” ذاكرة الجسد” قصيدة مكتوبة علي كل البحور

لمى طيارة / دمشق

منذ ايام اجرت القناة الاولى الجزائريه  وعلى الهواء  حصه إذاعية تحت عنوان  ( عرب فن)  وخصصت جزءا منها  للخوض في موضوع الدراما التلفزونية العربية في رمضان ،  وقد لفتني هذا  البرنامج الذي حاول وعلى مدى نصف ساعة تلقي الاتصالات الهاتفية من المستمعين للادلاء برايهم حول بعض الاعمال الدرامية التي تابعوها في رمضان،ورغم ان المداخلات امتدحت وبشده العمل السوري ” باب الحارة” في جزئه الاخير ولا اعرف سببا منطقيا لهذا ، كانت بالمقابل تذم العمل الجزائري السوري  ” ذاكرة الجسد” الذي انتجته قناة ابوظبي ، عن رواية للكاتبة الجزائرية احلام مستغانمي تحمل  نفس العنوان من سيناريو وحوار ريم حنا واخراج نجدة انزور ، حيث اعتبر الجمهور ان العمل اضعف من الدعاية التي اثيرت حوله او عنه ، مشيرا الى ان خير ما فعله هذا العمل هو الكشف عن نجمة جديده في الساحة الدرامية هي ” امل بوشوشه” . مؤكدين الى ان العمل دراميا كان سطحيا و ليس بقوة الرواية التي صورت النضال الجزائري….
 ورغم ان المثل يقول ” اهل مكة ادرى بشعابها” فأنه لا يمكننا ولا بأي شكل من الاشكال ان نعتبر تلك الاتصالات عينة ممثلة للجمهور الجزائري برمته رغم انها عينة لايمكن تجاهلها  وخصوصا بعد ان نعرف  لاحقا ومن نتائج الدراسة الاحصائية التي قامت بها وكالة الاتصال والاستشارات الإعلامية والتجارية “ميديا سونس ”  على عينة قوامها  سبعة آلاف شخص موزعين على عشر ولايات جزائرية هي العاصمة وسطيف ووهران وتيزي أوزو وقسنطينة وعنابة وبسكرة وعين الدفلى وادرار وبشار. ونشرت نتائجها في جريدة الشروق الجزائرية بتاريخ 6 ايلول الجاري . التي تؤكد ان الجمهور الجزائري يتابع اكثر اعماله الوطنية بالمقارنة بالاعمال العربية الاخرى وان نسبة مشاهدي ” ذاكرة الجسد”  من الجمهور الجزائري لم تتجاوز 8.2 بالمائة من نسبة المشاهده العامة لعينة الدراسة ، مما يعني ان هذا العمل جاء في ذيل الاعمال المتابعه في شهر رمضان لديهم.
ورجعت بذاكرتي الى بداياتي مع الكتابه النقديه ،حين كانت موجة الاعمال الفانتازيه (الكواسر والجوارح)  التي ابتدعها وابدعها حينها المخرج السوري نجده انزور ، القادم الينا من عالم الاعلان ،تلك الاعمال التي ابهرت الممثلين وشركات الانتاج  قبل ان تبهرالمشاهدين لما احتوته من ابداع على صعيد المشهد البصري والذي لم نكن نعرفه في اعمالنا الدرامية . ولكنها كانت بالنسبة لي اعمالا تهتم بالشكل على حساب المضمون ،بمعنى آخر كانت ورغم  توافر الشروط الانتاجية تقوم بابهارنا فقط بغض النظر عن القيمة الادبية او حتى النفسية والاجتماعية ، وكنت كلما حاولت ان اكتب مقالا انتقد فيه هذه العبثية التى تدعي الفانتازيه لتبرىء نفسها من اي اتهام درامي يوجه لها ،أتراجع  خشية ان اظهر وكأني اغرد خارج السرب فيتم انتقادي من الجمهور قبل صاحب العمل نفسه، وعليه اتخذت قرارا كي لا يعود قلمي الذي يربكني ويضغط علي فينتقد عملا آخر على شاكلة تلك الاعمال  ، ان اقاطع كل ما يخرجه نجدة انزور منها ، بغض النظر عن اهميته .

من العمل

 حتى جاء ذلك اليوم الذي اعادني اليه من خلال عمله  الرائع  ( سقف العالم2007 ) للكاتب والصحافي حسن م. يوسف عن قصة الرحالة العربي ابن فضلان ، من بطولة ” قيس الشيخ نجيب”  والوجه الجديد لخريج المعهد العالي للفنون المسرحية “مصطفى الخاني” ، ذلك العمل الذي لم يلقى ترحيبا جماهيريا كما هي العادة مع كل عرض درامي جاد او ناطق باللغة العرية الفصيحة !!!!
 ذاكرة الجسد بين الرواية والعمل
هذا العام شدني وقبل وقت طويل  “ذاكرة الجسد” الذي اخرجه نجدة انزور ، من بطولة كل من النجم جمال سليمان و امل بوشوشه ، بالاضافة الى نخبة من الفنانيين ، لما احمله عن تلك الرواية من مشاعر حب واعجاب  ، وعندما تابعت العمل شعرت لاول مره انني امام مخرج مبدع ، احسست اني تعرفت بحق على الوجه الاخر له، وتاكدت انه فنان كبير بمعنى الكلمة  قادر بوجود النص الجيد ان يدير نجومه او ان يصنعهم .
تبدو رواية ( ذاكرة الجسد)بغض النظر حول ما احيط حولها من لغط وتشكيك حول صدق انتمائها للكاتبة احلام مستغانمي  ، مشّبعة بالصورة فحين تقرأها تشعر انك تشاهدها . لم تكن هذه الرواية حين صدرت عام 1993  مثار شك وجدل فقط ، بل كانت على الجانب الاخر مثار اعجاب كبير لدى فئة كبيرة من المثقفين  والكتاب والشعراء ولن ننسى ما قاله الشاعر السوري الكبير نزار قباني  ” هذه الرواية دوختني، وأنا نادراً ما أدوخ أمام رواية من الروايات، وسبب الدوخة أن النص الذي قرأته يشبهني إلي درجة التطابق، فهو مجنون ومتوتر واقتحامي متوحش وإنساني، وشهواني، وخارج عن القانون مثلي. ولو أن أحداً طلب مني أن أوقع اسمي تحت هذه الرواية الاستثنائية المغتسلة بأمطار الشعر… لما ترددت لحظة واحدة. هل كانت أحلام مستغانمي في روايتها (تكتبني) دون أن تدري؟! لقد كانت مثلي تهجم علي الورقة البيضاء، بجمالية لا حد لها .. وشراسة لا حد لها.. وجنون لا حد له… الرواية قصيدة مكتوبة علي كل البحور … بحر الحب وبحر الجنس وبحر الإيديولوجيا وبحر الثورة الجزائرية بمناضليها ومرتزقيها، وأبطالها وقاتليها، وملائكتها وشياطينها وأبنائها وسارقيها.”.
  تعتبر رواية (ذاكرة الجسد) الحاصلة على جائزة نجيب محفوظ للعام 1997..الرواية  الافضل من ضمن الروايات الثلاثة للكاتبة أحلام مستغانمي ( فوضى الحواس 1998، عابر سبيل 2003) والتي صدرت لها لاحقا  ، وكأن احلام مستغانمي وضعت فيها عصارة عقلها وقلبها وضميرها ،  ارادت ان تقول للعالم اجمع هذ هي الجزائرالبطلة الحره وهذا هو الشعب الجزائري المناضل ، وهكذا هو الحب عندنا ليس مجرد كلمة على ورقة بل الحب قصة من قصص الانسانية والتضحية  .

بطلا العمل مع مخرجه نجدت انزور

وحين قررت قناة ابو ظبي ومنذ مدة طويلة تحويل تلك الروايات الى اعمال تلفزيونية ، كنت اخشى بشكل خاص على  رواية ( ذاكرة الجسد) من ان تشوه ، كنت اخشى على الصورة التي رسمتها في ذهني لقسنطينة ،أخشى خيانة عواطفي  لابطالها ، لاشكالهم ومواقفهم، واسأل نفسي هل سنتقبلهم ؟ وحين اسند نجدة انزور  الرواية الى  الكاتبة ذات القلم المبدع  السيدة “ريم حنا” لتحولها الى سيناريو  قابل للعرض الدرامي ، تساءلت  في نفسي ماذا ستضيف هذا الكاتبة الرائعة على عمل لا يمكن المساس به ، هل سينجح معها اكثر ام سيفقد رونقه وسمعته ؟  ورغم ان العمل ادبي سردي بطبيعته وسيمتد لثلاثين حلقة لظروف انتاجية خاصة بشهر رمضان ، مما اجبر المعده وكاتبة السيناريو على خلق تفاصيل جديدة خارجه عن الرواية ، الان ان ريم حنا استطاعت ان ترينا عبر ثنايا هذا العمل من حوار واحداث انها  امينة الى حد كبير مع الرواية ومع تفاصيلها وجملها  لدرجة انني كدت أخلط ما  بين الرواية والعمل الدرامي ، وصعبت علي المقارنه في اي منهما هو الاجدر باعجابي..
ثم جاء الاداء التمثيلي لادوار البطولة في العمل ليلبس شخصيات الرواية دما ولحما ، فجمال سليمان جسد شخصية المناضل الفنان ذا الاحساس المرهف خالد بن طوبال باقتدار كما عهدناه دائما ، بينما استطاعت امل بوشوشه صاحبة الموهبة التي ثقلتها بدروس في التمثيل مع الاستاذه امل عمران ان تقف وبجدارة في مواجهة النجم جمال سليمان ، اضف الى ذلك الظهور المتميز لكل من زينه حلاق ومجد رياض ، والذي سيقلب مسيرة حياتهما الفنية،  لان نجدة استطاع ان يخرج منهما اشياء جديدة في شخصيتهما رغم ان حضورهما في العمل وبشكل قوي بدأ تقريبا بعد منتصف العمل  ،كما لعب  خالد القيش شخصية حسان رغم صغر مساحتها باداء عال ، واللبناني جهاد الاندري بطل القسم الثاني من العمل الزوج الخائن صاحب السلطة والنفوذ وهو ليس العمل الاول له مع نجدة انزور بطبيعة الحال ،كما عرّفنا العمل كجمهور سوري على  الممثل التونسي ظافر العابدين احد  أهم الممثلين الشبان في الساحة الفنية التونسية والذي جسد دور  “زياد” الشاعر الفلسطيني الذي استشهد في سبيل مبادئه.
نهاية الكلام …ما من شك انه لا يوجد مكان  للتشابه بين مايراه النقاد جيدا  ومايراه الجمهور سيئا والعكس صحيح ، فلطالما كانت هناك اعمالا نخبوية رفيعة المستوى اعجبت النقاد كثيرا ولكنها بالمقابل لم تلقى رضى الشارع ولم تحصد النجاح المطلوب .


إعلان