“العبور” لبيل فيولا : شظايا عن االحياة والموت
صلاح سرميني ـ باريس
“نادراً، أو بالأحرى أبداً، لم يكن فيلم فيديو حُلمياً في أجوائه إلى هذا الحدّ، شعريّاً في لغته، وقوياً في تأثيره العاطفي” ـ Steven Bodeـ
***
تطمحُ هذه القراءة التمهيدية، بأن لا يظلّ الفنان الأمريكيّ “Bill Viola” مجهولاً في الثقافة السينمائية العربية، وأن لا تقتصر الكتابة فقط حول السينما السائدة الخاضعة لدورات التوزيع التقليدية.
حيث يزخرُ الإنتاج السينمائيّ، والفيديويّ المُوازيّ بتجارب مُغايرة، واتجاهاتٍ سينمائية مجهولة، أو منسيّة.
وتنطلقُ هذه الإضاءة من الرغبة بتوسيع إدراكنا للصورة السينمائية/الفيديوية، وإظهار تنوّع أشكالها، ومُمارساتها، من الأشرطة القصيرة المُكوّنة من لقطاتٍ مُنفردة سجلها “الأخوين لوميير” في بدايات اكتشاف “السينماتوغراف”، وحتى الأفلام الأكثر تداخلاً في بنيّتها الدرامية، والسينمائية، مروراً ببورتريهات “جيرار كوران”، اليوميات الفيلميّة لـ”جوزيف موردر”، الفيلم الصوتيّ الأعمى لـ”والتر روتمان”، الفيلم الكتاب لـ”غي ديبور”، الأفلام المخرومة، والمحروقة لـ”فريديريك دوفو”، الأفلام الفوضوية لـ”بيير ميريجكوفسكي”، بدون نسيان الأشكال التجريدية لـ”هانز ريشتر”، والأحلام المُتبادلة بين “لويّ بونويل”، و”سلفادور دالي”،….
تتوزّع إبداعات “بيل فيولا” بين الأفلام الفيديوية، والإنشاءات السمعيّة/البصرية، وفي الحالتين، يسعى إلى استخلاص إمكانيات الصورة في كلّ أشكالها مُستوحياً من اللوحات الأيقونية للميثولوجيا الدينية.
يكشفُ ” The Passing/العبور” (55 دقيقة، 1991) عن اهتمامه بتيماتٍ سوف تتكررُ لاحقاً بتنويعاتٍ مختلفة : الولادة، الموت، عناصر الطبيعة، الماء، الأرض،.. كما هوسه بالنوم (الموت المُؤقت) مصدر وحيٍّ ينهلُ منه أحلامه، وكوابيسه صوراً مُشتتة يُرتبها مونتاجياًَ قصصاً، وحكاياتٍ مُتشظيّة، قلقة، ومُضطربة بما يكفي، مع اختيار الأبيض، والأسود للاستغراق في الحنين، والحزن، تضعنا تبايناتها الرمادية في أجواء مُتخيلة، والصورة هي الوحيدة من بين كلّ الفنون القادرة على تجسيّد عالم يفتقدُ الألوان .
![]() |
بيل فيولا |
يستمدّ “العبور” مادته من المشاعر الداخلية، اللاوعيّ، الرؤى الذهنية،.. حالة ذاتية لن تتحوّل إلى سيرةٍ شخصية، وترتكزُ تجريبية الفيلم على لقطاتٍ تمثيلية، وتسجيلية، ومع أنّ الأحلام لا تعرف زماناً، ومكاناً مُحددين، لا تستطيع الصورة السينمائية، أو الفيديوية الهروب منهما.
الزمان ليلةٌ هادئة، لا تكشف الصورة عن تفاصيلها بسهولة، مرقطةً بنقاطٍ مُضيئة في عتمتها، حتى وإن ابتعدت الكاميرا عنها، تبقى مُحتفظة بأشكالها التجريدية، لقطة لاحقة تكشفُ عن عينٍ، وملامح وجهٍ يستلقي على جانبه، ويمتزجُ في شريط الصوت صفير حشراتٍ ليلية، ونباح كلابٍ مع شهيقٍ، وزفير شخصاً يستسلمُ للنوم، حالما تكتسبُ اللقطات بعض الإضاءة، وتكشف عن صورةٍ أثيرية.
تتوزع حبيباتٌ بيضاءٌ في مساحة الصورة، وجهٌ غامضٌ، اللقطات بطيئة في حركتها، وبتسارعها قليلاً، تتضح الخطوط، والأشكال أكثر، وتكشفُ تدريجياً عن ملامح شخص يتحركُ في فضاءٍ مُعتم، يفتقدُ الجاذبية بتأثيرات الحركة البطيئة إلى أقصى حدّ، غارقٌ في مياه تحوّلت فقاعاتها إلى نجومٍ مُتلألئة .
لقطة بعد أخرى، يستدرجُ “بول فيولا” المتفرج، ويُشركه في حالةٍ حلميّة تتجسّد في صورٍ هلامية، ينقلنا السرد المُونتاجي إلى لقطةٍ نهارية واضحة تماماً، وفيها يخرجُ طفلٌ من مياه البحر، مجازياً، لسنا بعيدين عن فكرة الولادة، والحياة، ولكننا، بالآن ذاته، قريبين من الموت.
منذ لحظة “العبور” الأولى تلك، يمنحُ “بيل فيولا” إضاءةً كافية لصوره، يكشفُ عن بعض تفاصيلها، ويستعرضُ أرضاً مُتخيّلة تبدو فيها خيالات النباتات مثل غيومٍ في سماءٍ مُلبدة.
ومع تلك الحركة المُفاجئة المُرافقة لصورةٍ واحدة بيضاء(أو اثنتيّن)، يتبعها بعض الصور السوداء، نفهمُ تماماً تقنيات البناء الدراميّ، والسينمائي الذي تخيّره.
بين حلم، وآخر، هناك فترة زمنية تشغلها شاشة سوداء، خلالها، تتوقف أحلام النائم المُغمض العينين، ولا يتركنا “فيولا” نشاهده إلاّ من وقتٍ إلى آخر.
الشهيق، والزفير قاسمٌ صوتيّ مُشتركٌ لمُعظم اللقطات، الرجل قلقٌ في نومه، ينامُ، ويستيقظُ لبعض اللحظات، بالضبط كما يحدث لأيّ شخصٍ في مكانه، يتقلبُ في سريره، ويظهر الحلم من جديد، صورٌ غير واضحة، حبيبّات فضيّة، هديرٌ متواصلٌ في أعماق المياه، وجه طفل حديث الولادة، تتضحُ ملامح الشخص الغارق في المياه أكثر فأكثر، كما نتعرّف على الشخص النائم في لقطةٍ متوسطة أكثر إضاءة من سابقاتها، تتلاحقُ اللقطات، نفقٌ مظلم، يتقدمُ الطفل نحو أبويه، يظهرُ المخرج نفسه في لقطةٍ اعتراضية، شظايا أحلام، يبدأ “فيولا” بالكشف عن مصادر البقع الضوئية التي يضعها في مركز الاهتمام، لهب شمعة، مصابيح قطار، أو سياراتٍ عابرة.
يتوضح وجه النائم أكثر فأكثر، إنه المخرج نفسه “بيل فيولا”، وبعد كلّ لحظة استيقاظٍ مُؤقتة، يعقبها شاشةٌ سوداء بانتظار شظايا أخرى من نفس الحلم، أو من واحدٍ آخر.
![]() |
مونتاجياً، تتكررُ الصور نفسها بتنويعاتٍ مختلفة، وفي كلّ مرة يكشفُ عن تفاصيل إضافية جديدة تُكمّل، أو تكشفُ عن معلومةٍ بصرية، أو صوتيةٍ سابقة مختفية، أو مقصيّة عمداً، كان وجه الطفل المولود حديثاً بداية لقطة تعرفنا على محتواها عندما ابتعدت الكاميرا عنه حتى لقطة عامة كشفت المكان، والشخصيات التي تشغله، الطفل في حضن أمه بعد الولادة مباشرةً، ويدان تغطيانه بغطاءٍ أبيض، بينما تظهر اللقطة التالية شخصاً يتهادى في المياه بحركةٍ بطيئة جداً، يحاول التخلص من غطاءٍ أبيض يلتفُ حوله، في اللقطة اللاحقة غطاء أبيض آخر يغطي جسد رجلٍ فارق الحياة.
يتلاعبُ “بيل فيولا” باللقطات، وينزعُ عنها صبغتها التسجيلية لصالح بناء تجريبيّ يُقرّبها من الأجواء الحلمية، حمامةٌ بيضاء تستريحُ في أحد أركان أماكن مهجورة غارقة في المياه، والوحل، هي على الأرجح مُخلفات كارثة طبيعية حقيقية، ويعود إلى الشخص الغارق، إنه كابوسٌ أكثر منه حلماً يُجبر الشخص النائم(المخرج) على الاستيقاظ بين فترة، وأخرى.
ينتقلُ الفيلم من الحالة المائية التي تتضمّنها عناصر الصورة، إلى حالةٍ ترابيّة سوف تُسيطر على أجواء الفيلم.
تشكيلياً، تتشابهُ تضاريس الجبال التي تُظهرها الصور مع تجاعيد وجه عجوزٍ يودعُ اللحظات الأخيرة من الحياة، عيناه غائرتان في مُقلتيه، ربما يحلمُ ـ بدوره ـ بطبيعةٍ داكنة أقرب إلى الإظلام، فروع الأشجار تغطي السماء في عمق الصورة، يتوه الشخص النائم/المُخرج في الطبيعة الداكنة، يتقدم الطفل الصغير مُتعثراً على رمال الشاطئ، ويتجه نحو مكانٍ لم نستشعره بعد.
هناك خلطٌ متعمدٌ بين اللقطات المُعبّرة عن وجهة نظر الطفل بجانب البحر، وتلك الخاصة بالمخرج في مناطق جبلية صخرية يتبع خياله المُنعكس على أرضٍ صلبة، بدورها، حركة الكاميرا مضطربة، يبدو بأنه ربطها في جسده كي يتوّحد معها، ولهذا، لا يستطيع السيطرة عليها، حتى أنه، صدفة، أو عمداً، يقعُ على الأرض، وتتوقف الكاميرا عن الدوران، شاشةٌ سوداء.
عندما يصل الفيلم إلى منتصفه تقريباً، يكشفُ تماماً عن تيمته الرئيسية التي يحوم حولها مند البداية، يستيقظُ “بيل فيولا” من نومه، يُضئ مصباحاً بجانبه، يشربُ جرعة ماء، يبدو فعلاً بأنه ربط الكاميرا في مكان ما من جسده، يُطفئ المصباح، يعود إلى النوم، وتظهر أحلامه من جديد، وفي تلك اللحظة بالذات، يحتفظُ المونتاج لفترةٍ أطول بوجه امرأة شابة ظهرت بسرعةٍ خاطفة في بداية الفيلم، هل هي بدورها في عالم الأموات؟، تتشابكُ لقطات الحياة مع الموت، يخرجُ الطفل من البحر، يغرقُ المخرج في المياه، ومن ثم تنتقل الكاميرا إلى العجوز يتنفسُ بطريقةٍ اصطناعية عن طريق جهاز يلتصقُ بصدره(تماماً كما نتخيل الكاميرا ملتصقة بجسد المخرج)، وتتكرر شظايا الأحلام المُتشابكة، المُتعانقة، والمُتصارعة، تبدو الأشجار في الليل مثل أشكال شبحية، تبايناتها الرمادية أقرب إلى صورةٍ سالبة بالأبيض، والأسود.
![]() |
جثث سياراتٍ عابرة تمنحُ بعض الإضاءة المُتقطعة، وكأنها تُضيئ اللحظات الأخيرة من حياة هذا العجوز في نهاية طريقٍ طويل، أو بدايته.
تبدو النقاط المُضيئة مثل أطباقٍ فضائية تعبر فضاء الصورة، وتُضيئ عتمتها بتوتراتٍ مختلفة، تقترن مونتاجيّاً مع إضاءة شمعة تمسكها سيدة (والدة المخرج رُبما).
يخرجُ “بيل فيولا” إلى المدينة ليلاً، ويتجول فيها بسيارته، لقد غيرت أحلامه من طبيعتها، فهو ما يزال يحاول الاستغراق في النوم.
وما بين أبنية راسخة (الحاضر)، وأخرى مُتهدمة (الماضي)، تعبرُ الكاميرا باب إحداها، وتكشفُ عن منزلٍ واسع تتوزعُ صورٌ عائلية في زواياه، وعلى جدرانه، ولكنه ليس بيتاً مهجوراً، حيث تقودنا الحركة البانورامية للكاميرا إلى سرير الرجل العجوز، وبجانبه شخصاً ما يجلس على حافته، يستخدم المونتاج المساحات السوداء كي ينتقل من لقطةٍ إلى أخرى مُوحياً باستمرارية الحركة، واختلاط الأزمنة، والأمكنة.
في هذا المشهد الختاميّ، يركضُ الطفل من غرفةٍ إلى أخرى، وفي أكثر اللقطات تعبيراً، يمتلئُ المنزل بالمياه في حركةٍ بطيئة، ويصعدُ جسدٌ نحو الأعلى (خارج إطار الصورة) إلى السماء في لقطةٍ مُعاكسة للسقوط.
يمنحُ المونتاج فترةً زمنيةً أطول لتلك اللقطة العامة التي تُظهر العجوز في سريره، لقد فارق الحياة، تتحطمُ طاولة تلقائياً، ويقع ما عليها على الأرض في حركةٍ بطيئة، تغرقُ محتويات البيت في مياهٍ تتدفقُ من حلم آخر، لقد اختلطت الأحلام مع بعضها، يرتاح العجوز في تابوت أثير، وبالقرب منه أطفال يبدو بأنهم لا يعون ما يحدث، يتطلعون بفضولٍ طفوليّ إلى صورةٍ موضوعة على طاولةٍ صغيرة، اللقطة الأخيرة واضحة، ودالةٌ بما يكفي، يستقرُّ جسدٌ في أرضية البحر، “بيل فيولا” غارقٌ في النوم، أو الموت.
***
“المكان الحقيقيّ الذي يتواجدُ فيه الفيلم، ليس على الشاشة، أو بين الجدران، ولكن في عقل، وقلب الشخص الذي شاهده” ـ Bill Viola ـ