«نساء في صراع»: المرأة في واجهة المواجهة
بشار إبراهيم
في فيلمها «نساء في صراع»، المنتج عام 2004، وهو فيلم وثائقي مدته 56 دقيقة، توقظ المخرجة بثينة كنعان خوري ذاكرة الأيام الأولى للثورة الفلسطينية المسلحة، والعمل الكفاحي العسكري، وتستعيدها من خلال مجموعة من النساء الفلسطينيات اللواتي كانت لهن تجربة مميزة، خاصة داخل الأرض المحتلة.
(عائشة عودة، رسمية عودة، روضة البصير)؛ ثلاث نساء/ فدائيات، خضن غمار العمل العسكري، لحظة صعوده، ما بين نهاية الستينيات ومطالع السبعينيات من القرن العشرين، وكان أن جرى اعتقالهن، بعد مساهمات فعلية في العمل الفدائي، فأمضين سنوات مديدة في المعتقلات الإسرائيلية، ليسجلن تجربة فريدة للمرأة الفلسطينية، وقدرتها على الصمود بين أيدي جلاديها وسجانيها، على الرغم من كل أصناف التعذيب التي مارسها بوحشية منقطعة النظير.
لن يفارق هذا الفيلم كثير ما عهدناه من أفلام الثورة الفلسطينية المسلحة، المنجزة طيلة السبعينيات والثمانينيات، على الرغم من غناه بالتفاصيل الحياتية واليومية لنساء تبدو قيمتهن الأبرز والأعلى تتمثل من خلال ما خضنه من تجربة ثورية، وما يمكن أن يكشفن عنه من جوانب هذه التجربة الفريدة، على المستوى الوطني، والإنساني الشخصي الفردي.
هنا نحن مع ثلاث نساء، على تنوع واختلاف تداخل تجاربهن. هن نساء نشأن في الضفة الغربية، نهاية الستينيات من القرن العشرين. جئن من تجارب حياتية وأسرية مختلفة، ولكنها تتفق جميعها في أن كل واحدة منهن نشأت في أسرة وطنية، فكان البيت مدرستها الأولى، التي كونت شخصيتها، وبلورتها، ودفعتها على دروب النضال الثوري، على الرغم مما يعتوره من صعوبات ومخاطر، بمواجهة جيش احتلال مدجج بآلة الفتك.. ولكنه الوطن الذي لا بد من التضحية، مهما كان الثمن.
كما أن العوامل التي دفعت بكل منهن للانخراط في تجربة الثورة الفلسطينية المسلحة، تتوازى؛ تقترب وتتباعد، تتشابه وتختلف، تتماثل وتتغاير، بالشكل الذي يلقي ضوءاً بانورامياً على مجمل المعطيات التي فعلت فعلها في جيل كامل، سواء على صعيد التجربة الفلسطينية ذاتها: النكبة، وما تضمنته من كوارث ومجازر، ليس مجزرة دير ياسين، إلا واحدة منها. أو على صعيد التجربة العربية، وما قدمته من نماذج كفاحية، كانت ثورة الجزائر رائدتها. أو على صعيد التجربة العالمية، التي كان لها في الستينيات من القرن العشرين أن تطلق نماذج وقدوات ثورية كفاحية..
سوف تستفيض “عائشة عودة” في قول ذلك، فتستذكر الفتاة الجزائرية البطلة: “جميلة بوحيرد”، النموذج الجدير بأن يكون القدوة، كما تنتبه إلى حقيقة أن بيتهم كان نقطة ارتكاز للفدائيين القادمين من الأردن، فقد كان أخوها في مجموعة تتبع للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. أمها وزوجة أخيها كانتا تتوليان مهمة تحضير الطعام للفدائيين، فضلاً عن تقديم خدمات متنوعة للفدائيين، تسهل أعمالهم النضالية، كان لها نصيب من القيام بها: كتابة مناشير. طباعتها، وتوزيعها. نقل أسلحة. تنظيم بنات وشباب، وإرسالهم إلى الأردن للتدريب.
في زمن المد الثوري، وصعوده، تحولت البيوت الفلسطينية إلى مدارس ثورية، تنجب المناضلين والمناضلات، وصارت تشكل رافداً ورديفاً لقواعد الثورة، ومأوى لخلاياها، ومحطة لعونها.. ولذلك فقد عمد جيش الاحتلال الإسرائيلي، مرة بعد أخرى، إلى نسف هذه البيوت الفلسطينية، عقاباً لها. وبمقدار ما انتشرت عملية هدم البيوت ونسفها، فقد انتشرت في أوساط الفلسطينيين تلك الأغاني، التي تؤكد أنهم لن يهتموا بهدم البيوت، ولن يمنعهم ذلك من مواصلة درب الثورة.
![]() |
عائشةعودة روضة البصير |
بعد الاعتقال، ونسف البيوت، ستنتقل نساء الفيلم إلى السجن، حيث تبدأ مرحلة جديدة من النضال التي عرفت باسم «نضال الحركة الأسيرة»، التي جعلت من السجون بؤرتها، على الرغم من المكوث خلف القضبان والأبواب المغلقة، والعيش تحت المراقبة، وممارسة الحياة تحت السيطرة.
مع أحكام تتعدد فيها المؤبدات، ومرور السنوات، بدا أن السجينات بات عليهن تأثيث غرفة السجن بيتاً لهن، يتمكنَّ خلاله من مواصلة الحياة والنضال.. وربما، كان السجن، لدى البعض، فرصة لإعادة اكتشاف ما غاب عن البال في ضجيج الحياة، وامتلاك المزيد من الخبرات والتجارب والمعارف!..
وفي برزخ ما بين عالمين، كانت جلسات التعذيب، التي تقام بذريعة التحقيق.. ستكشف النساء الثلاث عن ملامح من قسوة التعذيب الذي تعرضن له، وبشاعة ما يمكن لبني بشر، فاقد لصفات الآدمية، فعله بالإنسان، رغبة في قهره، وإذلاله، والحطّ من قيمته، والنيل من كرامته، وانتهاك عرضه، وتحويله عن مساره الذي اختاره، والمبادئ التي آمن بها.
لم يترك الجلاد الإسرائيلي وسيلة للتعذيب لم يمارسها. ولم يترك للمخيلة الشيطانية أن تجترح أكثر مما فعل. كلمات قليلات كانت كافية للدلالة على ما كان يجري في أقبية سجون الاحتلال، وخلف قضبانه، وفي زنازينه.
ليست الذاكرة فقط تلك التي لا تستطيع نسيان ما حدث. بل إنه الجسد أيضاً لا يستطيع التخلص من الآثار الدامية للتعذيب الوحشي، الذي فتك بأنوثة النساء، وجعلهن غير قادرات على الحياة السوية للمرأة. سيبقى الجسد شاهداً على محاولات تحطيمه، النيل منه، تفتيته، وتدميره.. وإذ تمضي السنوات، فإن ثمة الكثير مما يمكن أن يقال عن الخارجين من سجون الاحتلال ومعتقلاته، محقونين بالعلل، وقد زرع المحتل الاسرائيلي شوكة عطب في الجسد.
لم يتوقف الفيلم طويلاً عند نقطة غاية في الأهمية، هي الأخرى، وإن كان قد مرّ عليها بدلالات متعددة، وهي مسألة عودة الأسير بعد إطلاق سراحه، ومحاولته في التكيف مع مجتمعه، مرة أخرى ومن جديد. لقد اعتاد المجتمع غيابه، وحصل ذاك الانقطاع القسري. لا أحد منهما ينتظر الآخر. بل إن المجتمع الذاهب في تحولاته ومتغيراته، لن ينتظر الأسير عند نقطة الافتراق. هذه المسألة بدت صاعقة بالنسبة للكثيرين ممن خرجوا بعد سنوات طويلة من السجن. كانوا يعتقدون أن المجتمع ما زال، منتظراً، حيث افترقوا، وكما تركوه.. ولكن سرعان ما اكتشفوا أن الزمن لم يتوقف، ولم ينتظرهم.. بل مضى إلى ما لا يتوقعون.
وبشكل نافر عن سياق الفيلم، ربما، سيذهب الفيلم، قبيل نهايته، إلى نموذج رابع، هو «تيري بلاطة» المرأة التي تعيش اليوم مع زوج يحمل هوية الضفة الغربية، وبالتالي فهو ممنوع من المكوث في بيته، إلا بتصريح ولساعات محددة، ويمكن لجند الاحتلال أن يدخلوا بيته، وانتزاعه من بين أولاده، وإخراجه من المكان.
تيري، التي دخلت السجن لفترات مؤقتة ثلاث مرات، تعيش اليوم مع أسرتها المقسمة بين هويتين؛ هوية الضفة الغربية لزوجها، وهوية القدس لها، في بيت يترصده الجدار، الذي يزمع تقسيم البيت إلى مكانين؛ شرق وغرب، وستكشف تيري عن المحاولات الحثيثة التي بذلت من أجل جعل الجدار يلتف قليلاً بمساره، ليترك لها بيتها، ومجموعة بيوت الجيران المتلاصقة، هنا في المكان.
![]() |
ننظر إلى الفيلم، مرة بعد أخرى، لننتبه إلى أن اختيار المخرجة بثينة كنعان خوري افتتاح الفيلم بمشاهد من فيلم «جميلة بوحيرد»، وهو الفيلم الروائي الطويل، الشهير، الذي أخرجه يوسف شاهين، ببطولة الفنانة المصرية ماجدة الصباحي، لا يتوقف عند مجرد استعادة حضور وتجربة ورمزية هذه الفتاة الجزائرية البطلة، باعتبارها أحد العوامل التي دفعت الكثيرات من الفتيات العربيات والفلسطينيات للانخراط في الثورة الفلسطينية. بل ربما لأن المخرجة كانت تنوي منذ البدء الاستفاضة، عبر فيلمها هذا، في حديث المناضلات الأسيرات، وما تعرضن له بين أيدي الجلادين..
سيخصص الفيلم قسطاً وافراً منه لأحاديث شخصياته ومحاولتهن في إلقاء الضوء على بعض ما مررن به من كوارث جسدية ونفسية، خلال فترات الاعتقال، والتحقيق، والتعذيب، ومن ثم السجن المديد، الذي بدا، في وقت ما، أنه بلا نهاية.. وأنه المستقر الأخير لهن، طالما لم يكن يلوح في الأفق أي إشارة لما يمكن أن يطلق سراحهن.
يعمد الفيلم، خلال الحديث عن التجربة الموجعة في السجن، إلى استخدام مشاهد تمثيلية ظليلية، تحاول الايحاء بشيء مما لاقته شخصيات الفيلم من تعذيب لا يطيقه بشر. ستتحدث عائشة عودة عما تعرضت له من التعرية الجسدية، ومحاولة الاغتصاب بالعصي والهراوات، والعرض عارية تماماً على الأسرى والمعتقلين.. بينما تلجمنا رسمية عودة بسرد ما جرى لها في السجون الإسرائيلية. ليس فقط تعرضها للتعرية التامة، أو عرضها عارية على الأسرى، بل إدخال والدها لرؤيتها عارية، ومحاولات الإجبار على ممارسة الجنس.
يقوم فيلم «نساء في صراع» على طابقين من البناء، ومن الحديث، والصورة. الطابق الأول: هو السرد الذي يتناول تاريخ الثورة، وأيامها الأولى، وانخراط الشباب الفلسطيني في الفعل الكفاحي مدفوعين بالعديد من العوامل والتجارب.. والطابق الثاني: هو الصورة التي تكشف جوانب من واقع اليوم، تحت الاحتلال: الحواجز، نقاط التفتيش، الأسلاك الشائكة.. الإذلال، والإجبار على المشي في الحقول والوديان والجبال..
وما بين الطابقين يكشف الفيلم عن التناقض الكارثي الذي آل إليه واقع الحال الفلسطيني، بعد أربعين سنة من الكفاح الثوري: امرأة اليوم تتحدث عن الإذلال الذي تتعرض له، بإجبارها علي المشي في الحقول والوديان والجبال، لزيارة أختها في المشفى.. بينما امرأة الأمس تتحدث عما قامت به من عمليات فدائية، ليس بزرع العبوات الناسفة، بل أيضاً بخوضها النضال الطويل في المعتقلات.
كأنما المخرجة بثينة كنعان خوري تريد أبعد من حكاية (عائشة عودة، رسمية عودة، روضة البصير)، الفلسطينيات اللواتي خضن العمل العسكري المباشر، ودفعن الضريبة العالية.. بل لعلها تريد القول إن كل امرأة فلسطينية لها طريقتها في النضال.. من ذروة ما حققته عائشة ورسمية وروضة وتيري، إلى أدنى تفصيل تمارسه امرأة فلسطينية تلهث في الحقول والوديان والسهول والجبال.. لاعنة “سنسفيل” الاحتلال الإسرائيلي.