“غزتي” اعلان انتماء مخرج سويدي لمدينة فلسطينية!

سمى المخرج السويدي بيو هولمكفيست فيلمه الوثائقي الأخير: “غزتي”، ليعطيه، ودون مواربة، طابعا شخصيا. فالعنوان يصرخ بالإنتماء الى المدينة، وضمنا بإختياره الواعي للإنتساب اليها. ومع انه في النهاية اختيار شخصي، ولكن بالنسبة لسينمائي مهم مثله، أنتج خمسين فيلما ويُدرس فن الفيلم الوثائقي في معهد الدراما في ستوكهولم، تبقى الحاجة لاشراك الناس خياره الواعي أمرا مهما، تفرضه مهنيته ومسؤليته كفنان قبل كل شيء.

المخرج السويدي بيو هولمكفيست

 لهذا حرص في فيلمه على توضيح طبيعة علاقته بالمدينة، التي ظل يزورها وينجز أفلاما عنها طيلة ثلاثين عاما، نشأت خلالها علاقة متميزة، مع عائلة مصطفى الحمداني والتي صارت مع الوقت، صداقة حقيقية، فرضت عليه السفر الى غزة فور سماعه خبر اصابة صديقه الفلسطيني بسرطان البروستاتا. من هذة النقطة “الخصوصية” ينطلق هولمكفيست لسرد تاريخ علاقته بمصطفى والتي امتدت الى عائلته ثم الى معسكر جباليا مرورا بغزة حتى فلسطين ومحتلها الاسرائيلي. علاقة تبدأ في فيلمه الأخير بمشهد، صوره هولمكفيست نهاية عام 2008 لمصطفى وهو ينشر غسيله على ىسطح منزله في مخيم جباليا، معافى ومبتسم على عادته رغم ما عاشه من عذاب خلال الهجوم الوحشي الاسرائيلي الأخير على مدينتهم المحاصرة. مشهد نسمع فيه صوت هولمكفيست وهو يسرد لنا بشيء من الحزن ذكرياته الطويلة مع الرجل وكيف ساعده لينجز عمله كصحفي وسينمائي وصل الى غزة في وقت لم يكن أحدا من صحفيي بلاده يفكر في الوصول اليها. قال عنها في مقابلة مع صحيفة “سفينسكا داغبلادت”: خلال الثمانينات حاولت اقناع الصحفيين والسينمائيين السويديين بالسفر الى غزة.
لقد جاء بعضهم اليها ولكنهم كان يغادرونها قبل نهاية يوم واحد على اقامتهم فيها. ثم يمضي.. استعنت في مقابلاتي بصحفية أمريكية تعرف العربية وفي احدى المرات التقيت بسيدة علمت بأني أريد نقل ما يجري في المدينة على لسان أحد من سكانها. قالت لي: هل تريد أن أدلك على رجل يفيدك كثيرا. تعال معي! كانت تقصد زوجها مصطفى. منذ ذاك التاريخ ومصطفى معه في أكثر أفلامه عن فلسطين، و”غزتي” هو نتاج هذة المشاركة ومن بعد الصداقة. فالشريط عبارة عن عملية تركيب جديدة لمجموعة مشاهد من أفلام قديمة شارك هو وعائلته فيها مثل: “القدس ـ مدينة بلا حدود، 1979″، “غيتو غزة، 1984″، “الأسد في غزة، 1996″ و”كلمة وحجر ـ غزة 2000” الذي أنتج عام 2001 الى جانب “الشاب فرويد من غزة، 2008”.

هولمكفيست ومصطفى الحمداني شبابا

هذا الى جانب لقطات من أرشيف صاحبها، أضيفت اليه فتحول العمل الى ما يشبه السيرة الذاتية. صور مركبة وتعليقات قصيرة سردت جزءا حيويا من مسار حياة مخرج سويدي وعائلة فلسطينية، سجلت الكاميرا مراحل تطورها جيل بعد جيل. فالطفلة عايدة، كان عمرها أثنا عشر عاما يوم صورها هولمكفيست لأول مرة، أما اليوم فهي طبيبة أسنان وعندها طفل صغير، عاش تجربة الحرب الأخيرة وتركت آثارها النفسية السيئة عليه. كل هذة المراحل، لها ولبقية أفراد عائلتها ربطها هولمكفيست بلقطات مصحوبة بتعليقاته التي استخدم فيها صيغة المخاطب المفرد، ليضفي عليها حميمية وشخصانية، فجاءت كشهادة حية على عمر قضاه مع شعب لاقى الويل وتغيرت مواقفه ونظرته الى العالم وفق ما عاناه. ورغم كل هذا استطاع صديقه وغيره أن يغذي في نفوس أطفاله روحا انسانية، ولهذا قال: أردت ل “غزتي” أن يكون بمثابة تحية لهؤلاء الذين عاشوا وسط الحروب ولكنهم ومع هذا استطاعوا ان يربوا أطفالهم تربية رائعة.
وكلام هولمكفيست عن العائلة الفلسطينية نجده مجسدا في رؤية سينمائية، واسلوب عمل ينتمي الى المدرسة الاسكندنافية المعتمدة كثيرا في البحث عن جوانيات الكائن البشري، وفي الوثائقي بشكل خاص تميز باقتصاد كبير في حركة الكاميرا ومحدودية المشهد المنقول مع التركيز الشديد على تقريب مناخه النفسي للمشاهد. تلك السمات السينمائية الخاصة ظل هولمكفيست امينا لها في أغلب أعماله عن فلسطين، والعلاقة بين العام والخاص كانت أكثر تجلياتها وضوحا (بالمناسبة أفلامه الأخيرة ساعدته فيها زوجته سوزان خارداليان).
وجدنا ذلك الأسلوب واضحا في “غيو غزة” ومشهد مصطفى وعائلته يوم كانوا في زيارة نظمها لهم والده الى بيتهم العتيق وأرضهم والتي اجبروا على تركها، وصل المشهد وبكثافة حقيقة ما كان يجري على هذة الأرض والحوار الذي دار بين الطرفين، الفلسطيني والاسرائيلي، كان كافيا ليتعرف المشاهد غير العربي من خلاله على جوهر المشكلة وخلاصتها: أرض لبشر كانوا مقيمين فيها وبالقوة أخرجوا منها، وما تلاها من مشاكل مرتبط بهذة الحقيقة! هكذا وصل هولمكفيست الحقيقة الى مشاهديه ومضى في تتبع ما سيجري للعائلة/ النموذج. عايدة في شريطه الأخيرة تعترف بعجزها عن تغذية روح الأمل والايمان بالسلام الى طفلها الصغير. ما علمه لها والدها لا يمكن تعليمه الى الفلسطينيين الصغار اليوم. فالتجربة الدموية حولت الفكرة المتفائلة الى فكرة عقيمة. ولولده عايد، المعالج النفسي، كرس له فيلما عنونه ب”الشاب فرويد في غزة’*.

من “الشاب فرويد في غزة”

ومن خلال العينات، التي كان يستقبلها عايد في عيادته، أو بالأحرى التي يذهب إليها في بيوتها أغلب الأوقات، نقل الشريط تفاصيل المشهد العام لحياة قاسية، أقل ما يقال فيها إنها مدعاة لتأزمات جسدية ونفسية، لا تحتاج لطبيب واحد يعالجها، بل إلى مليون طبيب نفساني، كما قال عايد نفسه في الفيلم. صرخته اليوم أقل حدة فالشاب الطموح حصل على فرصة لاكمال دراسته في النرويج وصار بعيدا عن الأحداث حتى عن عائلته التي نقلها له هولمكفيست عندما زاره في أوسلو وحمل له صور والده وأخباره. صورة عايد لوحدها تكفي لرسم تفصيل حزين من تفاصيل المشهد الفلسطيني.  وهولمكفيست لا يركز كثيرا على العواطف فيمضي مسجلا واقع غزة الآن. حالة الانقسام الفلسطيني والألم الذي تركه الاسرائيليون في نفوس سكانها. ولقطاته في بيت مصطفى وهو ممد على فراشة قالت الكثير. سيموت الرجل الذي طالما أحب وطنه وعائلته. وصديقه السويدي سينجز عنه فيلما وربما أفلام كما قالت زوجته: سيظل يصورك حتى في القبر! بموت مصطفى خسر هولمكفيست صديقا، لكنه ربح مدينة سماها “غزتي”.

• كتبنا مراجعة نقدية عن الفيلم نشرت في صحيفة “الاتحاد ” الاماراتية


إعلان