أوليفر ستون يكتشف أمريكا اللاتينية عبر الوثائقي

أمير العمري

في تقليد أصبح مستقرا، يتمثل في عرض الأفلام الوثائقية الطويلة في دور العرض التجارية، يعض حاليا الفيلم الوثائقي الطويل “جنوب الحدود” South of the Border للمخرج الأمريكي أوليفر ستون (في العاصمة البريطانية لندن.
في هذا الفيلم يخوض أوليفر ستون مغامرة جديدة من مغامراته المثيرة للجدل، حينما يواصل منهجه في السباحة ضد التيار السائد، ضد الإعلام الأمريكي وما يروجه من معلومات خاطئة وما يعكسه من مواقف موالية بالكامل لنظرة الإدارة الأمريكية التقليدية بل وضد موقف ورؤية وكالات الاستخبارات الأمريكية من بلدان أمريكا اللاتينية، التي تتناقض في مواقفها السياسية مع رغبة واشنطن في فرض الهيمنة عليها.
على رأس تلك البلدان فنزويلا في عهد رئيسها الممتليء بالحيوية والنشاط والذي يتحلى أيضا بشجاعة كبيرة: هوجو شافيز.
يتجول ستون، في عدد من بلدان القارة الجنوبية، فيذهب إلى فنزويلا حيث يلتقي بشافيز، ثم إلى الأرجنتين فيقابل الرئيس السابق نيستور كيرشنر والرئيسة الحالية (زوجته) كريستينا كيرشنر، وإلى بوليفيا لكي يلتقي بأول رئيس في أمريكا اللاتينية من السكان الأصليين (يطلقون عليهم خطأ الهنود الحمر) وهو الرئيس إيفو موراليس، ثم إلى البرازيل والرئيس لولا دا سيلفا، وباراجواي والرئيس فرناندو لوجو، وأخيرا إلى كوبا ورئيسها راؤول كاسترو.
يستخدم ستون المادة الوثائقية المصورة التي يظهر فيها بنفسه، يدير الحوارات أمام الكاميرا، ويطرح الكثير من التساؤلات من وجهة نظر الأمريكي “العادي” لكنه لا يحاول بالطبع ادخال الرأي الآخر، المناقض لآراء زعماء بلدان أمريكا اللاتينية، بل ويستثني رئيس كولومبيا المؤيد تماما للسياسة الأمريكية والذي تخوض بلاده حربا ضد جماعات الثوار منذ سنوات، والسبب بسيط، لأن هذا الرأي أو تلك الوجهة الأخرى، معروفة ومألوفة وشائعة، ويعرفها جميع الأمريكيين، بل والرأي العام في العالم من خلال أجهزة الإعلام السائدة مثل قناة سي إن إن التليفزيونية وغيرها، وهي تتلخص في إدانة هذه البلدان والحكم عليها بانتهاك حقوق الإنسان (التي يقول لنا الفيلم إنها أصبحت التهمة الجديدة بعد تهمة الديكتاتورية التي توجهها الإدارة الأامريكية إلى البلدان المخالفة والمتمردة على طاعتها).
ويسخر الفيلم من اتهام شافيز بالديكتاتورية، وتقول رئيسة الأرجنتين إنها لا تعرف بلدا في العالم أجريت فيه الانتخابات الديمقراطية 17 مرة في سنوات معدودة كما حدث في فنزويلا. ويؤكد الفيلم أن جميع الرؤساء الذين يحاورهم ستون جاءوا إلى الحكم عن طريق الانتخابات، بل إنهم رفضوا دائما التصدي للعنف بالعنف، ويصور احترامهم لحق الإضراب والتظاهر في كل الظروف، باستثناء كوبا التي تنهج نهجا مختلفا، حيث تحظر فيها مظاهرات الاحتجاج كما هو معروف، إلا أن الفيلم يصور كيف يحظى النظام السياسي في كوبا بشعبية كبيرة من جانب الطبقات الكادحة، أي الأغلبية.

ستون مع تشافيز وخلفهما الكاميرا

والمدهش أن الفيلم يكشف لنا كيف أن هذه البلدان كلها، في عصر العولمة، وبعد اختفاء المنظومة السوفيتية من الوجود، انتفضت كلها وأعلنت تمردها على رغبة واشنطن في الهيمنة، وقاومت شروط البنك الدولي الذي توجهه الإدارة الأمريكية لمصالحها كما يقول الفيلم، كما رفضت الانصياع للشروط التي يحاول فرضها على دول العالم الثالث لإقراضها، وهي شروط قاسية تؤدي أحيانا إلى كوارث اجتماعية وسياسية، ولكن دون أن تنهار كما يذاع علينا يوميا، ودون أن تشتعل فيها الانقلابات والثورات.
ويتوقف الفيلم امام حقيقة أنه في المرة الأولى في تاريخ قارة أمريكا اللاتينية، كيف حدث تقارب غير مسبوق بين الحكام والمحكومين في بلدان تلك القارة التي كانت الولايات المتحدة تعتبرها “الحديقة الخلفية” لها، وأصبحت برامج الإصلاح الحقيقية توجه لمصلحة الناس وليس لمصلحة البنك الدولي والاحتكارات الأمريكية.
ويركز الفيلم بدرجة كبيرة، على تجربة شافيز في فنزويلا، وهي من أغنى الدول بالنفط، وكيف تآمرت عليه الولايات المتحدة وأرادت الاطاحة به في انقلاب سرعان من انعكس لصالحه، وكيف تمكن من الصمود وتحويل بلاده من دولة تستورد كل قمحها من الخارج إلى دولة مصدرة، وكيف وفرت الدول التعليم والصحة لفئات كانت محرومة تماما منها.
ولعل من الجوانب المهمة التي يكشف عنها الفيلم من خلال الحوارات المكثفة مع زعماء البلدان التي اشرنا إليها، هو كيف تتضامن هذه الدول معا، في مواجهة القوة الأكبر في العالم، متحدة بموقف موحد ورأي واحد، لا تسعى للصدام بل لاحترام استقلاليتها وتوجهها المختلف.
صحيح أن هذا الفيلم من الأفلام التليفزيونية المصورة بكاميرا الديجيتال الصغيرة، وصحيح أنه يعتمد على الحوارات بشكل أساسي، لكنه يتمتع بقدر كبير من الحيوية، والجمال الداخلي، الذي يشع من مشاهد كثيرة مثل المشهد الذي يلعب فيه ستون مع رئيس بوليفيا الكرة، أو عندما يشرح رئيس باراجواي الشاب في حماسة وسخرية، كيف أنه رد على رفض الأمريكيين سحب قاعدتهم العسكرية من بلاده بأنه سيوافق على وجودها في حالة موافقتهم على وجود قاعدة لبلاده على الأراضي الأمريكية!.
ويكشف الفيلم، من خلال ما يدور من حوارات، عما يتمتع به هؤلاء الرؤساء من ثقافة سياسية، وقدرة تحليلية عالية، يدافعون جميعا عن دور الدولة في توجيه الاقتصاد، ويرفضون فكرة الاستسلام لاقتصاد السوق طبقا لشروط البنك الدولي، أي بغض النظر عن موائمة تلك الشروط لمصالح بلادهم.

مع الرئيس البوليفي

وفي الفيلم جانب تعليمي مهم يساهم في إثارة الوعي لدى مشاهديه. وليت هذا الفيلم يعرض على الجمهور في بلادنا، وليت قناة الجزيرة الوثائقية تعرضه وتناقشه، لكي يشاهد الجمهور العربي الوجه الآخر من الحقيقة، ومن وجهة نظر أمريكي محايد، يعيش في جنة الرأسمالية الأمريكية، ومجتمع الحريات.
هذا مخرج محترف على درجة عالية من الاحترافية، صنع مجده من قبل من خلال أفلام روائية طويلة مشهود لها مثل “مواليد الرابع من يوليو” و”السلفادور” و”قتلة بالفطرة”، لكنه يأتي اليوم لكي يمارس السينما كما يمارسها الهواة، يحمل كاميرا خفيفة من نوع الكاميرات الرقمية، ويتجول بين عدة بلدان، لكي يكشف الجانب الآخر الذي لا يقترب منه الاعلام الأمريكي أبدا، لهؤلاء الزعماء: كيف يعملون، كيف يفكرون، علاقتهم بشعوبهم، ورؤيتهم للحكم وللديمقراطية، وما هو مصدر قوتهم الحقيقة امام اكبر قوة في العالم.
ربما لا تكون التجربة مثالية من ناحية الصورة والصوت، هناك الكثير من اللقطات المهتزة بالكاميرا المحمولة، والكثير من اللقطات الداكنة، والتي يظهر فيها ستون يحاور الشخصيات التي تثير اهتمامه من خلال مترجم كونه لا يعرف شيئا من اللغة الإسبانية.
وربما لا يسيطر ستون تماما على دفة حواراته أو يسعى لتحدي الشخصيات التي يحاورها بل يترك لها العنان لدفع الحديث نحو الوجهة التي تريدها. ولكن من الذي قال إن ستون ذهب أصلا بعقلية المحايد، بل إن فيلميه السابقين القصيرين عن “كاسترو” يشهدان عليه، أي بأنه ليس من المحايدين، بل ذهب أصلا متعاطفا ومتفهما، بل أراد أساسا، أن يقدم لجمهوره الصورة التي لا يعرفها.
ولاشك أن التجربة جذابة، وشجاعة أيضا. ويظل الأهم هنا قوة الصورة في اللحظة التاريخية التي يتم فيها اقتناص الشهادات الحية، وليس في هذا أي مغامرة فنية تذكر، بل المغامرة في الحقيقة، مغامرة في السباحة “الفكرية” عكس التيار.


إعلان