مهرجان المدينة: ليالي وجد صوفي وسينما
كمال الرياحي. تونس
انطلقت فعاليات الدورة 28 لمهرجان المدينة بتونس من 15 أوت 2010 لتتواصل إلى غاية يوم 7 سبتمبر المقبل وتنظم هذه الدورة باسم” زبير التركي” (1924 – 23 أكتوبر 2009) وهو رسام ونحات تونسي من رواد الفن التشكيلي في تونس صاحب تمثال ابن خلدون الشهير بقلب العاصمة التونسية. وتتزامن هذه الدورة مع التحضير لإطلاق السنة الوطنية للسينما والتي ينتظرها جمهور السينما وصناعه بكثير من الترقّب فكان طبيعيا أن ينتزع الفنّ السابع في هذه الدورة لمهرجان المدينة مكانا مهمّا. و قد كان فضاء نادي الطاهر الحداد العريق والموجود بالمدينة العتيقة الفضاء المخصّص للتظاهرة السينمائية المميّزة التي انطلقت يوم الأربعاء تكريما للمخرج التونسي الطيب الوحيشي بعرض فيلم رقصة النار للمخرجة والمنتجة سلمى بكار وهو فيلم يرصد سيرة الراقصة التونسية الشهيرة حبيبة مسيكة وهي راقصة من أصل يهودي سطع نجمها في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. وقد كانت لها مساهمات مسرحية في مسارح تونسية وعربية مع فرقة المستقبل لمحمود بورقيبة وفرقة جورج أبيض. وقد تمكنت سلمى بكار من رصد تفاصيل من حياتها المشوقة التي انتهت حرقا على يد حد عشاقها يوم 20 فيفري 1930. الفيلم من إنتاج 1995 بطولة سعاد حميدو و فيودور أتكين ونجيب بالقاضي ورؤوف بن عمر وجميل الجودي…من انتاج فينيسيا فيلم ومدته ساعة ونصف. وقد أثار الفيلم منذ عرضه الأول كثيرا من الجدل خاصة لما عرفت به المخرجة بعد ذلك من جرأة في طرق تيمات ضمن ما أصبح معروفا اليوم بالمسكوت عنه وقد عمّقت مسيرتها بعد ذلك بفيلم خشخاش الذي أحدث جدلا أكبر. كان جمهور نادي الطاهر الحداد على موعد مجددا مع فيلم ظل مهما رغم كل الاختلافات حوله فنّيا. وقد توقف الهادي خليل في إحدى مقالاته عند بعض هنات الفيلم الممزق بين التاريخ والأسطورة ومشروعية تضخيم شخصية المغنية اليهودية.
اليوم الثاني كان احتفاء بالمخرج الطيب الوحيشي الذي سميت الدورة باسمه وعرض له فلمان هما“مجنون ليلى” “أوبرا ماكينغ أوف”. وفيلم مجنون ليلى من انتاج(1989) وهو عن قصة لاندريه ميكال وسيناريو للطيب لوحيشي وهو عبارة عن مقاربة سينمائية خاصة لقصة الحب الشهيرة بين قيس وليلى. الفيلم من بطولة: طارق آكان وصافي بوقيعة وفاطمة بن سيعدان.
ليلة الخميس 26 أوت خصصت لما سُمّي بالسينما الشعرية بعرض شريط طوق الحمامة المفقود للمخرج الناصر خمير الذي يصف الناقد هادي خليل أعماله بقوله” تؤكد أفلام خمير…على قيمة الحكايات والخرافات في ضخ المخيال والحفاظ على حيويته وتدفقه.بؤرة هذا المتن الحكائي ألم خفي في الذاكرة الجماعية مثل جرح غائر دفين لا شفاء منه،جرح اتلاف اندلس العرب إلى الأبد..”
والحق أن الناصر خمير يمثل تجربة سينمائية فريدة ومنشقّة أمكن لها أن تحقق خصوصيتها ضمن المشهد السينمائي العربي بتلك العلاقة السرية التي يربطها المخرج بين الحكي والتشكيل والخرافة. سينما متحررة تخلق ايقاعها الداخلي الخاص لترتفع بالتجربة السينمائية إلى مرتبة الشعرية البصرية.
و”ناصر خمير مخرج مسرحي وسينمائي وشاعر وكاتب ورسام ونحات وخطاط تونسي ولد سنة 1948 في مدينة قربة. تحصل على منحة من اليونسكو لدراسة السينما في فرنسا. يشتغل الآن في مركو جورج بمبيدو الوطني للفن والثقافة. فازت أفلامه بالعديد من الجوائز الدولية، وقدمت عروضه المسرحية المعروفة “الحكواتي” على مسارح في أفريقيا وأوروبا وأميركا، وأقيمت معارض تشكيلية لأعماله في تونس وباريس وعواصم أوروبية أخرى، وأصدر عدة كتب تجمع بين النصوص والرسوم”
الليلة الرابعة خصصت للسينمائيين الهواة بعرض مجموعة من الأشرطة المتوجة بجوائز الدورة الأخيرة للمهرجان الدولي للسينمائيين الهواة بقليبية.
![]() |
الملصق الرئيسي |
لتختتم التظاهرة ليلة السبت 28 أوت بسهرة السينما الوثائقية حتى الفجر وهي سهرة صوفية يتقدمها عرض فيلم”وجد” لمحمود بن محمود القيم ببلجيكا وقد سبق أن عرض في دول كثيرة من ضمنها اليمن في مركز الدراسات والبحوث اليمني ووجد استحسانا كبيرا عند الجمهور والمثقفين تحديدا عن فيلم يقدم الطرق الصوفية وفكرهم ليكون خير رسالة في التسامح يكون فيه المرء لا يدين إلا للحب. المخرج مازال ينتظر التصريح بتصوير فيلمه”الأستاذ” كما يعرض في نفس الليلة فيلم غرس الله لكمال العريضي وأغاني فال للطيب الوحيشي والحضرة للفاضل الجزيري.
وهكذا تكون السهرات السينمائية بنادي الطاهر الحداد اختيرت بعناية لتكون متناغمة مع الأجواء الرمضانية فكل الأفلام المعروضة يربطها خيط رفيع يتماس مع فكرة السمر والحكي والتقاليد والطرب والإنشاد الصوفي.
فيلم “وجد”
فيلم “وجد” لمحمود بن محمود واحد من أهم الأفلام التي عرضت في هذه التظاهرة حيث كانت هذه المناسبة فرصة لأحباء السينما الوثائقية لمشاهدة فيلم من منتجها المتميز. فقد قدم محمود بن محمود رؤية سينماتوغرافية مخصوصة لمقاربة طرق الصوفية في العالم الإسلامي. وقد كانت تحرّك الفيلم فكرة الانتقام لحلم الأب بالقيام برحلة البحث عن الجذور التركية. واستعادة شغفه بالطرق الصوفية. رحلة انطلق فيها بن محمود من تونس يقتفي خطى والده من جامعة الزيتونة والطريقة الشاذلية ليخرج بالحلم إلى جامع الأزهر ليرصد حلقات تجويد القرآن وترتيله معرّجا على مسجد الحسين حيث يكون المولد النبوي الشريف فرصة للتعرف عل الطرق الصوفية.ثم تأتي حركة خروج الفكرة في اتجاه الشرق الأدنى لملاحقة القوّالين في الهند من أتباع طريقة الشيشتية حيث يخصص لها المخرج الأهم من الفيلم والذي يكشف العلاقة الوثيقة بين حركات التصوف العربي الإسلامي بالطقوس الوثنية ليرسو الفيلم في اسطنبول أين مجالس المولاوية وشطحات الدراويش، قبل أن يعود إلى افريقيا لكن هذه المرة في السينغال مع الباي فال حيث الطريقة المريدية ذات التأثر بالوثنية.
الفيلم الذي عرض في نسخة 35 مليمتر في فضاء غير سينمائي في الهواء الطلق مرر الكثير من الرسائل كانحسار الطرق الصوفية في تونس مع أن بعض الصحفيين والمتعبين اعتبروا الفيلم لم يتعمق بالبحث في الطرق الصوفية التونسية التي مازالت في تونس الأعماق وبدت تونس مجرد مرحلة وعتبة لمقاربة وملاحقة الصوفية في الشرق والشرق الأدنى. كما أشار المخرج إلى علاقة المرأة في الإسلام وخاصة تغييب صوتها في الترتيل والذكر. كما كان الفيلم مناسبة لكي يطرح فيها المخرج العلاقة الرحمية للطقوس الصوفية وبعض الطقوس الإسلامية بجذورها الوثنية وما قبل الإسلام وخاصة ما تصل بالنذور وزيارة الأضرحة وما تعلق بها من طقوس. وقد سبق إن تحدث الناقد اليمني عبد العزيز المقالح عن فيلم محمود بن محمود مشيدا بقيمته قائلا: “هناك كتابات كثيرة عن صلة التصوف بالأدب وبالشعر خاصة، لكن أحداً -فيما اعلم- لم يتحدث أو يتناول بالكتابة الصلة بين الصوفية والسينما، وهو موضوع جدير بالاهتمام، ولعل الأشقاء في تونس الحبيبة سيكونون سباقين في هذا المضمار، وفي حرصهم على إخراج هذا الفيلم البديع، الذي يجعل مشاهده يتجول في أقطار شتى، متتبعاً بشغف ومحبة مناهج المتصوفة في هذه الأقطار، ودور التصوف الاشراقي والعرفاني في ترقية الأرواح، ونشر التسامح والقبول بالآخر، انطلاقاً من مبدأ شيخهم العظيم ابن عربي، الذي يحدد مذهبه الروحي الإنساني في أبيات شهيرة منها هذا البيت:
أدين بدين الحب أنىّ توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني”
![]() |
ونغ كار محمد بن محمود |
اطلبوا السينما ولو كانت في الصين
تزامنت ليلة السينما الصوفية بفضاء الطاهر الحداد مع ليلة سينمائية أخرى في دار الثقافة ابن خلدون لكن الليلة الثانية اختارت أن تكون صينية حتى الفجر مع السينمائي الصيني ونغ كار واي Wong Kar-waiوهو أحد عمالقة السينما الآسوية اليوم وذلك بعرض مجموعة من أفلامه. وهي أفلام جديدة للمخرج منها فيلم 2046 . ولقيمة هذه التجربة السينمائية تمنى بعض المتابعين للشبان السينمائي في تونس أن يعاد الاحتفاء بهذا المخرج في أجواء أخرى خارج رمضان لأن في أفلامه ما يثير الجدل والتفكير وفيها من العمق ما يجعلها مادة دسمة للحديث عن راهن السينما العالمية والإضافة الأسوية التي يقدمها مخرجين من قيمة ونغ كار واي.
السينمائيون الشبان يحتجون
التقينا على هامش تلك التظاهرات مجموعة من المخرجين والممثلين الشبان الذين أبدوا استياءهم من تهميش أعمالهم في برمجة رمضان خاصة أن هذه السنة ترفع شعار السنة الدولية للشباب. وأبدى البعض استغرابه من إعادة بعض الأفلام التي كاد المشاهد يملها ومنها عرض الحضرة. وحدثنا أحدهم مازحا سيأتي اليوم الذي يعلبون فيه لنا الحضرة سندويتشات. والحق أننا لمسنا مظاهر هذا الملل من خلال العدد القليل من المشاهدين والمتابعين لهذه العروض والتي تخلت على تسعيرتها الرمزية ومع ذلك لم يحضر الجمهور. بعض التظاهرات الأخرى كانت مرتجلة وبرمجت في آخر وقت وبرمجة نفس التظاهرة سينما حتى الفجر في مكانين مختلفين في نفس الليلة يعكس هذا الاضطراب في التنسيق.
ويبقى حضور السينما في هذه الدورة من مهرجان المدينة أمر مهما وإن كنا تمنينا أن تكون عروض الأفلام مشفوعة بحوارات ونقاشات وبحضور أصاحبها من المخرجين والممثلين.