم الجراحة تصنف تحت اسم جراحة بعد أن كانت تسمى مهنة العمل باليد . وقد أقبل الغرب على ترجمة هذه المقالة أولا ، ثم شعر علماؤه بوجود مقالات هامة غير تلك التي تعنى بالجراحة ، وهي التي تحمل الرقمين 28 و 29 التي كانت ” تختص بحرق الأحجار وتحضير الأدوية المعدنية “.
![]() |
يمكن القول إن اختلاف الأدوات التي صنعها الزهراوي في عصره عن آلات اليوم هي اختلاف محض في طبيعة التكنولوجيا المستخدمة لجهة كيفية استخدام خامات جديدة للتصنيع . وقد كان الزهراوي رائدا في مجال الملاحظة السريرية ، وهو كان يحرص على تفقد أحوال المرضى ، وساعده منهجه الدقيق في تطوير أساليبه يوما بعد يوم حتى كرّس قيمة أخلاقية تقول إن ” آلام الطبيب يجب أن تكون أشد من آلام مريضه لكي يحظى بشرف امتهان الطب “. وهذه كانت عقيدة أبو القاسم الزهراوي باعتبار أن ” الإنسان بنيان الله ” غير مبال بعرق أو عقيدة في ظل تعايش كان يطمح فيما يطمح إلى ذروة ازدهار الأندلس ، وربما هذا مادفع المخرج المغازي ليبين في مشاهد اخراج السهم من بطن الشاب الصليب من عدة زوايا ليؤكد على عقيدة الزهراوي الطبية الحاضنة للعلم والعقل ، وإلى أن الأندلس حاضنة للتسامح بغية استكمال هذه الذروة الكبرى في الازدهار “.
حبر الجراحين خلف بن عباس الزهراوي ( أبو القاسم ) ليس مجرد دراما وثائقية عن عالم كبير من كبار رجالات القرن الرابع الهجري ، بل درس في فهم كنه ( الإنسان بنيان الله) ، وهذه حلقة تحسب لصاحبة الفكرة والاشراف العام على السلسلة دينا أبو زيد ، ولمحطة الجزيرة الوثائقية التي عملت على انتاجها .