مغامراتٌ مهرجاناتيّة: المسئول الإداريّ للمهرجانات
صلاح سرميني ـ باريس
من الأحداث التي تُميّز المشهد الفنيّ، والثقافيّ الفرنسيّ، تحتلّ مهرجانات السينما مكانةً خاصّة، ومع الكمّ المُتزايد من المهرجانات الدولية الكبرى التي تستحوذُ على اهتمام وسائل الإعلام، وتفرض شروطها في سوق التوزيع، والصغيرة، أو البلدية التي تزدهر عاماً بعد عامٍ في جميع مناطق فرنسا، كيف نحددُ معنى مهرجان سينمائيّ، أو سمعيّ/ بصريّ من وجهة نظرٍ سينمائية، اقتصادية، أو اجتماعية.
يحاول الكتاب الإجابة على هذا السؤال، ويُحيل مفهوم المهرجان إلى حقائق متباينة، ومتناقضة، ويستندُ على نتائج مسحٍ وطنيّ واسع حول المهرجانات الفرنسية بهدف إيجاد تصنيفٍ لها، وفهم العلاقات التي تجمعها مع محيطها السياسيّ، الثقافيّ، والاقتصاديّ(1).
***
يقدم لنا كتاب (مغامرات مهرجاناتيّة، المهرجانات السينمائية، والسمعية/البصرية في فرنسا) إضاءةً ساطعةً عن تساؤلاتٍ تتموقع في قلب الثقافة السينمائية العربية، أو تلك التي تحوم حول أطرافها، حيث يبدو ـ كما الحال مع الكتابة عن السينما ـ انتشار مفاهيم خاطئة عن المُهمّات الإدارية، والفنية التي يشغلها القائمون على المهرجانات السينمائية العربية التي انطلقت، وتطوّرت تقليداً، أو نقلاًُ عن المهرجانات الدولية.
وبدورها، رُبما تصححُ هذه القراءة بعض المعلومات المُرتبكة، وتتحوّل إلى مبادرةٍ لدراسةٍ مُعمّقة، وشاملة، تتطرّق إلى طبيعة المُهمات المُلقاة على عاتق الفاعلين في تنظيمها، إدارتها، وبرمجتها، وذلك بهدف الحيلولة دون تكريس معانٍ مُبهمة، غامضة، وحتى شكلية/وهميّة أحياناً: رئيس، مدير، مدير فنيّ، مُبرمج، متعاون، مستشار، مندوب، منسّق، متطوّع، ساعي أفلام (مُستوحاة من ساعي بريد)، مُقترح، ناقل، ….والقائمة طويلة للخدمات التي يحتاجها أيّ مهرجانٍ سينمائيّ.
ويُعتبر العنصر البشريّ جوهرياً في تحديد الاتجاهات التي تسلكها المهرجانات، ويشير التكوين التعليميّ، والمهنيّ للعاملين فيها إلى روحها، طموحها، ومسيرتها الإيجابية، المُتواصلة، والمُتطورة(أو بالعكس).
وفي قلب الهيئة التنظيمية، هناك وظيفتان على قدرٍ كبير من الأهمية: المسئول الإداريّ، والمسئول الفني.
فيما يخصّ الأول، هو الشخص الذي تقع على عاتقه المسئولية القانونية، والجنائية للتظاهرة، ويُمثلها رسمياً أمام الآخرين، وخاصةً المُمولين، الداعمين، والشركاء.
وفي حالة جمعية أهلية تخضعُ للقانون الفرنسيّ لعام 1901، يتولى هذا الدور غالباً رئيس الهيئة الإدارية.
وتتعلقُ المُلاحظة الأولى التي تفرض نفسها بالجانب الذكوريّ لهذه الوظيفة، حيث 81.6% من
المهرجانات يشغلها رجال، في مقابل 18.4% من النساء (حصيلة دراسةٍ ميدانية لإجابات 126 مهرجان فرنسيّ).
قوانين الجمعيات الفرنسية (والأوروبية بشكلٍ عام) ذات المنفعة العامة، لا تسمح أبداً لمن يتولى هذا المنصب الفخريّ، والتطوعيّ الحصول على أجرٍ ماديّ من أيّ نوع كان، ماعدا المصاريف المُتعلقة مباشرةً بمهماته المُحددة في القانون الداخلي.
ولهذا، يتولى أشخاصٌ آخرون تنفيذ الخطة العامة للهيئة الإدارية المُنتخبة من قبل الأعضاء عن طريق الجمعية العمومية السنوية، ولكن، للأسف، هذا لا يمنع شخصاً ما يفتقد النزاهة من الاحتيال، التلاعب والالتفاف على القوانين، وخاصةً عندما يتعلق الأمر بمهرجانٍ صغير تُنظمه جمعية يقودها زعيمٌ يعرف خبايا القانون، وثغراته، ويُدخل واحداً، أو يُقصيه وُفق مصالحه كي تصبح الهيئة الإدارية مكوّنة من أشخاصٍ إما متضامنين، ومتواطئين، أو جاهلين تماماً بآليات عمل الجمعيات، ولا يتعدى دورهم الشكليّ أكثر من المُوافقة العمياء على التقارير المالية، والأخلاقية السنوية مُكتفين بقليلٍ، أو كثيرٍ من المُميزات المادية، والمعنوية.
ووُفق الدراسة الإحصائية التي أجرتها مؤلفة الكتاب”كريستل تاييّبير”، تتوزع الوظائف التي يشغلها المسئولين الإداريين في حياتهم اليومية وُفق النسبة المئوية التالية:
34.4% يعمل في المجال التعليمي، والتربويّ (وبشكلٍ خاصّ معلمين، ومستشارين تربويين).
27.8% يعمل في قلب الصناعة السينمائية، والسمعية/البصرية (مدراء شركات استثمارية سينمائية، أو سمعية بصرية، عامّة، أو خاصة، سينمائييّن، كتاب سيناريو، منتجين، تقنيين، ….إلخ).
13.3% يشغلون مناصب في الإدارات المحلية، ويعملون لصالح التجمعات الإقليمية.
12.2% يعمل في مجالات التربية الجماهيرية، والتنشيط الاجتماعيّ/الثقافيّ(مسئولين عن مراكز الشباب، والثقافة، المسارح الوطنية، منشطين، مُدربي رياضة، …).
7.8% يعمل في المجال الفني.
3.3% يعمل في مجال الاتصالات.
3.3% طلبة.
2.2% يعمل في المجال الاجتماعي.
2.2% في مرحلة التقاعد.
12.2% يعمل في قطاعاتٍ مختلفة(علم الآثار، البناء المعماريّ، المعارض التشكيلية، الصحافة،
التمريض، الهندسة،….).
وقد تمّ الحصول على هذه النتائج بدراسةٍ ميدانية لإجابات 90 مهرجان فرنسيّ.
وهكذا، يشغل المناصب الإدارية لثلث هذه المهرجانات أشخاصاً من القطاع التربويّ، والتعليميّ، وتعود الأسباب إلى العلاقة الحميمة التي تربطهم مع تاريخ هواة السينما في فرنسا (La cinéphilie).
من جهةٍ أخرى، ترتبط هذه النسبة بالتعليم الجماهيري، وذلك بسبب تطوّر القطاعيّن حول نفس المعركة الجمهورية من أجل العلمانية.
وبنفس الطريقة، يمكن الإشارة بأنّ أكثر من ربع المسئولين الإدارييّن للمهرجانات يعملون لحساب الصناعة السينمائية، والسمعية/البصرية، وبالتحديد شخصياتٍ تمتلكُ خبرةً مُعتبرة بالسينما، وإمكانياتها بالمُساهمة في تزويد المهرجانات باحتياجاتها الأكثر شمولاً .
![]() |
المسئول الإداريّ في المهرجانات العربية
من المُؤكد، بأنّ المُعطيات السابقة لا تنطبقُ كثيراً على المهرجانات السينمائية في الدول العربية (وهنا لا أتحدثُ عن المهرجانات الأوروبية المُهتمّة حصراً بالسينما العربية)، وفيها تتشابك المهمّات، وتصبح أكثر تعقيداً، أكان ذلك في حالة المهرجانات الحكومية، أو الأهلية التابعة بشكلٍ مباشر للمُؤسّسات الرسمية، والمُرتبطة بخطتها العامة.
يشغل المناصب الإدارية للمهرجانات الكبرى أشخاصاً يمارسون وظائفهم وُفق قراراتٍ، وتعييّناتٍ وزارية، كما الحال مثلاً في مهرجان القاهرة، ومهرجان دمشق، ويتشابه الأمر مع أيام قرطاج السينمائية في تونس، حتى وإن تمّ اختيار رئيساً من الوسط السينمائي كما الحال مع المُنتجة “درة بوشوشة” حالياً، والتي تُطعمُ ـ ربما ـ فريق عملها ببعض الأشخاص من خارج العاملين في وزارة الثقافة.
في الكثير من المهرجانات السينمائية العربية، تقترب الحدود بين المسئول الإداريّ، وزميله الفنيّ، وفي بعض الحالات تتلاشى تماماً، وهكذا يشغلُ الناقد السينمائيّ “محمد الأحمد” منصب مدير مهرجان دمشق السينمائي الدولي انطلاقاً من إدارته للمُؤسّسة العامة للسينما، ونتوقعُ بأنه يهتمُ بكلّ الجوانب الإدارية، والفنية بالتعاون مع “رأفت شركس” السكرتير العام للمهرجان، ويحظى الممثل “عزت أبو عوف” برئاسة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، و”د.سهير عبد القادر” المدير التنفيذيّ، بينما يشرفُ الناقد السينمائي “يوسف شريف رزق الله” على الجوانب الفنية.
وفي صيغةٍ أخرى، يتولى الإدارة العامة لمهرجان أبو ظبي السينمائي الدوليّ “عيسى المزروعي” مدير المشاريع لدى هيئة أبو ظبي للثقافة، والتراث، على حين يعتبرُ “بيتر سكارلت” المدير التنفيذيّ، والذي يعنى رُبما بالجوانب الفنية، والإدارية.
بالمُقابل، يمتلكُ مهرجان دبي السينمائي الدولي هيكيليةً تنظيميةً مختلفة، حيث يعتبرُ “عبد الحميد جمعة” رئيساً، و”شيفاني بانديا” المدير الإداريّ/التنفيذيّ، بينما يتولى السينمائي “مسعود أمر الله” مهمة المدير الفني، ويحتفظ الثلاثة بنفس الوظائف في مهرجان الخليج السينمائي في دبي ماعدا أنّ “مسعود أمر الله” يصبح مديراً يهتمّ بالجوانب الإدارية، والفنية.
وتشابه الصفة الوظيفية لكلٍ من “بيتر سكارليت” في أبو ظبي، و”شيفاني بانديا” في دبي لا تعني بأنهما يُنجزا نفس المهمات في المهرجانيّن.
وفيما يتعلقُ بالمهرجانات السينمائية العربية التي تُنظمّها الجمعيات الأهلية، كما الحال في المغرب مثلاً، والمُستوحاة من التجربة الأوروبية، أعتقد بأنّ الجوانب الإداريّة، والفنية تتداخل في مهمات القائمين عليها، ويبدو أكثر بأنّ مدير المهرجان (بالتعاون مع آخرين) يشرفُ على كلّ الجوانب الخاصة بالتظاهرة.
وعلى حدّ علمي، لا يوجد دراسةً بحثيةً حول المهرجانات السينمائية في الوطن العربي، وهو السبب الذي يجعلنا هواة، ومحترفين نجهلُ طبيعة الوظائف الفعلية التي يتولاها القائمون عليها.
وعلى الرغم من وجهات النظر المُتسرّعة التي يُطلقها بعض النقاد “العارفين بكلّ شيء” حول المهرجانات الخليجية، أجد بأنّ الفضل يعود لها في تأسيس تقاليد مهرجاناتيّة، وهي التي أدخلت على سبيل المثال مفهوم المُبرمج في هيكليتها التنظيمية (الدورة الثانية لمهرجان الشاشة العربية المُستقلة في الدوحة عام 2001، ومن ثمّ مسابقة أفلام من الإمارات في أبو ظبي منذ 2001 حتى دورتها السادسة، تبعها كلّ المهرجانات الكبرى في دبي، أبو ظبي، والدوحة).
![]() |
الاحمد ابوعوف |
بينما لم يستفيد أيّ مهرجانٍ عربيّ آخر من هذه المهمّة الجديدة التي تعتمدُ عليها معظم المهرجانات الأجنبية، وحتى التظاهرات السينمائية الموسمية التي تُنظمها مؤسّسات أخرى، مثل المراكز الثقافية الوطنية الكبرى”مركز جورج بومبيدو في باريس”، السينماتيك، والمتاحف،…
وأكثر ما فعلته المهرجانات السينمائية العربية اعتمادها على مندوبين، مراسلين، أو متعاونين ينجزون بعض الاتصالات الإدارية مع المخرجين، أو شركات الإنتاج.
هوامش:
(1)ـ كريستل تاييّبير، مغامراتُ مهرجاناتيّة، المهرجانات السينمائية، والسمعية/البصرية في فرنسا، باريس، دار نشر “لارماتان”، 2009.